جاء صدور المرسوم السلطاني رقم 20 / 2024 والمتعلق بإنشاء هيئة الخدمات المالية وإصدار نظامها ليعيد ترتيب منظومة الخدمات المالية ويعزز نزاهة واستقلال القطاع المالي في سلطنة عمان من خلال توسيع أعمال وقطاعات الهيئة لتشمل واحدة من أهم القطاعات المالية المهمة وهي الإِشراف والرقابة على مهنة المحاسبة والمراجعة بالإضافة إلى قطاعي سوق رأس المال والتأمين.
وفي هذا الصدد يمثل نظام عمل الهيئة الجديدة قانونا مرجعيا عاما لكل القطاعات التي تشرف عليها، وهو يمهد لإصدار تشريعات قطاعية من قوانين ولوائح خاصة لكل قطاع بما يتناسب مع طبيعته وتركيبته التنظيمية، تتجه جميعها إلى تحقيق منافع هيكلية وأخرى تشغيلية. أما المنافع الهيكلية فترتبط بإدماج القطاع المالي في منظومة صناعة القرار الوطني، وتعزيز دور الهيئة في توفير البيئة الاستثمارية المناسبة لتحقيق التنويع الاقتصادي، وتشجيع الاستثمار، وتطوير القطاع الخاص، ومبادرات العمل والتشغيل، وتعزيز التعاون الدولي. أما المنافع التشغيلية فعديدة من أبرزها تعزيز الدور التنظيمي والرقابي للهيئة، وتمكين بناء قدرات وطنية ورأس مال بشري في قطاعات تخصصية تجذب الشباب من الذكور والإناث إلى هذا القطاع الواعد.
ولتحقيق ذلك كله، ولتيسير إدماج الهيئة في منظومة صنع القرار الوطني وتفعيل دور القطاع المالي كقطاع ممكن للتنمية الاقتصادية، كان ضروريا العمل على تيسير صناعة القرارات الاستراتيجية العليا ذات الصلة باختصاصات الهيئة بشكل مستقر وواضح، والذي تحقق من خلال التبعية المباشرة لمجلس الوزراء الموقر، إلى جانب أن النظام أتاح لمجلس إدارة الهيئة تشكيل لجان استشارية دائمة أو مؤقته الأمر الذي سيسهم تفعيل المشاركة المجتمعية والقطاعية بين الهيئة والجهات الأخرى بما يسهم في تمكين الهيئة من المساهمة بفاعلية لترجمة الأولويات الوطنية وبرامج التنمية الشاملة والمستدامة.
ومن هنا فقد ارتكز نظام عمل الهيئة في صياغته على ثلاث مرتكزات رئيسة في تنظيم القطاع المالي غير المصرفي في سلطنة عُمان، حيث يتمثل أول هذه المرتكزات في تعزيز حماية حقوق المستثمرين والمتعاملين مع القطاعات التي تشرف على تنظيمها، وتعزيز الثقة في الأسواق والتشجيع على الاستثمار وتحقيق الشمولية الاقتصادية. ويتمثل المرتكز الثاني في تمكين هيئة الخدمات المالية من القيام بأدوارها الاشرافية والرقابية بما يتواءم مع متطلبات الرؤية الوطنية عمان 2040، ومستجدات المبادئ والمعايير الدولية التي تضعها المنظمات الدولية مثل المنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية (IOSCO)والجمعية الدولية لمراقبي التأمين (IAIS) من خلال جملة من الصلاحيات والاختصاصات، أما ثالث هذه المرتكزات هو تعزيز الاستقرار المالي من منظور القطاعات التي تشرف عليها الهيئة بما يضمن كفاءتها وقدرتها على تجاوز التحديات وإدارة المخاطر والأزمات.
جدير بالذكر أن إنشاء هيئة الخدمات المالية بهذه التسمية جاء ليجسد شمولية وعمق القطاعات التي تشرف على تنظيمها بموجب المرسوم، كما أن هذه التسمية تسمح بإضافة أنشطة جديدة قد تظهر في المستقبل، حيث يستوعب مفهوم الخدمات المالية القطاعات المالية غير المصرفية بأنواعها ومجالاتها المختلفة، وهو ما يتناسب مع المهام والمسؤوليات المناطة بالهيئة، والتي أشارت إليها المادة الخامسة، حيث تقوم الهيئة بالتنظيم والإشراف والرقابة على أسواق رأس المال بكافة مكوناتها، وقطاع التأمين ووكالات التصنيف الائتماني، كما أن نظام عمل الهيئة أتاح لها الإشراف على تنظيم سوق السلع والطاقة، وهي خطوة جديدة لتنظيم ما يتعلق بالمنتجات المرتبطة بكل ما يمكن تصنيفه ضمن سوق السلع مثل الكربون والذهب والمنتجات الزراعية أو سوق الطاقة مثل البترول والطاقة الكهربائية وغيرها.
وفي نقلة تنظيمية رائدة لتطوير مكاتب تدقيق الحسابات والارتقاء بمستوى أدائها نحو أفضل مستويات النزاهة والمصداقية، حددت المادة المشار إليها أعلاه بأن تتولى الهيئة تنظيم مهنة المحاسبة والمراجعة، ويمكن القول بأن التركيز على تعزيز البنية التنظيمية والرقابية لمهنة المحاسبة والمراجعة يعد حلقة متممة لتطوير القطاع المالي الوطني، وهو ما سيمتد أثره بشكل إيجابي في معالجة الكثير من التحديات المرتبطة بسلامة البيانات ودقة التقارير المالية لمؤسسات القطاع الخاص، وبطبيعة الحال الثقة في الأسواق المالية والجهات العاملة بها.
ومن بين المنافع التشغيلية المتوخاة من إنشاء هيئة الخدمات المالية تسهيل الوصول إلى المعلومات، ولذا أتاح المرسوم حق الوصول إلى المعلومات والمستندات المتعلقة بالجهات الخاضعة لإشراف الهيئة لكل صاحب مصلحة، الأمر الذي يقوي حق الوصول إلى المعلومات ضمن الأطر المعقولة والعادلة، وهو ما يعزز مبادئ الشفافية والنزاهة.
وفي نفس السياق أتاح المشرع للهيئة صلاحيات رقابية أوسع لترجمة القوانين والتشريعات المنظمة من خلال عمليات التدقيق والتفتيش على الجهات الخاضعة لإشرافها سواءً أكان ذلك ميدانيا أو مكتبيا أو من خلال الربط الإلكتروني عبر الأنظمة الإلكترونية الآلية، متيحا السند القانوني لتقنيات الرقابة والإشراف المالية، ومتوائما مع النهج الحكومي نحو التحول الإلكتروني والتقنيات المتقدمة.
وفي سياق تمكين الهيئة من القيام بأدوارها الإشرافية أولى المشرع للهيئة الحق بتطبيق كل ما يلزم لتنفيذ النظام، كما أناط بها وبشكل واضح تنظيم التحقيقات الإدارية وما يستلزم من استدعاءات وطلب حضور المخالفين للتشريعات المحلية المتعلقة باختصاصاتها أو عند وقوع مخالفة لأحكام القوانين النظيرة خارج سلطنة عمان، معززا مكانتها الدولية، وميسرا تكاملها مع الاقتصادات العالمية.
وفي نظرة مستقبلية مستمدة من رؤية عمان 2040، جاء نظام عمل هيئة الخدمات المالية إلى تحقيق غاية وطنية ألا وهي التوسع في الجهود المبذولة حاليا من قبل الهيئة في تمكين رأس المال البشري في القطاعات التي تشرف عليها الهيئة، والمتمثلة في تمكين الكادر الوطني من الانخراط في مجالات تخصصية جديدة الأمر الذي يعزز من دور القطاع الخاص لاستيعاب الكوادر الوطنية في مهن نوعية تحتاج إلى مهارات وقدرات فنية عالية، فبالإضافة إلى القطاعات التخصصية الجديدة التي ستشرف عليها الهيئة الآن تنظيما ورقابة، سمح النظام للهيئة بتأسيس أو المساهمة في تأسيس مؤسسة تعليمية أو تدريبية مهنية متخصصة بهدف رفد القطاعات والأنشطة التي تخضع لتنظيم ورقابة وإشراف الهيئة.
هيئة تشريعاتها مرنة وتحفز على الابتكار
وفيما يتعلق بالمنافع التشغيلية التي يسعى النظام إلى تحقيقها فهي ترتبط بالأعمال التخصصية والقطاعية والتي من أبرزها تسهيل ابتكار واستحداث وسائل تمويلية جديدة أو غير تقليدية لاسيما مع اقبال سلطنة عمان على مشاريع وطنية عملاقة وأخرى متوسطة الحجم، وتتمثل ترجمة هذه المنفعة من خلال ما أشارت إليه المهام المسندة إلى الهيئة حيث يمكن للهيئة اعتماد تطبيق خدمات أو أنشطة أو تراخيص لفترة مؤقتة، تمهيدا لإصدار تشريعات جديدة خاصة بها. ويؤكد النظام في بنوده التشريعية على ضرورة قيام الهيئة بتهيئة البيئة المناسبة للابتكار لتقديم خدمات ومنتجات تلبي حاجة المجتمع حيث يمكن استحداث منتجات وأدوات مالية جديدة بما في ذلك منتجات وخدمات استثمارية وتأمينية مبتكرة وتعتمد على التقنية المالية تتسق والوضع الاقتصادي الحالي.
وتحقيقا لضمان توفر الاستقرار المالي للقطاعات التي تشرف عليها هيئة الخدمات المالية فقد أجاز نظام عملها اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة وفرض الجزاءات وفقا لما تبينه اللوائح التي تصدر في هذا الشأن وذلك في حالة وجود خطر يهدد استقرار سوق رأس المال والأسواق المرخصة أو سوق التأمين أو أي من القطاعات المالية أو الأنشطة أو الخدمات التي تخضع لرقابة الهيئة وهذه الصلاحيات تسهم في تعميق النمو الذي تظهره الشركات والمنشآت التي تشرف عليها الهيئة، والنمو المتوقع لها خلال العقود القادمة، مما سيسهم في تطوير أداء مؤسسات القطاع الخاص.
هوية جديدة
وبمناسبة إعادة هيكلية قطاع الخدمات المالية بصدور المرسوم السلطاني المتعلق بإنشاء هيئة الخدمات المالية وإصدار نظامها أطلقت الهيئة هويتها لتعبر عن هيئة حكومية وطنية تربطها علاقات راسخة مع العالم من حولها، وتسير بثقة في طريقها لترسيخ الدور الاستراتيجي الذي تلعبه، فهي تنظم وتشرف على القطاع المالي غير المصرفي بما فيها سوق رأس المال وسوق التأمين، ومكاتب المحاسبة والمراجعة، لتسهم بذلك في تهيئة البيئة الاستثمارية الآمنة والمتكاملة في مكوناتها، وهو ما يدعم في تشكيل حياة عنوانها الرخاء والازدهار في سلطنة عمان.
وقد جاءت فكرة شعار هيئة الخدمات المالية من المقبض الأنيق والقوي في بوابات جامع السلطان قابوس الأكبر، فالمقبض يرمز إلى الحزم والثقة، والبوابة ترمز إلى الأمان والالتزام وفي ذات الوقت إلى الربط بين الكوامن الداخلية والآفاق الخارجية، وكل ذلك عبر المقبض الأنيق والقوي، وهذا هو دور هيئة الخدمات المالية في سلطنة عُمان. لقد ألهم هذا الرمز إنشاء هوية بصرية فريدة وعلامة متفردة بمزجها بين الأصالة والمعاصرة، الحاضر والمستقبل، بين ثوابت الهوية العمانية ورواسخ العمل التنظيمي والرقابي، لتكون أمانا وطمأنينة وثقة وحزما.
وتبرز الهوية الجديدة القيم والشخصية والنبرة التي تتشكل منها المنهجية التي تمارس فيها هيئة الخدمات المالية أدوارها الرقابية والتنظيمية والتطويرية للقطاعات المالية التي تشرف عليها ، حيث تشكل الاستقلالية، والاستقامة، والطموح، والشمولية قيما للهوية، فيما تبرز الريادة، الخبرة، الواقعية والوعي، الشخصية المؤسسية للهيئة في تنفيذ مهامها وبناء استراتيجيتها، معبرة في مجملها أن هيئة الخدمات المالية هي مؤسسة ملهمة وحازمة ومطمئنة وواثقة في خطواتها وتعاملاتها وسعيها نحو وضع منظومة من التشريعات والنظم التي تعزز فاعلية الجهات التي تشرف عليها في تطوير الخدمات والمنتجات للجمهور، لنتقدم جميعا بثقة.