مع القناعة بما تُشكِّله عادة التسوُّل من مخاطر وتداعيات على الفرد والمُجتمع والتَّنمية الوطنيَّة، في ظلِّ إنتاجها لشخصٍ خاملٍ متقاعس متواكل، متمارضٍ فكريًّا ونَفْسيًّا وجسديًّا، غير معتمِد على نَفْسه، ينتظر من غيره لقمة العيش والمعونة، ويسقط على نَفْسه حالة الوهَن والضَّعف والمرَض في تصوير حالته أمام الآخرين بعدم استطاعته على سدِّ احتياجاته وقُوتِ يومه، في تعطيل للقدرات والاستعدادات والمواهب الَّتي أودعها الله في هذا الإنسان وميَّزه بها عن غيره من المخلوقات وأمرَه بالبحث والسَّعي في الأرض وكسبِ الرِّزق الحلال، ومخاطر أخرى كثيرة لا يتَّسع المقال لذكره. ولمَّا كان من بَيْنِ مرتكزات «رؤية عُمان 2040» «مُجتمع إنسانه مُبدع معتزٌّ بهُوِيَّته، مُبتكِر ومنافِس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام»؛ فإنَّ تحقُّقَ هذه الصورة النموذج بحاجة إلى التوازنات في بناء الإنسان جسديًّا وعقليًّا وروحيًّا، بحيث يمتلك المهارات والاستعدادات الملكات النَّفْسيَّة والفكريَّة الَّتي يوظِّفها في خدمة نَفْسه ومُجتمعه، فيوقظ روح الإبداع لدَيْه، ويشحذ همَّة العطاء والإنتاجيَّة فيه، ويسمُو بفِكره، ويحترم إنسانيَّته، ويرقى بمكانته، يصنع بصمة حضور له في واقعه، ويؤسِّس لمسارٍ واضح له في مستقبل حياته.. وأنَّى للمتسوِّل أن يحقِّقَ ذلك وهو الَّذي يرتضي بمهانة العطيَّة، وذُلِّ السُّؤال؟
لقَدْ أشار التَّقرير السَّنوي لوزارة التَّنمية الاجتماعيَّة لعام 2022 إلى أنَّ عدد حالات التسوُّل المضبوطة للعُمانيِّين بلغت (188) حالة، وفي تقرير أخير نشرته الوزارة على منصَّة (X) حتَّى نهاية الرُّبع الثالث من عام 2023 أظهرت فيه تنفيذ (1699) حملة لمكافحة التسوُّل موزَّعة على بعض محافظات سلطنة عُمان الَّتي يتوافر بها فريق مكافحة التسوُّل، وأشارت إلى أنَّ عدد المضبوطين بلغ (139) حالة، توزَّعت إجراءات التَّعامل معها بَيْنَ: إخلاء تعهُّد لـ(116) حالة، و(14) حالة تمَّ إحالتها لشُرطة عُمان السُّلطانيَّة لاتِّخاذ الإجراءات القانونيَّة، و(9) حالات تمَّ إحالتها للبحث الاجتماعي، وبالتَّالي تُبرز هذه المؤشِّرات ارتفاع أعداد المتسوِّلين، ما يؤكِّد أهمِّية الاستمرار في هذه الجهود وتعزيزها بالأدوات والأساليب والبرامج التوعوية والتثقيفية والتوجيهية والضبطية الداعمة في سبيل الحدِّ من انتشار هذه الظاهرة. كما قَدْ يُجيب انتشار هذه العادة بَيْنَ العُمانيِّين عن التكهُّنات والقناعات الَّتي تتَّجه بأنَّ ممارسة عادة التسوُّل إنَّما هي من الوافدين الَّذين دخلوا سلطنة عُمان بطُرق مشروعة ودُونَ أن يكُونَ لدَيْهم عمل، أو أنَّهم من العمالة السَّائبة الَّتي باتَتْ تبحث عن أسرع مكاسب الرِّزق والحصول على المال وعَبْرَ التسوُّل والاحتيال أو ممارسة الدَّعارة وغيرها من الممارسات المُنافية للآداب والأخلاق العامَّة. ومع اليقين أيضًا بأنَّ واقع المشاهدات اليوميَّة للمتسوِّلين والَّذين يستعطفون النَّاس في المساجد وأمام البنوك أو في الأسواق التجاريَّة والأماكن العامَّة، هُمْ من الوافدين الَّذين يفوق عددُهم إحصائيَّات المضبوطين من العُمانيِّين، لِتؤكِّدَ هذه التراكميَّة في أعداد المتسوِّلين حجْم الخطَر الَّذي باتَتْ تُمثِّله ظاهرة التسوُّل على المُجتمع والتَّنمية الوطنيَّة وتداعياتها على الأمن والسِّلم الاجتماعي.
من هنا ومع التَّأكيد على أنَّ هذه المؤشِّرات كفيلة برفع درجة الخطَر، عَلَيْه تأتي أهمِّية تفعيل الشَّراكة المؤسَّسيَّة والمُجتمعيَّة في التَّعامل مع ظاهرة التسوُّل وعَبْرَ إشراك المواطن والمُقِيم في مكافحة انتشار هذه الظاهرة، فإنَّ ما يظهر من حالة الاستعطاف والموقف الَّذي يظهر به المتسوِّل وبشكلٍ خاصٍّ في المساجد باتَ يُثير حالة من العطف والرَّحمة والشَّفقة لدى الكثير من المُصلِّين، هل بإعطاء المتسوِّل مبلغًا من المال؟ أم الامتناع لِيتَّجهَ أكثر الحالات إلى منْحِهم المال ولو باليسير والقليل مِنْه؟ «إنَّ القليل بالقليل يكثر»، هذه الحالة المتكرِّرة والمُحرِجة الَّتي يعايشها المُجتمع بشكلٍ يومي تؤكِّد الحاجة إلى وضع المواطن في الصورة، وعَبْرَ توفير البيانات والمعلومات من خلال وسائل الإعلام المختلفة والرسائل النَّصيَّة وغيرها، الَّتي توضِّح للمواطن صوَر وأشكال وطُرق التسوُّل في المُجتمع، وأنَّ ما يقوم به هؤلاء ليس من حاجة بقدر ما هو فرصة للكسْبِ السَّريع واستغلال لعواطف النَّاس، واستجداء تعاطف المُجتمع مع هذه الفئة، وإثبات ذلك بالبيانات والإحصائيَّات. وما تمَّ الكشف عَنْه من خلال حملات المتابعة والمراقبة والمكافحة الَّتي تمَّ تنفيذها، ونماذج واقعيَّة ممَّا يمتلكه هؤلاء، والأسباب الَّتي دفعتهم لذلك؛ فإنَّ من شأن هذه الشفافيَّة والوضوح وتوفير المعلومات أن تضعَ المواطن والمُقِيم في الصورة، وأن تُعزِّزَ فيه صلابة الموقف وضبط السلوك وتقلِّلَ من مساحة الاجتهاديَّة والاستعطاف الَّتي تتولَّد لدَيْه نَحْوَ هذه الفئة.
إنَّ انتشار ظاهرة التسوُّل وغيرها من الظواهر المُجتمعيَّة الَّتي ترتبط بشكلٍ كبير بالاستجداء للمال وطلب المعونة، تؤكِّد الحاجة إلى إعادة بناء مسار البحث الاجتماعي؛ إذ إنَّ اتِّساع انتشار هذه الظاهرة بَيْنَ المواطنين خصوصًا يعكس في تقديرنا حالة الفجوة في مسار البحث الاجتماعي، وآليَّاته وطُرق التَّعامل مع هذه الحالات وسرعة البتِّ فيها، وعدم فتح المجال للتَّشكيك في الجهود الوطنيَّة المقدَّمة في هذا الشَّأن. وعلى الرغم من أنَّ المؤشِّرات الَّتي أوردها التَّقرير السَّابق تشير إلى أنَّ عدد الحالات الَّتي تمَّ إحالتها للبحث الاجتماعي بلغت (9) حالات فقط؛ إلَّا أنَّها تقدِّم دليلًا على أهمِّية مراجعة هذا المسار، وأن تنتهجَ آليَّات العمل القادمة مرتكزات واضحة في تعزيز مسار البحث الاجتماعي الوقائي القائم على تعظيم الاستباقيَّة ودراسات الحالة التتبعيَّة والرَّصد المباشر للحالات وتفعيل إجراءات التَّعامل الفَوري مع الحالات الَّتي يرصدها فريق المكافحة أو عَبْرَ تحليل البيانات الَّتي ترد إلى مركز الاتِّصال لمكافحة التسوُّل بالوزارة.
على أنَّ ما يرصده واقعنا الاجتماعي في ظلِّ مشاهداتنا المتكرِّرة في مناطق عديدة بمحافظة مسقط، لطفلٍ أو امرأة وطفلها تبيع «عبوات الماء» في وقت الظهيرة وتفترش الأرض تحت حرارة الشمس وأمام العامَّة، يضعنا هذا الموقف أمام جملة من القناعات والتساؤلات، فمثلًا: أين وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة من هذا الأمْرِ؟ ولماذا لَمْ يتمَّ اتِّخاذ أيِّ إجراء بالدَّعم والمسانَدة لهذه الأُمِّ وطفلها؟ لا شكَّ بأنَّ وجودها في ذلك الموقف الصَّعب، إنَّما ـ في تقديرنا الشَّخصي ـ يعَبِّر عن حيائها الَّذي يمنعُها من سؤال النَّاس وذُلِّ الحاجة، لذلك تأتي أهمِّية الوقوف على هذه الحالات ودراسة هذه المواقف، وأن تنشطَ الجهود في تتبُّع هذه الحالات؛ إذ يُمثِّل هذا الموقف تحدِّيًا للكثير من هذه الحالات الَّتي لَمْ تستطع الصَّبر على تحمُّل تبعات هذا الموقف، لِيتَّجهَ البعض إلى أسهل الخيارات وأكثرها حصولًا على المال بدُونِ عرق جبَيْنٍ وكَدِّ يمين ألَا وهو «التسوُّل»؟
ومع اتِّساع الفضاءات المفتوحة وتأثيرها وارتباطها بتفاصيل حياة الإنسان يُمثِّل التسوُّل الإلكتروني عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة إحدى طُرق الاحتيال الإلكتروني الَّتي يجِبُ أن يكُونَ لها حضور في حمَلات التَّوعية الَّتي تُنفِّذها الوزارة مع المؤسَّسات الأخرى وبشعار «التسوُّل يوقف عِنْدك»، فإنَّ المنصَّات الاجتماعيَّة باتَتِ اليوم من أكثر البيئات المروِّجة للتسوُّل، وأكثر التحدِّيات الَّتي يواجهها المُجتمع اليوم ويتعرَّض فيها للكثير من المشكلات الَّتي قَدْ تصل إلى السّجن والغرامة، إنَّما تلك الَّتي تأتي عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة، فبسبب استجابة الفرد لمساعدة هذا المتسوِّل أو وقوفه معه حتَّى ولو بمبلغ بسيط، كانت النتيجة كارثيَّة بأن يتعرَّضَ مَن يقدِّم المساعدة للابتزاز والاحتيال، ما يؤكِّد الحاجة لأن تستوعبَ هذه الحمَلات موضوع التسوُّل الإلكتروني في ظلِّ ما تفصح عَنْه الجرائم الاقتصاديَّة لعام 2022 من تصدُّرها لِتصنيفِ الجرائم في سلطنة عُمان بنسبة (30%) والَّتي يُشكِّل الاحتيال الإلكتروني والتسوُّل (98%).
أخيرًا، ومع استمرار مشاهد التوسُّل وضرائب الاستجداء الَّتي قلَّما تغيب عن أعْيُننا إلَّا قليلًا، تبقى ظاهرة التسوُّل الَّتي وجدت لها فرصة سانحة للظهور في واقعنا الاجتماعي، مؤشِّر عمل بالحاجة إلى إعادة قراءة السلوك الاجتماعي العامِّ بأدوات وأساليب أكثر مهنيَّة واحترافيَّة، تأخذ بمبدأ تفعيل الشَّراكة، وتعميق مسار التَّقنين والضبطيَّة، ولكنَّها تؤمن أكثر بحاجة هذا الإنسان للاحتواء، وإخراجه من دائرة التسوُّل ـ النَّاتجة عن العوَز وضيق الحال وإلحاح الحاجة، أو رفع درجة الارتقاء بذاته وترقية ممارساته والارتفاع بالنَّفْس عن ذُلِّ السُّؤال وغياب الحياء في الحصول على الكسْبِ السَّريع بِدُونِ جهد أو اجتهاد ـ، عَبْرَ تبسيط الإجراءات، وفتح آفاق التشغيل له، وتشجيعه على العمل الحُر وخلق روح التَّغيير الذَّاتي لدَيْه بالاستفادة من مهاراته وتعظيم الاستثمار في قدراته.. فهل ستنشط الجهود لِتتَّجهَ بوصلة الاهتمام إلى قراءة المواطن: ظروفه وقضاياه وضغوطه، ورفع سقف التفاؤليَّة والإيجابيَّة لدَيْه، فيستشعر النِّعم والفرص بروح رضيَّة، ويحصل على الاستحقاق وجوبًا في وطن أحبَّه ويُحبُّه؟
د.رجب بن علي العويسي