بصرف النظر عن الدور الذي تلعبه الدول الغربية والعربية معاً في التصاعد الحالي للتوترات في المنطقة، يبدو أن الساحة الفلسطينية تتجه نحو مفاهيم جديدة للقيادة والمقاومة، فعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية كانت الهيئة الرسمية المعترف بها دولياً لتمثيل الشعب الفلسطيني، إلا أنها بدت بعيدة عن أن تكون الصوت الفعّال الذي يعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني، والذي يقدم له الحماية والدعم في مواجهة التحديات القائمة.
فيما بدا حركة “حماس”، تتحول إلى المحور الرئيسي للمقاومة والممانعة ضد الاحتلال الصهيوني، وباختيار طريق الصمود والمقاومة، بدلًا من السعي للتسوية والتفاوض السلمي كما تقدمه السلطة الفلسطينية، فإن غزة تتحمل عواقب عقوبة شديدة على هذا الاختيار.
بالتالي، إن ما يحدث في قطاع غزة ليس مجرد تصعيد في الصراع الصهيوني الفلسطيني، بل هو أيضاً عملية تحويلية في الديناميات السياسية والاجتماعية داخل الفلسطينية نفسها.
ومن المعروف أنه تمت الموافقة بالإجماع من قبل الحكومة الصهيونية على قرار يرفض تماماً “الإملاءات” التي يطرحها المجتمع الدولي بشأن تسوية الصراع مع الفلسطينيين وإمكانية الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، وتؤكد الوثيقة التي تمت الموافقة عليها أن “أي تسوية محتملة، في حال تحققت، لن تتم إلا من خلال مفاوضات مباشرة بين الأطراف المعنية، دون وجود أي شروط مسبقة”، وخلال عرض مشروع القرار أمام مجلس الوزراء الصهيوني، أكد بنيامين نتنياهو أن هذه الخطوة تأتي “تحت ضغوطات من المحادثات الدولية الأخيرة التي تسعى لفرض الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية على (إسرائيل)”.
وتم اتخاذ القرار بناءً على تقديرات استخبارية تشير إلى وجود تهديد جدي من قبل الجيش الصهيوني لشن هجوم واسع النطاق على مدينة رفح في قطاع غزة، وجدير بالذكر أن رفح تقع في الجزء الجنوبي من القطاع على الحدود مع مصر، وهي تعتبر اليوم آخر معقل لحركة حماس في المنطقة، يقدر عدد سكان رفح بأكثر من 1.4 مليون فلسطيني، من إجمالي عدد السكان البالغ 2.1 مليون نسمة في قطاع غزة، حيث وجدوا المدينة ملاذاً بسبب الهجمات العسكرية الصهيونية في مناطق أخرى من القطاع.
بالتالي، يرى المجتمع الدولي، بما في ذلك حلفاء الكيان الصهيوني، أن الخطط المتعلقة بمهاجمة آخر مدينة متماسكة في غزة قد تكون مدمرة، ومن المحتمل أن تؤدي عملية عسكرية جديدة في المستقبل إلى تهجير الفلسطينيين من القطاع، مما قد يتسبب في كارثة إنسانية جديدة ويعرقل جهود إقامة دولة فلسطينية مستقلة بالكامل.
وبالإضافة إلى الآثار المباشرة على الفلسطينيين في قطاع غزة، يمكن أن تتسبب التحركات الصهيونية في ضرر كبير لمصر أيضاً، ففي حال وقوع هجوم من قبل جيش الدفاع الصهيوني على مدينة رفح، سيجد الفلسطينيون أنفسهم عالقين في شبه جزيرة سيناء، وهو ما ينذر بأزمة إنسانية كبيرة، ومع ذلك، فإن القاهرة لا ترحب بفكرة هذا السيناريو، فالجمهورية المصرية تعاني بالفعل من العديد من التحديات الداخلية، بما في ذلك الانفجار السكاني، والديون الخارجية الكبيرة، والتباطؤ الاقتصادي، ونقص الموارد الأساسية مثل المياه والغذاء، ومن المحتمل أن يزيد ظهور أكثر من مليون لاجئ فلسطيني من تفاقم هذه الأزمات ويضعف الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في مصر.
وجدير بالذكر أنه في السابق، قدمت الولايات المتحدة عرضاً لمصر يتضمن قبول الفلسطينيين من قطاع غزة مقابل تخفيف الديون وزيادة الاستثمارات في البلاد، ومع ذلك، تدرك القاهرة أن وجود مخيمات للاجئين الفلسطينيين على الأراضي المصرية قد يجعلها هدفاً للعمليات العسكرية المستقبلية بين الحركات الفلسطينية والكيان الصهيوني، وبالإضافة إلى ذلك، تذكر السلطات المصرية جيداً أن حركة حماس كانت في الماضي جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين، مما يجعل نقل سكان غزة إلى الجنوب غير مربح بالنسبة لمصر، ونتيجة لهذه الأسباب، قامت القاهرة بنشر جيشها في سيناء، وفي هذا السياق، يبدو أنه من المحتمل حدوث مشهد مأساوي، حيث ستقوم قوات الدفاع الصهيونية بطرد الفلسطينيين من الشمال، بينما ستمنعهم القوات المسلحة المصرية من الجنوب، مما يجعل الفلسطينيين بين المطرقة والسندان.
بالتالي، تواجه مصر تحديات كبيرة في هذا السياق، حيث يمكن أن يكون اتخاذ أي قرار خياراً محفوفاً بالمخاطر، فإذا ما سمحت للاجئين بالدخول إلى سيناء، فسيعتبر ذلك بمثابة تورط في صفقة مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، من وجهة نظر الرأي العام العربي، وإذا اضطرت لإغلاق الحدود بالقوة، فسيتم نشر الصور والفيديوهات التي تظهر العمليات العسكرية المصرية في وسائل الإعلام، مما قد يؤثر سلباً على سمعة القاهرة، وبالتالي، يبدو أن الوضع يتطلب حلاً تفاوضياً مع الكيان الصهيوني لتجنب حدوث عملية عسكرية في رفح، ومع ذلك، تبقى المعضلة الرئيسية تحت سيطرة حكومة اليمين في الكيان الصهيوني، حيث أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن نيته مواصلة العمليات ضد حركة حماس بشكل مكثف، وأشار إلى أنه لا يزال ملتزماً بإنهاء الصراع، ويأتي هذا التصعيد في إطار القرار الصهيوني الأخير برفض الاعتراف الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية، مما أثار انتقادات واسعة من المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، ومع اقتراب موعد بدء شهر رمضان المبارك، الذي يبدأ في 11 مارس/آذار، فإن الضغوط تتزايد على الجميع لإيجاد حلول دبلوماسية قبل تفاقم الأزمة.
بالتالي، يظهر القرار الذي اتخذه بنيامين نتنياهو برفض الاعتراف الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية أنه يعتمد على معادلة سياسية داخلية تهدف إلى إرضاء مؤسسة اليمين الديني، التي تشكل الجزء الأساسي من الائتلاف الحاكم في الكيان الصهيوني، وتأتي هذه الخطوة في سياق احتجاجات المواطنين في المدن الفلسطينية الكبرى، التي عادت للظهور للمرة الأولى منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهي التظاهرات التي استمرت طوال العام 2023، وتطالب هذه الاحتجاجات بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهو ما قد يؤدي بالتأكيد إلى تغييرات سياسية جوهرية في فلسطين المحتلة، بما في ذلك استقالة رئيس الوزراء الحالي، وبالتالي، يسعى نتنياهو جاهداً لعدم فقدان دعم الائتلاف الحالي لليمين، ولهذا السبب يتمسك بمنطق المواجهة في سياسته، حيث يرفض التفاوض مع الفلسطينيين ويصر على الإبقاء على القضية الفلسطينية خارج أي مفاوضات.
كما تظهر الأحداث الأخيرة، ولا سيما القرار الذي اتخذ، أن دور الولايات المتحدة كوسيط رئيسي في الصراع يبدو ضعيفاً للغاية، حيث لم تتخذ واشنطن أي إجراءات جادة لفرض ضغوط على الحكومة الصهيونية، وهناك أسباب خارجية وداخلية لهذا التصرف، تُعطى الأولوية في الشرق الأوسط للعلاقات مع الكيان الصهيوني من قِبل الولايات المتحدة، حتى إذا كانت هذه العلاقات غير مجدية، ومن الممكن الاعتماد على لاعبين آخرين لتلبية الظروف الحالية، ومع ذلك، تستمر واشنطن في دعم الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى ذلك، قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، يسعى البيت الأبيض لعدم فقدان دعم اللوبي اليهودي المؤثر، وبالتالي، يرفض ممارسة ضغوط جدية على بنيامين نتنياهو.
في الوقت نفسه، يشهد الشركاء الأمريكيون الآخرون في المنطقة تأثيرات سلبية، بدايةً من مصر، التي قد تضطر إلى تحمل عبء استضافة اللاجئين الفلسطينيين في حالة نشوب هجوم صهيوني على رفح، يتحدث بعض المسؤولين في القاهرة عن احتمال تعليق اتفاقيات كامب ديفيد في حالة استمرار الوضع على ما هو عليه، وفي سياق مماثل، تعبر قطر عن عدم رضاها تجاه السياسة الأمريكية، حيث تشعر بأن محاولاتها للوساطة بين الأطراف المتحاربة تفشل بسبب تعنت الكيان الصهيوني وعدم قدرة الولايات المتحدة على ممارسة نفوذ كاف على حكومة نتنياهو، وبسبب هذا الواقع، يعتقد القطريون أن الوساطة في الصراع تبدو محدودة المجال والنفع.
ونتيجة لذلك، يتباعد دور الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي، حيث ينظر البعض إليها على أنها وسيط غير موثوق به في الصراع الفلسطيني – الصهيوني ويعكس ذلك عدم استجابة الحكومة الصهيونية للمقترحات الأمريكية الحالية التي تهدف إلى التسوية مع المملكة العربية السعودية مقابل الاعتراف بفلسطين، وقد توقفت عمليات التطبيع المؤقتة بين الكيان الصهيوني والمملكة، والتي تم تسهيلها بوساطة أميركية، وهذا يوضح أن السياسة الحالية للولايات المتحدة في المنطقة قد تفتقر إلى الشرعية والنجاعة المطلوبة.
في الوقت نفسه، إن الوقت ينفد، حيث يتزايد التهديد بشن هجوم واسع النطاق من جانب الجيش الصهيوني، وتتجلى خطورة هذه الأعمال ليس فقط في العواقب الإنسانية الجسيمة التي قد تنجم عنها، ولكن أيضاً في زيادة التوترات وتعقيدات الصراع الفلسطيني – الصهيوني بشكل عام، لذلك، فإن المفاوضات المقررة في القاهرة بنهاية فبراير/شباط المقبل قد تمثل الفرصة الأخيرة لاحتواء التصعيد ومنع تفاقم الأوضاع إلى الحد الأقصى. وعلى الرغم من ذلك، يعتبر تحقيق هذا الهدف مهمة شديدة التعقيد، نظراً للتوترات المتصاعدة والمصالح المتعارضة بين الأطراف المعنية.
وفي ظل هذا الواقع المؤلم في غزة، يظهر بوضوح أن قرار التخلي عنها في وقت يزداد فيه وطأة الإبادة الجماعية يعد خطوة لا تحتمل الاستمرار، ففي ظل تلك المأساة الإنسانية الهائلة، يبدو أن القرارات السياسية المستقبلية ستعزز دور المقاومة، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري، كجهة فاعلة يجب التفاوض معها.
فعلى الرغم من التعنت الصهيوني في التخلي عن ممارساته العدوانية، يبقى الأمل موجوداً في أن تتحول القوى الدولية إلى مفاوضات جادة لوقف هذه الإبادة وحماية السكان المدنيين، ومع ذلك، يظهر بشكل واضح أن الهدف الحقيقي للصهاينة هو الاستحواذ على كل فلسطين، وليس على أجزاء منها، مما يجعل الصراع المستمر يبدو كجزء من مسعى لتحقيق هذا الهدف.
في نهاية المطاف، فإن وحدة الشعب الفلسطيني وصمودهم في وجه الاحتلال يعكسان قوة وإصراراً لا يمكن تجاوزهما، وقد يكون هذا الصمود هو العامل الذي يحقق النصر في النهاية، حيث يواصل الشعب الفلسطيني تحقيق حلمه بالحرية والكرامة، بينما يبقى العالم يشاهد ولا يفعل أي شيء لإنهاء هذه الإبادة غير المسبوقة على مر التاريخ.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.