لم يغبْ التيار الصدري عن المشهد السياسي في العراق ، لا في البنية الشعبيّة ،ولا في نفوس وترقّبات و توقعّات قيادات الاحزاب والحركات السياسيّة . غابَ التيار عن السلطة ،بكل تأكيد ، ولكن غيابه عن السلطة جعل الأحزاب والحركات السياسية تعيش اجواء ترقّب وتكهنّات وتحّسُبْ ، وهي ( واقصد الاحزاب والحركات السياسية في العراق ) ،ومن الآن تتساءل وتستفهم : هل سيشارك التيار الصدري في الانتخابات المقبلة ،سواء كانت انتخابات مُبكّرة او دوريّة ؟
قبلَ ايام ،جمعني لقاء عابر ،في مطار بغداد الدولي، مع صديق معرفة ونقاش فكري ، وهو أحد قيادات التيار الصدري ، فسألته : هل ستشاركون في الانتخابات المقبلة ؟ وكان جوابه دقيق و مُعّبرْ ،حيث قال ” أعتقد اننا سنشارك ” ،فهو لم يؤكدْ المشاركة أو ينفها ، تركَ للظنون الحسمْ . جوابه دالٌ على أن قيادة التيار الصدري او بالأحرى السيد مقتدى الصدر لم يقررْ بعد ،او ربما حسم الأمر ولم يعلنه !
ينفردُ التيار الصدري بميزتين ، يختصُ بهما ،ليس فقط بالمقارنة مع الاحزاب والحركات السياسية العراقية ،وانّما مع طبيعة واهداف العمل السياسي والحزبي ، فما هي اذاً هاتين الميزتين ؟
الاولى هي تنازله عن السلطة ،وتجّسدَ ذلك جلياً عند انسحاب كافة نوابه ،وعددهم ٧٠ نائباً ، من مجلس النواب ، في حزيران عام 2022، احتجاجاً على الفساد ،مثلما صّرحّ حينها السيد مقتدى الصدر ،مُبرّرا الانسحاب ،بَيدَ ان هدف ايّ حزب سياسي او حركة سياسية هو الوصول إلى السلطة وتنفيذ برنامج عمله السياسي ،لا بلْ أن السعي إلى السلطة هو احد المقومات القانونية التي تميّز العمل الحزبي عن العمل الطوعي او العمل في منظمات المجتمع المدني او في المؤسسات الخيرية .
الميّزة الثانية هي احتفاظه بقاعدته الجماهيرية،رغم غيابه عن السلطة ، حيث غالباً ما يفقد الحزب السياسي جزءا كبيرا من شعبيته عندما يبتعدُ او يفقدُ السلطة .
مثلما برّرَ السيد الصدر اعتزال تياره عن العمل السياسي ،وأمرَ نوابه بترك مجلس النواب ، بسبب الفساد السياسي ، لا بُدّ ان تكون لعودته مُبرّرات أيضاً. فهل قُضيَّ على الفساد ؟
قَلَّ كثيراً ، فهو كالوباء يمّرُ بمرحلة منع الانتشار ،ثم الانحسار ،ثم الاحتضار ، ومدة غياب التيار عن المشهد السياسي ، والتي تعدت بقليل السنتين غير كافية للقضاء على الفساد . بالتأكيد ، لا أحدَ من التيار او من خارج التيار ،يتوقع او ينتظر عودته للمشهد السياسي الاّ بعد القضاء على الفساد ! لا يُنقِص التيار قدرة رفع راية الإصلاح او طرح برنامج سياسي يُلائم المرحلة السياسية القادمة ببعدها الوطني والاقليمي والدولي ، لاسيما وأنَّ المشهد السياسي لهذه الابعاد ( الوطني و الاقليمي والدولي ) قد تغيّر كثيراً خلال مدة الغيبة . فالمشهد السياسي في بعده العراقي ( الوطني ) أفرزَ تحولات ايجابية ،أهمّهما : الدور الكبير للمحكمة الاتحادية العليا ، وقراراتها في الحفاظ على سيادة و وحدة العراق ،وفي ترسيخ العدالة في توزيع الثروات وحقوق الشعب بمختلف مكوناته ، كذلك التحسن الكبير في الامن والاستقرار وتحسين الخدمات ،وتحجيم حيتان الفساد السياسي و الاقتصادي .
المشهد السياسي العربي والاقليمي هو الآخر لم يعدْ ،كما هو حاله قبل سنتان ، فالعدو الاسرائيلي أصبحَ صديقاً لبعض العرب ، وجرائم الابادة التي ترتكبها اسرائيل بحق الإنسانية ،والتي قاربها الكثيرون بانها اسوأ من النازية ، تجعل من الصعب ،على الصعيد الاخلاقي و الشرعي التعامل بثقة مع مَنْ هو صديق لمرتكب جريمة ابادة بحق أطفال ونساء وشيوخ ومعتدي ومحتل ! اما المشهد السياسي الدولي ، فيعج بتداعيات الحرب في أوكرانيا ،والتي ستكون قضية الأجيال في اوروبا ، ويعجُ بتداعيات التنافس بين المحور الآسيوي و المحور الأمريكي . كُلُّ مفردات هذه المشاهد السياسية خير مُعين للتيار ولغيره في اعداد برنامج عمل سياسي ومشروع انتخابي للدورة القادمة ؛ مشروع للإصلاح و لترسيخ الدولة ومكانتها وتعزيز مقوماتها .
بدأت ،ومنذُ امس ، تغريدات و تصريحات تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي بعودة مرتقبة للتيار في الانتخابات القادمة ،كذلك بتكهّنات تلاقي ثم تعاون ،و ربما تحالف بين التيار الصدري ودولة القانون ، والبعض ( السيد بهاء الاعرجي ،تياري سابق ونائب رئيس وزراء سابق ) عبّرَ عن رأيه او ربما معلومة لديه برؤية في المنام ، بلقاء السيد الصدر بالسيد المالكي!
ربّما قَرُبَ التداني بين السيديّن ،بعدما أتعبهما التنائي .وَلِمَ لا ،وقد أضناهما عشق الصمود امام التحديات ، و آمنا بمبدأ ” الدائم ليس الخصام وانما المصلحة ” . كلاهما ايضاً من المتصدرين للمشهد السياسي ،حتى و ان كان السيد مقتدى مُعتكفاً .
عودة السيد مقتدى وتياره إلى العمل السياسي مُجدّداً ستجعل فواعل المشهد السياسي في حراك دائم . سيكون المكون الشيعي بأحزابه وحركاته وشخوصه السياسية الملعب الرئيسي لتحركات وتطلعات السيد مقتدى ،ليس لسبب مذهبي ،وانما لتشتت المكون السني ولفقدان المكون الكردي بعضاً من مقومات قوتّه ،وخاصة في شعبيته ، ومتاعبه الاقتصادية والسياسيّة .
في الدورة الانتخابية القادمة ، كُلُّ فاعل سياسي ( شخصية ،حركة ،تيار ،حزب ) سيضع نصبَ عينيه تجاربه و تجارب الآخرين ، وعِبَرِها ، ليقيّم ويستنتج .
لم يحظْ حكم السيد الكاظمي ( رئيس وزراء العراق السابق ) بمقومات تُغري بتبنيه ودعمه من التيار الصدري ، وقد أصرّت قوى سياسية اخرى ،وفي مقدمتها دولة القانون على ضرورة رحيله .
الحال ليس كذلك تجاه مسار السيد السوداني ،حيث مقومات نجاح مشهوده في تجربته في الحكم وفي السلطة ، وله طموح مشروع في الاستمرار والتكرار .
هل سيعتمد ، لتكريس هذا الطموح ،على تجربته الناجحة في الحكم ، ومناوراته ، ام سيستجيب القدر إنْ اراد السياسة ؟
د. جواد الهنداوي – الحوار نيوز / سفير عراقي سابق. رئيس المركز العربي الأوربي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل