لَمَّا كان شَهْرُ رمضان المبارك يحمل في دلالاته معاني الإنسانيَّة في سُموِّها، والروحانيَّة في اعتدالها، والأخلاق والقِيَم في تجلِّياتها، في ظلِّ مبادئ راقية، وقِيَم عادلة، ومنظورات للحياة السَّعيدة المطمئنَّة، الَّتي ترتشف من مَعِين التَّقوى غراسها، لبناء حياة الإنسان الواعي بمسؤوليَّاته نَحْوَها، المُدْرك لِحدُودِها وحُرماتها، السَّالك منهج الرَّشاد، المُتَّجه بكُلِّ مهنيَّة وإخلاص في صِدْق النَّفْس ورُقيِّها وقوَّتها ورغبتها وإصرارها وصبرها وحكمتها ووعيها نَحْوَ تحقيق هدف الصَّوم وبلوغ مقاصده الجليلة. وفي ظلِّ ما ينتجه الصَّوم من إعادة برمجة فِكر الإنسان وقناعاته، موَجِّهًا للتَّغيير والإصلاح النَّابع من الذَّات، ومنهجًا للعمل في ظلِّ مسؤوليَّة الفرد، ومدخلًا يَقِي النَّفْس عثراتها ويوجِّه مسارها، ويؤصِّل لهَا منهجها في العطاء النَّوْعي الرَّاقي، الَّذي يتجافَى وأسباب الشُّهرة والأنانيَّة والرِّياء أو كُلَّ ما يسلُب مِنْه مقاصد الإخلاص والمهنيَّة، المستنِد إلى فِقه الوعيِ وثقافة الالتزام واستدامة العمل والشُّعور الجمعي بالحاجة للإصلاح بعد بروز مؤشِّراته، وإدراك القِيمة المترتِّبة عَلَيْه، والَّتي ستكُونُ بمثابة إعادة صياغة جذريَّة للممارسة، وبناء سلوك إنساني قادر على إعادة لحْنِ الحياة من جديد في لهج الألسُن، بالشُّكر والدُّعاء والحمد والثَّناء، وبسط الأيدي بالصَّدقة والنَّفقة وأعمال البِر، وكفِّ الجوارح عن كُلِّ ما يُسيء لمعاني الحياة النَّبيلة أو يعكِّر مزاج النفوس المطمئنَّة، فتقوَى فيه أعمدة العطاء، وتتقدَّم مساحات الوعيِ، وتزداد أرصدة التواصُل والتَّعاون، وتبرُز قِيمة المبادئ الإنسانيَّة كإطارٍ يوجِّه حياة المُسلِم ويحتويها، ويُعزِّز من مساحة استثمار الفُرَص وزيادة أرصدة الإنجازات، وتعميق البحثِ عن بدائل مُتجدِّدة وآليَّات عمل متنوِّعة، ومناخات تقوَى فيها فُرَص العمل المشترك من أجْلِ تحقيق هدف التَّقوى، فيزداد إيمانًا وهدًى وخشيةً وخوفًا من الله ورجوعًا وإنابةً إِلَيْه.
وعَلَيْه، فإنَّ تجسيد أثَر هذه المعاني النَّبيلة والدّلالات السَّامية في حياة الإنسان وتأصيل فِقه المواطنة لدَيْه ناتج فيما تؤصِّله هذه العلاقة بَيْنَ الصِّيام وأخلاقه وقِيَم المواطنة ومبادئها في ظلِّ ما تستلهمه المواطنة من مدرسة الصِّيام في ترقيه معالَم السُّلوك الرَّشيد في الالتزام والإخلاص والعمل الجادِّ والتَّضحية والولاء والانتماء وكفِّ النَّفْس عن الأذى، والتزام نهج الخيريَّة، والرِّقابة على السُّلوك والتَّعايش والحوار وترقية النَّفْس بالذِّكْر، مدرسة إيمانيَّة لِتأصيلِ قِيَم الصِّدق والأمانة والرّقابة والمسؤوليَّة والحقوق والواجبات والطَّاعة والالتزام والصَّبر والتحمُّل والوحدة والشُّعور الجمعي الإنساني بالهدف والمصير، وإدارة الوقت وحُسن استغلاله بالطَّاعة والذِّكْر والعمل الجادِّ، والتنزُّه عن كُلِّ ما يؤدِّي إلى تشويهِ صورة الصَّوم في جماليَّاته وعظَمَة شأنه وقدسيَّته، وهي معانٍ تتجسَّد فيها روح المواطنة في استشعارٍ لِمَا حمَلته نهضة عُمان المُتجدِّدة في حقبها التاريخيَّة الممتدَّة والضَّاربة في أعماق التَّأريخ من أهداف بناء الدَّولة والإنسان وصناعة التَّنمية وتحقيق الأمن والاستقرار، لِتُصبحَ نواتج الصَّوم محطَّات ذهبيَّة لِتَهذيبِ النَّفْس وبناء الشخصيَّة القادرة على فَهْمِ ذاتها والعيش مع الآخر، وتأليف النُّفوس، وجمعها على كلمةٍ سواء، وإصلاح ذات البَيْن، وبناء الإنسان المتَّزن في فِكره وتفكيره، وانفعالاته وقناعاته، والصورة الَّتي يحملها حَوْلَ قضاياه المصيريَّة وأحداث الأُمَّة وموقفِه من فلسطين وما يحصل من حرب همجيَّة على غزَّة في استشعارٍ لمسؤوليَّته نَحْوَ الآخر وإيمانه بالمشتركات، وحسِّ الانتماء والتَّضامن العربي، والتَّعايش الَّذي يتجلَّى في سلوكه لِيُقدِّمَ للعالَم أعظم صوَر الإنسانيَّة والسَّلام والتَّسامح والتَّعايش، والقِيَم المشتركة والمشتركات الإنسانيَّة.
إنَّ شهْرَ رمضان بما فيه من خصال الخير فُرصة ثمينة لصناعة قِيَم التَّعايش الإنساني بكُلِّ تجلِّياتها؛ كونه يقوم على منظومة قِيَميَّة وأخلاقيَّة توجِّه مسار الفرد وترتبط بمشهد الممارسة اليوميَّة الجمعيَّة، وتُبرز قِيمة التَّعايش الفكري والأخلاقي والنَّفْسي الرُّوحي والاجتماعي وغيره في رمضان كموَجِّهات لجودة الحياة، والسَّلام الداخلي، وتحقيق الاستقرار النَّفْسي والسَّعادة والطّمأنينة، في قَبوله للآخر المشترِك والمؤتلِف، وتأكيد منطق الحوار وقَبول الرَّأي والرَّأي الآخر المختلِف؛ إذ يقابل السيِّئة بالحسَنة وفي الحديث «فلا يرفث ولا يفسق فإنْ سابَّه أحَد أو قاتلَه فلْيُقلْ إنِّي امرؤ صائم»، ناهيك عمَّا يؤكِّده رمضان من قِيَم الاعتدال في الاستهلاك، وحكمة التصرُّف في المواقف بكُلِّ مهنيَّة، والامتناع عن كُلِّ ما يُسيء لِسَليمِ القول ويخرجُه عن الاعتدال؛ ويُقدِّم من خلال نهج التواصُل الاجتماعي والعلاقات المُجتمعيَّة والزِّيارات وصِلَة الأرحام ومساعدة المحتاج والنَّفقة والصَّدقة ومواساة الآخرين وتذكُّر المحرومين والضعفاء شواهد ثابتة على القواسم المشتركة الَّتي يحملها هذا الدِّين العظيم والمواسم الإيمانيَّة والَّتي يحتاجها الإنسان في العيش في عالَم متغيِّر يحافظ فيه على سَمْته وأخلاقه ودِينه وقِيَمه، كما تحتاجه الأوطان في كُلِّ ما من شأنه تعظيم قدرها وبناء مواردها والاستثمار في ثرواتها والمحافظة على مكتسباتها والذَّود عن حياضها وتعظيم الوحدة والتَّكامل بَيْنَ أبنائها لِتتَّجهَ الولاءات والانتماءات نَحْوَ الوطن، فهو الأولويَّة والهدف والغاية، بعيدًا عن الأنانيَّة والمصالح الشخصيَّة والأفكار الأحاديَّة والمساومات على القِيَم والأخلاق والهُوِيَّة، فيظهر هذا التحوُّل الَّذي يعكسه رمضان على كُلِّ مسارات الحياة في أبعادها النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، يرسم البسمة على نفوس الآخرين من المحتاجين والضعفاء والفقراء، بمدِّ يد العون لَهُمْ، وسماع شكواهم، وإبصار أحوالهم وحالاتهم فيتبادل معهم المشاعر الجيَّاشة القائمة على الأخوَّة في الدِّين، وحُسن الظنِّ بالآخر، والثِّقة فيه. فرمضان بهذا المعنى حوار المبادئ وسلوك التَّعايش مع الآخر والتَّصالح مع النَّفْس، فالصَّوم واحد والهدف واحد والجميع يتشارك فرحة الصَّوم وفرحة الإفطار وفرحة الدُّعاء وفق تنافسيَّة معتدلة تأخذ بالأكثر حظًّا ممَّن عزَّز بصومه الجمع بَيْنَ نصيب الدُّنيا والآخرة. إنَّ شعور الفرد بهذه المعاني يغرس في ذاته قِيمة التَّعاون والتَّكامل ورُوح الفريق الواحد في العمل والتطوُّع والشركة والمشاركة مرتكزات لبناء المواطنة والتَّرقية في حياة المُجتمع.
لذلك فإنَّ كفاءة هذه العلاقة وفاعليَّتها ترتبط بجملة من الموَجِّهات الَّتي تُشكِّل جسور تواصُل ومحطَّات عمل مشتركة، تقوم على استثمار الفُرَص وتثمير الأدوات وترقية الفِكر وتهذيب السُّلوك واستيعاب المعطيات وخدمة المُجتمع، وتأصيل الرّقابة، فهي تحمل في فِقْهها وفلسفة عملها الخيريَّة والإنتاجيَّة، والقوَّة والمعياريَّة، والمصداقيَّة والنَّزاهة، وتوظيف الفُرَص وإعادة هندسة الذَّات، وتعظيم قِيَمه المبادرة والتطوُّع والعمل الخيري، ويصبح المواطن نتاجًا لتلك المبادئ العظيمة الَّتي أصَّلها فِقه الصَّوم. إنَّ شهرَ رمضان بهذا المعنى منطلقٌ لصناعة تحوُّلات كبيرة في حياة الفرد ومنْحِه فُرَصًا أكبر للإنجاز النَّوعي المصحوب بالابتكاريَّة والجاهزيَّة وإرادة الضَّمير وحسِّ المسؤوليَّة ودعوة النَّفْس للبحثِ عن بدائل عدَّة للمعالجة، فإنَّ إيجاد إطارٍ وطني ينطلق من مبادئ رمضان في صناعة أبجديَّات المواطنة وتجلِّياتها في كُلِّ مواقف الحياة اليوميَّة في الأُسرة والتَّعليم والإعلام والاقتصاد والثَّقافة وغيرها، موَجِّهات لِصناعةِ النَّماذج النَّاجحة وبناء أُطر تطويريَّة تنافسيَّة قادرة على قياس التحوُّل في السُّلوك العامِّ للفردِ والمؤسَّسة قَبْل رمضان وبعدَه وأثناءه، وهنا يتجذَّر أثَر القِيَم الإيمانيَّة في غرس حُب الإنجاز وتعميق الإنسانيَّة في الممارسة المهنيَّة، وأن يضْمنَ الجهد المؤسَّسي القادم الإبقاء على هذه النُّهُج الرمضانيَّة كممارسة يوميَّة لا تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة والأمكنة والمناسبات والأحداث. إنَّ الشعور المتولِّد لدى الفرد بمسؤوليَّته نَحْوَ صناعة هذا التحوُّل والإبقاء على خيارات رمضان مفتوحة ونواتجه مستمرَّة تؤتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ، مرهونٌ بمستوى القناعة المتولِّدة لدَيْه وثِقته في قدراته واستعداده لتحمُّلِ مسؤوليَّة تحقيق الغايات بجدارةٍ واستحقاق كفاءة لِيَصنعَ من رمضان فُرَصًا للتحوُّل ومنطلقًا لِتَغييرِ عاداته الوظيفيَّة واستدامة سلوك المهنيَّة لدَيْه.
وعَلَيْه، فإنَّ ترجمة معاني المواطنة وتجلِّياتها في ظلِّ ما رسَّخه شهر الصَّوم من قِيَم ومبادئ؛ إنَّما يأتي في إطار الهدف الَّذي سَعَتْ كُلٌّ مِنْها إِلَيْه، وآليَّات وأدوات كُلٍّ مِنْها الَّتي امتزجت برُوح التحدِّي والصَّبر والمُراجعة والتَّقييم، وهي تحمل دلائل لسلوك الإنسان وموَجِّهات حَوْلَ قراءته لِفِقْه الصِّيام وأنواره، والسُّلوك الَّذي ينبغي أن يظهرَ مِنْه نَحْوَه، والدَّور الَّذي عَلَيْه القيام به، في استفادته من قِيَم الصَّوم في تقوية الضَّمير والوازع والحسِّ المسؤول وتقدير الإنجاز ومراقبة الذَّات، وتأصيل الهُوِيَّة العُمانيَّة واستدامة التقدُّم والتطوير، فيستقي مِنْه مسار حياته ويوجِّه بوصلة اهتمامه نَحْوَ وطنه، منطلقًا من مبادئ الدِّين في رُقيِّ سلوكه نَحْوَ وطنه وطريقة تعامله مع منجزاته وحرصه على قيامه بمسؤوليَّاته، فيربِّي النَّفْس على العزَّة والكرامة والمسؤوليَّة الَّتي شكَّلت منطلقات عملت نهضة عُمان المُتجدِّدة على تأصيلها في فِقْه وقناعة المواطن العُماني، ورسَّختها في بنائها الدَّاخلي، فكانت المواقف والأحداث، كما هي التَّشريعات والقوانين، حافلةً بالتأكيد على هذا المسار، أو كان على صعيدها الخارجي وعلاقاتها الدوليَّة ترسيخًا لمبادئ الحقِّ والعدْل والتَّنمية والحوار السَّلام والتَّعاون الدولي.
وعِنْدها تُصبح مرتكزات رؤية «عُمان 2040» «مُجتمع إنسانه مبدع معتزٌّ بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام» محطَّات تصنع من هذه المواسم الدينيَّة صورةً مُتجدِّدة في بناء مفهومٍ أعمقَ للمواطنة المنتِجة والمواطن الواعي المخلِص الَّذي يحمل على عاتقه مَعِين القِيَم والأخلاق والمبادئ، وما يحيطها به من عناية واهتمام والتزام، وما يسكبه على التزامه وحكمة تصرُّفه من ماء الحياء، فيحافظ على مستويات أدائه في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة مرتفعة، ويعمل على توجيه قدراته واستعداداته وتهذيب سلوكه لِصَالحِ مُجتمعه ملتزمًا قِيَم الصِّدق والأمانة والرّقابة والنَّزاهة والمصداقيَّة والإخلاص والمهنيَّة؛ لِتتجلَّى في سلوكه الَّذي يُقدِّمه لمُجتمعه، والنموذج المنافس الَّذي يصنعه من نَفْسه وأخلاقه وسَمْته وهُوِيَّته الوطنيَّة أمام هذا العالَم.
د.رجب بن علي العويسي