تُمثِّل الاستدامة التَّعليميَّة اليوم مرحلة متقدِّمة في بناء نموذج تعليمي رائد يصنع القوَّة والكفاءة، ويؤسِّس من رحم التغيير المنتج خيوط اتِّصال ممتدَّة تنعكس على كفاءة وجاهزيَّة الرأسمال البَشَري الاجتماعي وقدرته على بناء تعلُّم نشطٍ متفاعل يستوعب الأحداث ويتفاعل مع المستجدَّات، ويتميَّز بخصوصيَّته المُعبِّرة عن الهُوِيَّة العُمانيَّة، ويسعى لإعادة إنتاج الفكر والثقافة والمعرفة وحُسن توجيهها، وإدارة طرائقها وفق مواصفات الجودة والابتكار والتجديد، بما يُعزِّز قدرتها على التفوُّق ورسم خريطة التميُّز في المُجتمع، واقترابها من احتياج الإنسان بالشكل الَّذي يضْمَن لها استمراريَّة في العطاء وقدرة على المواجهة، وثبات وصلابة في التَّعامل مع موجات التغيير والمنافسة العالَميَّة. إنَّ المُعلِّمين وبما يُمثِّلونه من ثقل تنموي وحضور في العقل الاستراتيجي البَشَري الجمعي في الجهاز الإداري للدَّولة، تقع عَلَيْهم مسؤوليَّة توظيف هذه الفرص وإعادة إنتاجها في أجيال عُمان المستقبل، وما يمتلكونه من جوهر المبادئ والقِيَم وضمير الإنسان وأخلاقيَّات التَّنمية ونهج الوطن، سوف يحفظ للتَّنمية مبادئها وحدودها وقِيَمها وكفاءتها عَبْرَ ما يقدِّمونه من مبادرات ويحافظون عَلَيْه من ثوابت ويرسِّخونه من وعي في أبناء التَّنمية.
عَلَيْه كان حضور المُعلِّمين في تحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040» نابعًا من اتِّساع الدَّوْر المعقود على التَّعليم في بناء «مُجتمع إنسانه مبدع معتزّ بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام» وتحقيق أولويَّة «التَّعليم والتعلُّم والبحث العلمي والقدرات الوطنيَّة» ومن بَيْنَ أهدافها «كفاءات وطنيَّة ذات قدرات ومهارات ديناميكيَّــة منافسة محليًّــا وعالَميًّــا» وعَبْرَ مسارات واضحة ومنهجيَّات تفاعليَّة متناغمة يقوم عَلَيْها التَّعليم بعناصره المختلفة وأوَّلها المُعلِّم في بناء المتعلِّم فكريًّا ومهاريًّا وعاطفيًّا وقِيَميًّا، وإعادة إنتاج الواقع، وتأصيل القِيَم، وترسيخ الهُوِيَّة، وتعظيم القدرات، وبناء المهارات، وصناعة النَّماذج والقدوات، وتأسيس الوعي، وصون المكتسبات، واحترام القانون والالتزام به، حضور الممارسة والفعل، والسلوك والقدوة، والإخلاص والمهنيَّة، والقوَّة والعطاء، والوعي والمسؤوليَّة، والنُّمو الفكري والجِديَّة والإنتاجيَّة، أثَره في تحقيق الاستدامة في التَّنمية ومشاركتهم في بناء أرضيَّاتها الَّتي لا يُمكِن أن تصنعَها مؤسَّسات التَّعليم بِدُونِ المُعلِّم الواعي المخلِص، وعِنْدما يؤسِّس المُعلِّمون في الطلبة مسارات الوعي ومَعين القِيَم وينابيع الأخلاق وحسَّ المسؤوليَّة والهُوِيَّة الوطنيَّة والعمل التطوُّعي والخيريَّة والتَّكافل والتَّعاون، كما يؤسِّسون فيهم مفاهيم اللامركزيَّة والحوكمة، وقياس الأداء، والنَّزاهة والرّقابة، والشفافيَّة، والمحاسبيَّة، وغيرها من جملة المبادئ وأخلاقيَّات العمل الَّتي أطَّرتها رؤية «عُمان 2040» بأسلوب مبسَّط وواضح، ولُغة حواريَّة وتواصليَّة جاذبة، فإنَّ قدرة هذه الموارد والمفاهيم على إنتاج الواقع أوضح وأنشط.
لقَدْ جادت رؤية «عُمان 2040» بالكثير من الموجِّهات الَّتي تضع الاستدامة طريق بناء عُمان المستقبل، وهي موجِّهات، جعلت من قدرة التَّعليم على إعادة إنتاج الواقع وتصحيح الممارسة، وتعزيز مفهوم الاستثمار الأمثل للرأسمال البَشَري الاجتماعي وبناء القدرات، وترسيخ القِيَم والثَّوابت محرِّكات أساسيَّة تصنع من الاستدامة مسار الأمان للتَّنمية، لِيصبحَ خيار الاستدامة؛ باعتباره الحلقة الأقوى في ميدان المنافسة التَّعليميَّة، فتحقيق التوازن الاقتصادي وتأكيد مسارات التنويع باعتبارها خيارًا استراتيجيًّا لا يُمكِن الحياد عَنْه، ينطلق من مفهوم أعمق للاستدامة القائمة على ابتكاريَّة التَّنمية وسلاستها وانسيابيَّتها، متجاوزًا في ذلك كُلِّ الشكليَّات وعوامل الهدر والفاقد النَّاتج من الممارسة المتكررة، وبالتَّالي ما يعنيه ذلك من العمل المبتكر، والجهد المنظَّم، والأداء النَّوْعي، والتوافقيَّة والانسجام في توظيف القِيَم والمهارات والاستعدادات الَّتي يؤصِّلها التَّعليم في سلوك المتعلِّمين وإدماجهم في برامج التَّنمية والتَّطوير، وتعظيم حضورهم في صناعة مستقبل عُمان ورؤيتها الطموحة، واستحضار الأجيال القادمة في كُلِّ التوجُّهات السَّاعية لبناء القدرات الوطنيَّة والتَّثمير في الموارد وإعادة هيكلة الفرص والثروات.
وجاء قانون التَّعليم المدرسي الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (31/2023) تجسيدًا عمليًّا لتحقيقِ المستهدفات التَّعليميَّة لرؤية «عُمان 2040» في مختلف الجوانب، ومِنْها ما يتعلق بعمل المُعلِّم والهيئات التَّعليميَّة، حيث أفرد القانون فصلًا كاملًا تحت عنوان «أعضاء الهيئة التَّعليميَّة» تناولت فيه العديد من المواد المرتبطة بمعايير الإعداد والتَّراخيص المهنيَّة وحقوق وواجبات أعضاء الهيئة التَّعليميَّة بما يضْمَن الحفاظ على درجة التوازنات في السلوك التَّعليمي والنَّوْعيَّة والجودة في أداء المُعلِّم في ظلِّ بيئة تعليميَّة تحفظ له حقوقه ومستويات الحافز والإيجابيَّة والتَّفاعليَّة والشَّراكة وتعظِّم دَوْره في إطار من المسؤوليَّة والاعتراف بما يقدِّمه في سبيل بناء الأوطان وصناعة الأجيال، فقَدْ جاء في المادَّة (4) مِنْه «التَّعليم مهنة سامية، وعلى جميع أفراد المُجتمع ومؤسَّساته المساهمة في حفظ مكانة المُعلِّم وتعزيزها» والمادَّة (53) «لأعضاء الهيئة التَّعليميَّة مكانة مهنيَّة مصونة يمنع النَّيْل مِنْها بالقدح أو التَّشهير بها» والمادَّة (57) «يلتزم أعضاء الهيئة التَّعليميَّة بكُلِّ ما يكفل الحفاظ على مكانة وظيفتهم، والسُّمو بمهنة التَّعليم»، موجِّهات أمان في الحديث عن جمعية المُعلِّمين والتربويِّين العُمانيِّين، ومدخلًا مُهِمًّا في تعظيم دَوْر المُعلِّم والتَّربوي في تحقيق الاستدامة لرؤية «عُمان 2040»، ورفع سقف التوقُّعات الوطنيَّة والمُجتمعيَّة من المُعلِّم في ظلِّ متغيِّرات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وفكريَّة وثقافيَّة باتَتْ تؤثِّر على النَّاشئة، وتؤكِّد على أهمِّية دَوْر المُعلِّم في تأصيل المواطنة والهُوِيَّة والقِيَم والثَّوابت، وبناء المهارة ورعاية الموهبة واحتواء القدرات وصناعة القدوات، من خلال منظومة الصلاحيَّات والحوافز والممكّنات والحماية الَّتي تُتيح للمُعلِّم فرص التَّعبير عن رأيهِ وإبداء وجهات نظره بكُلِّ حياديَّة وموضوعيَّة ومهنيَّة، ومشاركته الفاعلة في منظومة العمل الوطني، وما يرتبط به أيضًا من الدِّفاع عن حقوق المُعلِّمين وتحقيق تظلُّماتهم وفق القوانين النَّافذة في هذا الجانب، ويفرض حضورًا استثنائيًّا للمُعلِّم ينطلق مِنْه في ميادين البناء والتَّطوير والتَّشريع والتَّنفيذ والمراجعة والتَّقييم، والإصلاح.
لقَدْ عزَّز هدف الأولويَّة التَّعليميَّة في رؤية عُمان 2040 «نظام متكامل ومستقل؛ لحوكمة المنظومة التَّعليميَّة وتقييمها وفق المعايير الوطنيَّة والعالمية» من سعي قانون التَّعليم المدرسي نَحْوَ تأسيس مسار حوكمة النِّظام التَّعليمي وتعظيم قياس منظومة الأداء المؤسَّسي، وتطوير البنية التَّشريعيَّة والتَّنظيميَّة والأدائيَّة الَّتي تكفل للمُعلِّم العمل في بيئة تعليميَّة تربويَّة ناضجة وداعمة للإبداع والمشاركة والمبادرة، ومحفِّزة للعطاء والإنتاجيَّة في سبيل رفع كفاءة الأداء، وما يوفِّره القانون من أُطُر وموجِّهات تستشرف مستقبل التَّعليم المدرسي والمدارس، من خلال ضبط وتقنين مسار الخطَّة الدراسيَّة للتَّعليم المدرسي، والتَّنويع في مسارات التَّعليم التّقني والمهني، والانضباط المدرسي والسلوك الطلابي وحقوق المُعلِّمين وواجباتهم وحقوق الطلبة والبحث التَّربوي وتقويم أداء المدارس وتحسينه وضمان البدء الجادِّ في تحقيق الطموح الوطني نَحْوَ إعادة إنتاج وهيكلة وصياغة متكاملة لنظام التَّعليم وحوكمة مؤسَّساته، وجملة الالتزامات والمسؤوليَّات الَّتي تقع على عاتق المُعلِّمين والتَّربويِّين كأهمِّ أقطاب المنظومة التَّعليميَّة بسلطنة عُمان في تنفيذ مبادرات الرؤية ومستهدفاتها التَّنمويَّة والتَّشريعيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، ما يُعزِّز في المُعلِّم روح التَّغيير وتحقيق مقتضيات المادَّة (58) من القانون «على أعضاء الهيئة التَّعليميَّة تطبيق أفضل الممارسات والمبادئ التَّعليميَّة وتوفير البيئة المحفِّزة للتَّعلُّم النَّشط، بما يُحقِّق المعايير التَّربويَّة وجودة التَّعلم».
وعَلَيْه فإنَّ الوصول إلى تحقيق تمكين المُعلِّمين من صناعة الاستدامة في نواتج الرؤية ومستهدفاتها التَّعليميَّة، يستدعي اليوم أهمِّية البحث في آليَّات دعم ومساندة المُعلِّم في أداء أدواره بكفاءة وإتقان، وتوفير البيئة التَّعليميَّة والأدائيَّة المناسبة الَّتي تبني فيه روح التَّغيير وحسَّ المسؤوليَّة وترفع لدَيْه سقف التوقُّعات بالإنجاز، وعِنْدما تتحقق مسارات التَّوازن في أداء المُعلِّم بَيْنَ تأكيد الدَّعم والمساندة والمراجعة لأدواره وصلاحيَّاته ومسؤوليَّاته وتقديم المحفِّزات المادِّيَّة والمعنويَّة له باعتبارها حقًّا وظيفيًّا للمُعلِّم بفعل القانون، وبَيْنَ تطبيق مبادئ النَّزاهة والمحاسبيَّة والمساءلة وفق الشروط والضوابط، فإنَّ النَّاتج المتوقًّع سيكُونُ أكثر إلهامًا للمُعلِّم وتمكينًا له لمنح التَّنمية الوطنيَّة قِيَم الابتكاريَّة وروح التجديد وفرص التحوُّل، وضمان أنَّ الجهود الماليَّة والتَّحفيزيَّة والتَّشريعيَّة والتَّنظيميَّة المقدَّمة للمُعلِّم كاستحقاق وجوبي له، تتَّسم بالتنوُّع والاحترافيَّة والنَّوْعيَّة والواقعيَّة والتَّحوُّل والقوَّة والمهنيَّة والحدس بالتوقُّعات وتُعزِّز من مكانة المُجتمع في صناعة التَّغيير وإدارة التحوُّلات الفكريَّة والنَّفْسيَّة الَّتي يواجهها النَّاشئة في عالَم تعصف به الأحداث وتُديره الفضاءات الاجتماعيَّة المفتوحة، وتواجه فيه القِيَم والأخلاق والمبادئ والثَّوابت حملات منظَّمة من التَّشويه والتَّغريب.
أخيرًا، فإنَّ الاحتفال بـ»يوم المُعلِّم العُماني ـ الرابع والعشرين من فبراير» يضعنا أمام قراءة جادَّة تستشرف مستقبل التَّعليم في سلطنة عُمان، وامتلاك إجابات قادمة لتساؤلات تطرح في عُمق قضيَّة المُعلِّم، ماذا نريد من المُعلِّم العُماني؟ وكيف نريده؟ وكيف نصنع مِنْه قِيَمة مضافة في منجز التَّنمية الوطنيَّة القادم؟ إنَّ الثِّقة بقدرة المُعلِّم على منح التَّنمية الوطنيَّة ورؤية «عُمان 2040» الاستدامة والقوَّة والحياة والإنتاجيَّة وتوفير الممكّنات اللازمة لذلك، سوف يصنع الفارق، ويضْمَن منافسة في أدائه تضعه أمام مسؤوليَّة البحث بجدارة في كيفيَّة الوصول بهذه الثِّقة إلى صناعة نماذج على الأرض تفوق التوقُّعات واستحقاقات وجوبيَّة تُعبِّر عمَّا يُشكِّله المُعلِّمون من هاجس وطني وقِيمة مضافة في كيانات المُجتمع واستقراره الأمني والفكري والاجتماعي ونهوضه الاقتصادي. إنَّ المأمول اليوم ونحن نحتفل بيوم المُعلِّم العُماني أن نعيدَ قراءة ملف الباحثين عن عمل، وعَبْرَ مزيدٍ من الاحتواء للمُعلِّمين العُمانيِّين الباحثين عن عمل من مخرجات التَّعليم العالي واستيعابهم في مدارس وزارة التَّربية والتَّعليم في ظلِّ ما باتَ يُشكِّله هذا الملف من تحدٍّ لتحقيقِ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» التَّعليميَّة، والحدّ ِمن مسار العقود المؤقَّتة ومحدود المدَّة الَّتي باتَتْ لا تُحقِّق طموحات المُعلِّم العُماني ولا تُسهم في تحقيق الغايات الوطنيَّة والأهداف الطموحة في المُعلِّم الَّذي نريد.
د.رجب بن علي العويسي