حدَّدت وزارة العمل مواعيد العمل لوحدات الجهاز الإداري للدَّولة المَدَنيَّة في شهر رمضان المبارك، وفق نظام، الدوام المَرِن، حيث تقوم فكرته على تحقيق المزيد من المرونة للموظف أو القائم على العمل في مختلف مواقع العمل والمسؤوليَّة، باختياره لوقت بدء الدوام الرَّسمي وفق ما تحدِّده المؤسَّسة شريطة استكماله عدد السَّاعات المقرَّرة المنصوص عَلَيْها في القوانين النَّافذة في المؤسَّسات الحكوميَّة أو الخاصَّة، حيث يلـتزم الموظفـون بالعمـل مـدَّة (6) ساعـات متَّصلـة يوميًّـا تتحـدَّد بَيْنَ السَّاعـة (7) صباحـًا وحتَّى السَّاعـة (3) مسـاءً، وتُحتسـب مـن وقـت حضورهــم للعمـل حتَّى وقـت انصرافهـم مِنْه، والَّذي أجاز فيه لرئيس الوحدة تحديد ساعات الحضور والانصراف الَّتي تُناسب عمل الوحدة في ضوء ساعات العمل المقرَّرة وفق الأوقات: (7-12) و(8-1) و(9-2) و(10-3) بالإضافة إلى نظام العمل عن بُعد؛ لشاغلي الوظائف الَّتي تسمح طبيعتها بذلك، وبما لا يخلُّ بسَير العمل في تلك الوحدة، وبشأن منشآت القِطاع الخاصِّ: فقَدْ تقرَّر خفض ساعات العمل للعاملين المُسلِمين في منشآت القِطاع الخاصِّ لِتكُونَ (6) ساعات في اليوم بما لا يزيد على (30) ساعة في الأسبوع.
إنَّ اقتصار العمل بالدَّوام المَرِن في شهر رمضان يبدو لنَا أنَّه يُراد مِنْه شيء آخر، عكس ما جاءت فلسفة العمل المَرِن لِتَحقيقِه، أو محاولة الاستفادة من هذا النِّظام كبديل مناسب يجمع الحُسنيَيْنِ، ولحلِّ مُشْكلة الاختناقات المروريَّة ـ وبشكلٍ خاصٍّ للعاملين في محافظة مسقط، النَّاتجة عن خروج جميع الموظفين بالوزارات والهيئات والمؤسَّسات والشَّركات أو دخولهم إِلَيْها في وقت واحد، بحيث يختار الموظف وقت بدء دوامه وساعة المغادرة بما يتماشى مع طبيعة المهام والاختصاصات الَّتي يمارسها، مع مراعاة الخصوصيَّة الَّتي تعمل فيها بعض الإدارات الخدميَّة المعنيَّة بالمراجعين كقاعات الخدمات الموحَّدة في المؤسَّسات الشُّرطيَّة والمَدَنيَّة وغيرها. ومع أهمِّية هذا الأمْرُ إلَّا أنَّ واقع ما يحصل على الأرض وشوارع مسقط (شارع السُّلطان قابوس، وشارع مسقط السريع، وشارع 18 نوفمبر)، يشير إلى أنَّ الدوام المَرِن لَمْ يقدِّمْ معالجة جادَّة ومُقنِعة لِمُشْكلة الاختناقات المروريَّة، والنَّتائج المترتِّبة عَلَيْه ما زالت خجولة جدًّا، إمَّا لأنَّ الغاية من تطبيق الدَّوام المَرِن غير واضحة للموظف والمؤسَّسات على حدٍّ سواء، أو أنَّ ربط موضوع الدَّوام المَرِن بالازدحام يجِبُ أن تسبقَه جملة من الإجراءات والأُطُر والأدوات والآليَّات، وهو بحاجة إلى مراجعات جادَّة وجهود مشتركة والتزامات وتعهُّدات ومبادرات تقدِّمها وتؤمن بها جميع القِطاعات الحكوميَّة المَدَنيَّة والعسكريَّة والأمنيَّة والقِطاع الخاصُّ.
من هنا يأتي طرحنا للسؤال: لماذا لَمْ ينجح العمل بالدَّوام المَرِن في معالجة مُشْكلة الاختناقات المروريَّة بمسقط بدرجة كبيرة؟ أو أنَّ النَّجاح ما زال خجولًا بدرجة كبيرة، إلَّا ما يظهر مِنْه في وقت الذّروة الصباحيَّة، أمَّا في وقت الذّروة المسائيَّة والَّتي تبدأ من السَّاعة الـ12 كأوَّل وقت للخروج لِمَن كان دوامهم في السَّاعة السَّابعة صباحًا، وتستمرُّ ليس للسَّاعة الثَّالثة فحسب، بل الرَّابعة وأكثر، إذ يقضي الموظف الَّذي يخرج من دوامه في ولاية مسقط متَّجهًا إلى ولاية السيب أكثر من ساعتيْنِ في الطَّريق لِمَا يشهده من اختناق مروري كثيف في كُلِّ أيَّام الأسبوع؟
إنَّ الإجابة عن هذا التساؤل تضعنا أمام جملة المقاربات الآتية:
? إنَّ الأصل في العمل بنظام الدَّوام المَرِن، أنَّه جاء لِصَالحِ الموظف في مساحة الحُرِّيَّة والأمان الَّتي يمنحها لَهُ في ترتيب أوضاعه وتنسيق أموره وأداء التزاماته الشخصيَّة والعائليَّة بحيث يذهب للدَّوام وليس لدَيْه متعلِّقات أخرى في ذهنه غيره، وهو أمْرٌ باتَ لَهْ أهمِّية كبرى على المستوى الأُسري والاجتماعي، بل لَهُ أثَره الإيجابي على مستوى إنتاجيَّة الموظف، فإنَّ هذه الخيارات المُتاحة للموظف في وقت العمل سوف تُسهم في خلق مزيدٍ من المرونة والأريحيَّة والاستمرار في الأداء الكفء، الأمْرُ الَّذي سيكُونُ لَهُ أثَره في نوعيَّة وحجم المُنجَز المُتحقِّق، بما يُقلِّل من فاقد العمليَّات المتكرِّرة الَّتي باتَتْ تُشكِّل عبئًا على إنتاجيَّة الأداء الحكومي والطموحات المُتحقِّقة مِنْه، وهدرًا لوقت العمل الرَّسمي في ممارسات قَدْ لا تتناغم مع مفهوم الإنتاجيَّة، فيُقْدم إلى عمله في ظلِّ رغبة وإنتاجيَّة وشعور بالأمان النَّفْسي والفكري، غير مشتَّت التَّفكير أو أن تبدوَ عَلَيْه علامات القلَق من التأخُّر عن البصمة، وهكذا يُصبح الدَّوام المَرِن معادلة نجاح لبناء الإنتاجيَّة النَّابعة من إدارة مؤسَّسيَّة للمشاعر، ووقوف عِنْد الاحتياج، ومنح الموظف فرصة أكبر لِتَصحيحِ ظروفه، وفَهْم قِيمة الوقت وأهمِّيته فيمنحه المزيد من الاهتمام والتَّقدير.
? أهمِّية الانتقال بالدَّوام المَرِن من الوقتيَّة إلى الاستدامة، فحتَّى تكُونَ نتائج الدَّوام المَرِن ملموسة على الواقع الوظيفي من خلال أداء الموظف ومشاعره وقناعاته وطريقة أداء الممارسة المهنيَّة، أو واقعه الاجتماعي من خلال توظيف هذه المساحة من الأمان في الاهتمام بالأُسرة ورعايتها وتقديم ما تحتاجه قَبل خروجه للعمل، يجِبُ أن يكُونَ الدَّوام المَرِن ثقافة موظف ومُجتمع ومؤسَّسة، وإطارًا وطنيًّا يتناغم مع إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة، لذلك لَمْ يَعُدْ طرح الدَّوام المَرِن ترفًا إداريًّا أو سلوكًا شخصيًّا تتَّخذه الجهات المعنيَّة بالدَّولة عِنْد الضرورة، بل أن يُقرأَ فِقه الدَّوام الرَّسمي المَرِن وفق سياسات وطنيَّة عُليا عَبْرَ تأطيره الفِكري والمهني والتشريعي وقراءة العائد النَّاتج مِنْه على المسار الوظيفي والاجتماعي للموظف أو مساره الإنتاجي للمؤسَّسة والدَّولة والحدِّ من الاختناقات المروريَّة، وبالتَّالي أهمِّية الحوار الوطني حَوْلَ بناء المنصَّات التفاعليَّة بشأنه، وتشخيص الحالة المؤسَّسيَّة واقترابها من فكرة التَّطبيق والفرص والتحدِّيات، فتتَّجه إِلَيْه الأنظار وتُجنَّد لَهُ الطَّاقات وتُوفَّر لَهُ أدوات التَّشخيص والتَّحليل والمراجعات؛ وفق نظام مؤسَّسي مقنَّن ومؤطَّر، يلتزم معايير الكفاءة والجودة والمعياريَّة في الأداء، ويكتسب صفته الاعتباريَّة عَبْرَ التَّشريعات النَّافذة والقوانين المنظِّمة للعمل، وإلَّا ستظلُّ النَّتائج المتوقَّعة مِنْه خجولةً جدًّا.
? إنَّ البحث في مسار آمِن ومنتِج للدَّوام المَرِن، لا يأتي هكذا بِدُونِ مُقدِّمات تخطيطيَّة واستشرافيَّة ممنهجة أو يتحقَّق بِدُونِ مراجعات مقنَّنة، فبالرّغم من قناعاتنا بأهمِّيته الضروريَّة وفرصة التنافسيَّة، إلَّا أنَّه ـ كما أشرتُ ـ بحاجة إلى مزيدٍ من عمليَّات التَّقنين والضبطيَّة والمراجعة والتَّصحيح للواقع الوظيفي بحيث ينسجم مع أبجديَّات الدَّوام المَرِن والعمل عن بُعد، هذا الأمْرُ يدعونا إلى التَّفكير مليًّا في المسار الإداري الحالي، خصوصًا فيما يتعلَّق بوقت العمل وحجم العمليَّات الإداريَّة الروتينيَّة المتكرِّرة الَّتي باتَتْ تُشكِّل أحَد جراثيم الهدر في الجهاز الإداري للدَّولة، والَّتي تستدعي اليوم التَّركيز على مفهوم أعمقَ للإنتاجيَّة القادرة على قيادة التَّغيير وصناعة الفارق، في إطار تأصيل ثقافة العمل المنتِج، الَّذي يتمُّ وفق معايير المنافسة والإنجاز والقدرة والابتكاريَّة والمرونة والاستيعاب، وخلق قِيمة مُضافة لمفهوم العمل في حياة الموظف في التَّعامل مع المستجدَّات، الأمْرُ الَّذي سيُسهم في بناء وعي مُجتمعي ومؤسَّسي قادر على امتلاك أدوات التَّغيير والتَّأثير والاقتناع، وبناء ثقافة عمل قادرة على استيعاب ذلك بعيدًا عن الرّوتين أو النَّظرة التقليديَّة الَّتي تحجم العمل في دوام بمواصفات محدَّدة وبممارسات مشدَّدة، وهو في الغالب لتأدية واجب الحضور دُونَ النظر إلى الأبعاد الأخرى، وفق نظام إداري مدرِك لمفهوم القيادة في العمل المؤسَّسي ويمتلك عقليَّة الوفرة في فاعليَّة وكفاءة وإنسانيَّة تطبيق هذا النِّظام، بما يُتيحه من مساحة أكبر من الحُرِّيَّة الوظيفيَّة الَّتي تُعزِّز في الموظف، منطلق الدَّوافع والتَّجديد والتَّطوير والتَّحسين، بحيث يُمكِّن القيادات الإداريَّة بالوحدات من إتقان التَّعامل مع منطلقات هذا النِّظام وإدراك متطلَّبات التَّطوير في الفكر الإداري للمسؤول الحكومي وغيره، والمستويات الإداريَّة الأخرى بالمؤسَّسة.
? يبقى طرح خيار الدَّوام المَرِن والعمل عن بُعد ـ للحدِّ من الاختناقات المروريَّة ـ إن كان هذا أحَد الأهداف الوطنيَّة من التَّطبيق ـ محطَّة للتفكير الجمعي خارج الصندوق وبشكلٍ خاصٍّ في محافظة مسقط (من ولاية السيب إلى ولاية مسقط) في معالجة البطء الحاصل في تنفيذ متطلَّبات إعادة هيكلة المنظومة المروريَّة بكُلِّ تفاصيلها، سواء من حيث تأهيل شبكات الطُّرق وإلغاء الدَّوْرات وتنفيذ الجسور العلويَّة لِتُناسبَ وتستوعبَ حجم وأعداد المَركبات الَّتي تَسير فيها، وتطوير منظومة النَّقل العامِّ وتحسينها ورفع درجة الموثوقيَّة والكفاءة والجودة والخصوصيَّة والسُّرعة فيها، وتنفيذ خيارات وبدائل نقل جديدة لهَا دَوْرها وحضورها في المشهد العالَمي كالمترو والتَّخطيط الحضري الآمِن للمُدُن والاستفادة من التقنيَّات الحديثة والذَّكاء الاصطناعي في التَّقاطعات والإشارات الضوئيَّة، وبالتَّالي أن لا تقفَ جهود قِطاعات الدَّولة ومؤسَّساتها عِنْد حدٍّ معيَّن أو جهة واحدة أو مسار واحد، فتعدُّديَّة الخيارات وتنوُّع البدائل وجاهزيَّة الرّقابة والمتابعة وسرعة القرار، سوف تعطي مساحة أوسع للتَّطبيق، وجِديَّة أكبر في تبنِّي معالجات مُقنِعة لهذه المُشْكلة، ويُقلِّل من هاجس التحجُّج بالأعذار والتَّبريرات المتعلِّقة بالموازنة الماليَّة، أو تدنِّي مستويات التَّنسيق والتَّكامل بَيْنَها، لِتعملَ القِطاعات مُجتمعة بروحٍ تشاركيَّة واعدة كُلّ في مجال اختصاصاته ومسؤوليَّاته في تحقيق نتاج واضح على الأرض يُعزِّز من انسيابيَّة الحركة المروريَّة وتفتح المجال لمبتكرات قادمة في معالجة الاختناقات المروريَّة.
? أخيرًا، يجِبُ الانتقال بالدَّوام المَرِن لِيصبحَ ممارسة مستدامة، وسلوكًا أصيلًا في منظومة الجهاز الإداري للدَّولة، وأن يكُونَ تطبيقه في شهر رمضان فرصة لاستدامة تطبيقه في كُلِّ الشهور، خصوصًا في ظلِّ ما يحمله شهر رمضان من استثناءات تفرض على واقعنا الاجتماعي العامِّ أو الوظيفي العديد من التحوُّلات والممكنات الَّتي ينبغي الوقوف عِنْدها، فنصنع من خلال مقاربة بَيْنَ فترتيْنِ زمنيتيْنِ مرحلةً متقدِّمة في الإنجاز الإداري النَّوْعي بعد خضوعه للمزيد من المراجعات والاعتبارات والمعايير الفنيَّة والمهنيَّة والفكريَّة والضبطيَّة والتنظيميَّة والإداريَّة والتشريعيَّة الَّتي أشرنا إلى بعضها؛ كونه يتناغم مع مستهدفات رؤية «عُمان 2040» في إطار حوكمة الأداء المؤسَّسي، وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة، وتعظيم مسار الإنتاجيَّة في الأداء الحكومي، فإنَّ التوقُّعات إن تمَّ تطبيقه بالشَّكل الصَّحيح لجميعِ مؤسَّسات الدَّولة المَدَنيَّة والعسكريَّة والأمنيَّة والقِطاع الخاصِّ بِدُونِ استثناء أن يحقِّقَ الكثير من الفرص، ويُعالجَ الكثير من التحدِّيات والإشكاليَّات الَّتي تواجهها منظومة العمل اليومي.
د.رجب بن علي العويسي