وحدهم الفلسطينيون الذين يتمايزون عن كل شعوب الأرض بصيامين مفروضين، أحدهما شرعي في شهر رمضان الفضيل كبقية المسلمين، والآخر قسري على امتداد الأعوام والسنوات… وحدهم الفلسطينيون الملزمون جميعاً بالصيام القسري كباراً وصغاراً … نساء ورجالاً … أصحاء ومرضى، ولا يستثنى منهم حتى القٌصَّرُ والأطفال الخدج، بل وحتى الأجنة… الجميع تفرض عليهم حكومة نتنياهو بمباركة الغرب المنافق صياماً قسرياً يمتد حتى الموت أو الرضوخ لإرادة الذئاب المتوحشة التي استمرأت تبادل الأنخاب بجماجم الضحايا من دون أن يرف جفن لشركاء الجريمة والقتل ممن يدَّعون أنهم حرَّاس الديمقراطية وحملة مشاعل الحضارة الإنسانية وعنوان كل تقدم ورقي..
بئس الحضارة التي تناصر حرمان الأطفال حديثي الولادة من وجبة حليب مجفف لأن الأم ارتقت شهيدة بقصف جنوني مسعور، أو لأن صدرها ضنَّ ببضعة قطرات من حليب يحافظ على حياة جنينها جراء التجويع الممنهج وحرب الإبادة المُنَفَّذَة عن سابق إصرار وتعمُّد، في الوقت الذي يكتفي فيه الرئيس الأمريكي بايدن وأركان إدارته بالحديث عن رفضهم حرب الإبادة والتجويع التي ينفذها العنصريون المتوحشون في حكومة متطرفة بزعامة نتنياهو المطمئن إلى أن أقصى ما قد تفعله الإدارة الأمريكية لن يتجاوز حدود الاكتفاء بالتظاهر الاستعراضي المقيت عبر ما يسمونه “إسقاط المساعدات الإنسانية من الجو ليذهب جلَّه طعاماً لأسماك البحر بذريعة الأخطاء الفنية أو العوامل الجوية، ويسقط بعضها الآخر في الداخل المحتل من الجلاد الإسرائيلي القاتل، ووهم يتغامزون أن ذلك كفيل بتعميم صورة مذلة للفلسطيني المحتاج لكسرة الخبز، وهذا جزء خطير من الحرب على الوعي وكيّه كخطوة استباقية لمنع ارتفاع أي صوت ضد كيان الاحتلال، وإلا فما يعانيه الفلسطينيون في غزة ينتظر كل من لا يذعن للتوحش الإسرائيلي البغيض، في حين تتعدد الجسور الجوية لإمداد تل أبيب وجيشها القاتل ومستوطنيها المعربدين على دماء الأطفال والنساء وبقية الضحايا الذين تجاوز عددهم مئة وعشرة آلاف بين شهيد وجريح ومفقود بفعل الطاقة التدميرية للصواريخ وقنابل الموت والإبادة الأمريكية التي لم تنقطع عن التدفق المستمر والمتزايد باستهداف مباشر للوجود الفلسطيني بكل مظاهره بشراً وشجراً وحجراً وتاريخاً وجغرافيا.
إذا كان من طبع العقارب اللدغ والأذى، ومن المتوقع والمتعارف عليه أن تسارع الأفعى الأكبر لحماية فراخها عندما تغامر تلك الفراخ فتسرح وتمرح وتنفث سمها القاتل في كل اتجاه، فماذا عن بقية العالم؟ … من حق كل فلسطيني ــ بل كل محب للقيم الإنسانية وللمثل الأخلاقية ــ أن يتساءل: إذا كانت أمريكا بعنجهيتها وجبروتها وسطوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية تؤكد ــ وعلى مدار الساعة ــ أنها داعمة لكيان الاحتلال في كل ما يفكر بتنفيذه من جرائم، ومتكفلة بمصادرة إرادة المجتمع الدولي بالقوة، وتغييب مجلس الأمن وبقية المنظمات الدولية بحق النقض الفيتو، أو الضغوط وما تسميه عقوبات أحادية الجانب، فماذا عن بقية أحرار العالم وشرفائه؟ ماذا عن أمة الملياري مسلم؟ وماذا عن بقية سكان العالم الذي لا يشكل اليهود إلا ما نسبته لا تتجاوز 0،2%، وقسم لا يستهان به من أولئك يرفضون العدوانية الوحشية التي يعتمدها حكام تل أبيب؟ وماذا عن القوى العظمى المرشحة لشغل مقعد القطب المكافئ لواشنطن؟ وهل الحديث بضرورة وضع حد لحرب التجويع والإبادة يوقف ألسنة لهب الموت الذي يحصد أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وعداد القتلى يعمل بوتائر تزداد تسارعاَ في رمضان وما قبله وبعده، ولن يوقفها إلا الانتقال من الندب والتنظير والشجب والإدانة إلى ما يترجم على أرض الواقع، ويمنع الاستمرار بامتهان إنسانية الإنسان…
نعم أيها الصائمون في فلسطين طوعاً وكرهاً أنتم الأعلون والغالبون لأنكم أصحاب حق وإرادة، وسيكتب التاريخ أن نظرة طفلة فلسطينية تتضور جوعاً وتتحدى المجمع الصناعي الحربي الصهيو ــ أمريكي هي الأقوى والحليفة الوحيدة لنصر حتمي قادم، وإن كانت تخوض مع بقية الجيل في بركة فوارة بدماء مهدورة ظلماً، وعلى وقع تأوهات أطفال فلسطين الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة مع بقية الشهداء ترتسم آفاق فجر قادم يتكئ على عكاز الإرادة ويتنفس أوكسجين اليقين…
د. حسن أحمد حسن