صفحة بيضاء ناصعة أخرى سطّرها العمانيون، تضامنًا مع أشقائهم الفلسطينيين، وذلك بمقاطعتهم لمنتجات الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، ممّا أدى إلى انخفاض مبيعاتها في السوق العماني، وظهور علامات تجارية استهلاكية بديلة، مصدرها دول عربية وإسلامية.
وإذا كانت المقاطعة في السابق أخذت طابعًا عاطفيًّا سرعان ما يزول، إلا أنّها استمرت في عُمان بالقوة نفسها، التي بدأت بعد أحداث السابع من أكتوبر الماضي، فثبت العمانيون في موقفهم، وهو ما لاحظه موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، الذي نشر تحقيقًا عن الموضوع، تحت عنوان «مقاطعة كبيرة في سلطنة عُمان للعلامات التجارية الغربية وسلاسل المطاعم الداعمة لإسرائيل» في مستهل شهر مارس الحالي، أوضح فيه ازدياد الغضب الشعبي ضد السياسة الغربية الداعمة لاستمرار الحرب في غزة، وأنّ سكان سلطنة عُمان ينضمون عفويًّا بشكل كبير لحملة مقاطعة شركات أعلنت دعمها لإسرائيل، وسط ارتفاع نسبة العداء لدعم الولايات المتحدة للحرب الإسرائيلية على القطاع. ويعتمد التحقيق على مقابلات شخصية مع المواطنين العُمانيين الذين قاطعوا منتجات الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، وتجربتهم الشخصية في استعمال المنتجات البديلة، في إشارة واضحة إلى تغيّر عادات التسوق عند فئة كبيرة من الشعب العماني، وهو ما أكده موظفو المتاجر في مسقط، من أنّ الكثير من العمانيين يتحققون الآن من أصل المنتج قبل الشراء، ولا يشترون المنتجات التي يعتقدون أنها أمريكية أو أوروبية. وينقل الموقع عن أحد العاملين في أحد المتاجر أنّ «بعض الناس كانوا يشترون المشروبات والوجبات الخفيفة الأمريكية، لكن معظم الناس لا يشترونها الآن بسبب دعم شعوب الخليج لفلسطين». وأود أن أشير هنا إلى أنّ ثقافة المقاطعة انتشرت حتى عند بعض الأطفال الصغار، وأنا أعايش هذا الوضع عند حفيدتي نُهى التي تسأل عن أيّ منتج هل يدعم الاحتلال أو لا؟ وفي المحصلة النهائية هذه ظاهرة إيجابية.
يرى الموقع البريطاني أنه كدليل على التحول الكبير في السوق العماني، فإنه في جميع أنحاء مسقط، وتحديدًا في المحال التجارية ومحطات الوقود، يقترن الغياب الملحوظ للعلامات التجارية الأمريكية الشهيرة، مع عرض المشروبات والوجبات الخفيفة البديلة غير الغربية، وأنه مجرد حقيقة أنّ العلامة التجارية هي أمريكية فهو سبب كاف للعديد من العمانيين لمقاطعتها بسبب الغضب من الدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها ضد غزة.
ويشير تقرير «ميدل إيست آي» إلى أنه «في محاولة للنأي بنفسها عن ماكدونالدز في إسرائيل، حيث قامت فروعها هناك بتوزيع الطعام مجانًا على جنود الجيش الإسرائيلي، فقد أعربت ماكدونالدز في سلطنة عُمان عن «تضامنها الثابت مع شعب غزة من خلال التبرع بمبلغ 100 ألف دولار أمريكي لجهود الإغاثة، في أعقاب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني».
وإذا كان تقرير الموقع البريطاني قد اعتمد في تحقيقه على العاصمة مسقط فقط، فإنّ بقية المناطق العمانية قد اتخذت خطوات المقاطعة نفسها، في تعبير شعبي شامل عن المساندة العمانية لأهل غزة، ووقوف العُمانيين ضد التأييد الأمريكي للجرائم الإسرائيلية ضد الأبرياء، حيث قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية لإسرائيل بمليارات الدولارات، منذ بدء الحرب على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى للمقاومة الفلسطينية، كما استخدمت حقّ النقض (الفيتو) ضد ثلاثة قرارات لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، بما يعني المشاركة الأمريكية الرسمية في إبادة الآلاف من أهل غزة وإصابة الآلاف مثلهم، في حين يواجه مئات الآلاف الآن المجاعة، نتيجة الحصار الإسرائيلي الشامل على القطاع.
لاقت دعوة المقاطعة صدىً واسعًا وتجاوبًا ملحوظًا في عُمان، عبر وسم «مقاطعة» عبر منصة «أكس»، وأيّد كثيرون مبادرة للاستبدال بالمنتجات «المقاطعة» منتجات محلية الصنع، أو مستوردة من بلاد لا تساند الاحتلال، وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في عُمان صورًا توضح للعمانيين المنتجات التي تجب مقاطعتها، وساهم العديد منهم في نشر ثقافة ووعي المجتمع بالمنتجات المحلية، والتي يشكل استهلاكها فارقًا جيدًا حتى على الاقتصاد المحلي.
وإذا كان رأي سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عمان أنّ «سلاح المقاطعة من أمضى الأسلحة وأنجحها في إخضاع العدو»، وأنه واجبٌ على الأمة، إلا أني وقعتُ في حيرة من أمري، عندما اطلعتُ على «مشروع» التوصيات التي رفعتها غرفة تجارة وصناعة عُمان للتقليل من آثار المقاطعة على الشركات المتأثرة، ومنها -مثلا- تبني الغرفة طلب هذه الشركات مع ملاك العقارات لتخفيض الإيجارات حتى انتهاء الأزمة، وإعفاء مؤقت لهذه الشركات من الضريبة السياحية وضريبة البلدية التي تصل في مجملها إلى 9% من قيمة المبيعات، وتخفيض تعرفة الكهرباء والمياه حتى انحسار الأزمة، وغيرها من المقترحات التي لا تعني، إلا الالتفاف على المقاطعة الشعبية. وباستثناء توصية واحدة متعلقة بتوفير مساهمة مالية لتغطية معاشات العُمانيين العاملين في هذه الشركات، فإنّ كلّ تلك التوصيات تقول للناس بلسان الحال: «كأنك يا بو زيد ما غزيت»، وهناك تقرير منشور أعدته دائرة البحوث والدراسات الاقتصادية بالغرفة، عن انخفاض إيرادات بعض هذه الشركات، وهذا يجعلنا نتساءل هل: تعمل الغرفة لمصلحة البعض على حساب الكل؟ وهل على الحكومة أن تعوّض تلك الشركات على حساب توجهات العُمانيين، وتوجهات الحكومة المشرّفة المؤيّدة للقضية الفلسطينية؟!
نحن بحاجة إلى حلول جذرية، لا إلى حلول ترقيعية مؤقتة، وذلك بالاهتمام بالإنتاج، وتطوير الصناعات، وإيجاد البدائل في السوق المحلي. فهل يُعقل أن نستورد التمور الآن من دول الجوار مثلًا؟ وما الفائدة التي جنتها العلامات التجارية العمانية من المقاطعة؟ وما هي الفائدة المرجوة من تعويض الشركات الأجنبية جراء خسائرها؟ إنّ الحلول المؤقتة لا تفيد في شيء مستقبلًا، ولا يُستبعد أن تعود حليمة لعادتها القديمة فور انتهاء الأزمة، وتعود المياه لمجاريها حتى تحدث أزمةٌ أخرى وتنطلق صيحات المقاطعة من جديد.
أستطيع أن أجزم أنّ الدول المنتجة والمُصدّرة ستدرس الوضع جيدًا، للحيلولة دون حدوث المقاطعة مرة أخرى، وقد تلجأ إلى أساليب ملتوية لبيع منتجاتها، لكننا الأوْلَى بدراسة أحوالنا حاليًّا ومستقبلًا، ومن الخطأ أن نلجأ إلى الحلول نفسها في كلّ مرة. وربما في هذا الشأن يحتاج الأمر إلى التركيز على المنتج الوطني، وهو ما أشار إليه الزميل خلفان بن سيف الطوقي، في تصريحات لـ«العربي الجديد»، من أنّ المبادرة لتفعيل مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل، ذات أهمية خاصة للمنتج الوطني، لكن الأمر يتطلب ضمان «استدامة» هذا المنتج عبر سن القوانين وإقرار السياسات التشجيعية التي تعطي لهذا المنتج ميزة تنافسية، وليس عبر حملات دعائية مؤقتة.
بدأت حركة المقاطعة في عُمان في وقت مبكر من الحرب، وكانت عفوية وليست منظمة. وحتى الآن -رغم بعض الاختراقات- لا يبدو أنّ المقاطعة ستنتهي قبل نهاية الحرب في غزة، ولكن المؤكد أنّ هناك تحولًا ليس في عُمان فحسب؛ بل في سوق الشرق الأوسط كله، وقد لا يعود السوق إلى ما كان عليه قبل الحرب، وهو ما لمّح إليه مصدر حكومي عُماني للموقع البريطاني بقوله: «هناك مناخ ضد كلّ شيء في الغرب. حتى الحرية والديمقراطية يُنظر إليها على أنها منافقة. الناس يقولون إنه لا ينبغي لنا أن نثق في هذه الأفكار».
في كلّ الأحوال، فإنّ المسألة تحتاج إلى دراسات مستفيضة لبناء صناعات وطنية قوية ومنافِسة، ولا أتصور أنه ينقصنا شيء لتحقيق ذلك، وموضوع المقاطعة هو موضوع كبير يحتاج إلى وقفات كثيرة وإلى أكثر من مقال.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلّف كتاب «الطريق إلى القدس»