ربما لم يعد يثق عاقل فى كلام الرئيس الأمريكى ، وقد تصرف “جو بايدن” ـ العجوز ـ بطريقة أقرب لألعاب الصبيان ، وأخبر الصحفيين وهو يلعق “الآيس كريم” ، وقالها قاطعة مازحة معا ، أن الهدنة الموعودة فى فلسطين ستبدأ بعد غد “الإثنين” ، وترك المتابعين والمراقبين يضربون أخماسا فى أسداس ، فما من “دخان أبيض” ينبعث من غرف المفاوضات الماراثونية ، التى بدأت فى “باريس” ، ثم ذهبت إلى “القاهرة” ، ثم عادت إلى “باريس” بعد تعثر فى “القاهرة” ، ثم ذهبت إلى “الدوحة” على أمل عودة إلى “القاهرة” ، حيث يطمح المتفائلون بإتمام اللمسات الأخيرة ، وقد قال “بايدن” أنها ستكون آخر محطة ، وأن اتفاقا سيوقع لهدنة تستمر طوال شهر رمضان الفضيل وأيام عيد الفطر المبارك .
وسواء صدق “بايدن” أو تاه فى التفاصيل والمواعيد ، فإن المساعى جارية بالفعل ، وتشارك بها أمريكا من خلال وفد مخابراتها المركزية ، ومصر كذلك ، وقطر عبر رئيس الوزراء فيها ، إضافة لوفد “إسرائيلى” من “الموساد” و”الشاباك” والجيش ، ويبدو أن تقدما ما حدث ، وإن كانت المصاعب ظلت عالقة ، وتتجدد ، فالهوة واسعة بين اشتراطات كيان الاحتلال ، وبين مطالب المقاومة المنقولة عبر الوسيطين المصرى والقطرى ، بينما كوارث ومجازر الإبادة الجماعية تحكم خناقها على ملايين الشعب الفلسطينى فى “غزة” ، وعلى مشهد من العالم الذى يصمت ويتخاذل ويعجز عن وقف الإبادة ، وفضحه حرق الطيار الأمريكى “آرون بوشتل” لجسده أمام سفارة الاحتلال فى “واشنطن” ، بينما تواصل المقاومة الفلسطينية ملاحم القتال البطولية مع جيش الاحتلال ، من “حى الزيتون” بمدينة “غزة” ، وإلى شرق “خان يونس” ، وتزيد نزيف الخسائر العسكرية البشرية “الإسرائيلية” ، ومن نخبة الضباط فى لواء “جفيعاتى” وغيره ، وتمضى التطورات إلى وضع حرج ، يدفع الطرفين إلى طلب مصلحة ما فى الهدنة الممتدة لستة أسابيع وقد تزيد ، فالمقاومة الفلسطينية تسعى لتخفيف آلام الشعب الفلسطينى ، وكسب فسحة وقت لتكثيف إدخال المساعدات الإنسانية إلى “غزة” المحاصرة ، وتعزيز الصمود الأسطورى للشعب ، الذى يقتل ويباد ويجوع بالجملة ، والمعضلة التى تواجهها حركات المقاومة فى هذه الظروف ، أنها تريد سيناريو متصلا لوقف عدوان الإبادة كليا ، وكانت خطتها الأصلية ، أنها لا ترغب بتجزئة ورقة الأسرى “الإسرائيليين” لديها ، وهى ورقة ضغط رئيسية ، لكنها اضطرت تحت وطأة الإمعان فى التنكيل بالشعب وتدمير الاحتلال لكافة موارد الحياة ، وبهدف إحداث شروخ فى علاقتها بالشعب المعانى المذبوح ، أن تتجاوب مع تصور المراحل الثلاثة ، الذى بادرت إليه السياسة المصرية الرسمية قبل نحو الشهرين ، وبدت الإدارة الأمريكية متجاوبة معه إلى حد ما فى الظاهر ، وبهدف البحث عن مخرج ما لإنهاء الحرب ، وكانت الفكرة نفسها وراء إطار “باريس” الأول ، وإن اختفى التصريح بها فى تعديلات إطار “باريس” الثانى ، ربما لجذب “إسرائيل” إلى انخراط فى المداولات ، وإن ظلت فكرة المراحل الثلاث قائمة ، وهو ما تبدى المقاومة الفلسطينية مرونة وتجاوبا حذرا معه ، لا يضيع التضحيات فى “مكائد السياسة” على حد تعبير “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسى لحركة “حماس” ، وعلى نحو محسوب ، ربما يأخذ فى اعتباره ديناميكية وآثار تنفيذ المرحلة الأولى على داخل الكيان “الإسرائيلى” ، فبرغم صراخ “بنيامين نتنياهو” وأركان حكومته وقادة جيشه ومجلس حربه ، وتهديداتهم الملتاثة المتواصلة باجتياح “رفح” فى جنوب الجنوب ، سواء قبل سريان هدنة المرحلة الأولى أو بعدها ، فإن مجرد سريان هدنة المرحلة الأولى لو جرى التوصل إليها ، والقاضية مبدئيا بإطلاق سراح 40 من الأسرى “الإسرائيليين” المدنيين ، مقابل مئات من الأسرى الفلسطينيين ، بينهم عدد كبير من ذوى المحكوميات العالية ، وربما من القادة الكبار للفصائل الفلسطينية ، إضافة لجلاء قوات الاحتلال عن مراكز المدن والتجمعات السكانية ، وفتح طرق لإعادة النازحين الفلسطينيين من الجنوب إلى الشمال ، فوق مضاعفة شاحنات المساعدات لمرات ، وإعادة تأهيل المستشفيات ، ونصب تجمعات خيام ومساكن إيواء متنقلة ، وكل ذلك وغيره ، مما قد يضاعف من خلافات الداخل فى الكيان “الإسرائيلى” ، مع فسح مجال لتزايد مظاهرات أهالى الأسرى ، مع بقاء الأسرى العسكريين والجثث فى يد المقاومة ، كذا التطور المحتمل لمظاهرات تطالب بانتخابات مبكرة ، والخلاص من حكومة “نتنياهو” وصحبه الأكثر تطرفا وعدوانية ، وهو ما لا يريح “نتنياهو” ، الذى يريد وضع العصى فى عجلات التفاوض غير المباشر ، وأقام من خلال مفاوضيه عقبات مضافة ، من نوع اشتراط سن معين للنازحين المراد إعادتهم إلى محال إقاماتهم الأصلية ، واستثناء الفلسطينيين الشبان فى سن الخدمة العسكرية ، وهو مصطلح لا تعرفه ساحة “غزة” أصلا ، فليس من جيش نظامى هناك ، إضافة لسعى “نتنياهو” إلى المصادرة الكلية على مسعى وقف الحرب ، واستعراض اللاءات القطعية ، على طريقة التصويت فى “الكنيست” بأغلبية غير مسبوقة ، ترفض إقامة أى دولة أو كيان فلسطينى مستقل ولو صوريا ، مما تطرحه الأمم المتحدة أو حتى الدول الغربية والولايات المتحدة نفسها أحيانا ، وتحت عنوان الرفض “الإسرائيلى” لما يسمونه “الإملاءات الخارجية” ، وكأن “إسرائيل” ـ وهى تفعل ـ تهزأ بالعالم كله ، وتعتبر أن الأمر كله مرهون بالإرادة “الإسرائيلية” المنفردة ، وبدعم “واشنطن” الإجبارى ، وإلى حد أن “نتنياهو” وجه صفعة مضافة إلى “بايدن” ، بعد إعلان الأخير عن هدنة “الإثنين” الموعودة ، واستند “نتنياهو” إلى استطلاع رأى صحفى للأمريكيين ، يؤكد كما قال أن أكثر من 80% بين الأمريكيين ، يؤيدون “إسرائيل” بصفة مطلقة ويعارضون “حماس” ، وكأنه يقول ويحذر “بايدن” ، أن رقبة الرئيس الأمريكى فى يده ، وبالذات مع إخفاق بايدن المحتمل جدا فى انتخابات الرئاسة المقبلة بعد شهور ، والتى قد تأتى بصديق “نتنياهو” الأوثق “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض ، بينما يحاول “بايدن” وإدارته الإفلات من مأزق السقوط ، عبر اتباع سياسة مزدوجة ، تفى تماما باشتراطات الدور الأمريكى كحكومة ثانية لكيان الاحتلال فى “واشنطن” ، وتحاول إنقاذ “إسرائيل” من طيش وانفلات أعصاب حكومتها الأولى فى “تل أبيب” ، بعد أن تبين للكافة عجز جيش الاحتلال مع أمريكا عن تحقيق نصر أو شبهة نصر فى حرب “غزة” ، التى تتطاير الحروب ونذر الحروب من حولها ، وتورط “واشنطن” فى صدامات خاسرة ممتدة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان ، وتزيد أوضاع الأنظمة العربية المتعاونة حرجا وضيقا وهزالا ، وتكاد تنسف دور “واشنطن” فى المنطقة ، رغم احتشاد أساطيلها فى بحار المنطقة وخلجانها ، وبما قد يجعل “واشنطن” عارية من أى تأثير بالضغوط اللينة والخشنة ، ويدفعها أحيانا للتراجع لفظيا عن حالة التطابق الفعلى الكامل مع كيان الاحتلال ، والحديث المرسل عن تطبيع وسلام يحقق صوريا بعض الأمانى الفلسطينية ، من نوع إحلال سلطة فلسطينية جامعة “متجددة” محل حكم “حماس” وأخواتها فى “غزة” ، والتلاعب المكشوف بإمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح الحربى ، وهو ما رد عليه “نتنياهو” باستغراق فى الأوهام ، وبإعلان ما أسمى “وثيقة نتنياهو” ، التى وعد فيها بإدامة احتلال “غزة” بعد الحرب ، وبإقامة مناطق عازلة أمنيا بعد غزو “رفح” ، وبتنصيب إدارات مدنية متفرقة من عائلات و”حمائل” فلسطينية ، ترتضى العمالة للاحتلال ، وكلها أوهام رجل طار عقله ، ولا يتعظ بالدروس القريبة والبعيدة ، فقد جرى نسف فكرة روابط القرى “الإسرائيلية” فى الضفة الغربية قبل أربعين سنة ، فما بالك بالوضع فى “غزة” ، وأغلب سكانها من المهجرين أصلا من مدن وقرى فلسطين 1948 ، وتسودهم الروح الوطنية ، التى تختزن محنة فلسطين بكل مراحلها وعذاباتها ، ولا نفوذ مرئيا فيها لعائلات أو “حمائل” ، وإن وجد شئ من ذلك عرضا ، وقبل أحدهم خطيئة التعاون مع الاحتلال ، فربما لا يستمر على قيد الحياة لساعات أو لأيام ، يلقى بعدها مصيره المحتوم بطلقة فى الرأس ، ويذهب إلى حتفه الموعود مع خطباء “الجمعة” ، الذين تصورهم “نتنياهو” فى وثيقته العبثية ، يصعدون أعواد المنابر ، ويدعون لنصرة الإمام “نتنياهو” بصفته خليفة المسلمين (!) ، وينسى “نتنياهو” عظات سابقيه فى تحدى “غزة” ، من “إسحق رابين” الذى عاش يحلم أن يصحو يوما من نومه ليجد “غزة” غرقت فى البحر ، إلى ” آرئيل شارون” الذى كانوا يسمونه “ملك “إسرائيل” ، ولم يجد فى النهاية ملاذا للتعامل مع “غزة” ، إلا أن يقرر إجلاء قواته عنها وتفكيك المستوطنات اليهودية فيها قبل نحو عشرين سنة ، و”نتنياهو” قياسا إلى “رابين” و”شارون” ، ليس أكثر من صبى أرعن .
ودعونا ننتظر ونرى ما سيجرى فى الأيام المقبلة ، فثمة سباق لاهث بين تفاؤل حذر بالمفاوضات ، وبين جولات الحرب ، التى قد تتسع ميادينها أكثر على خرائط اللهب .
عبدالحليم قنديل