يُمثِّل الالتزام قِيمة معنويَّة مرتبطة بسلوك ممارس في إطار من المعرفة والفِكر والقناعة الَّتي تتولَّد لدى الموظَّف، فأصبحت سلوكًا أصيلًا ومَنهج عمل يُعرف به في شخصه، ودليله لِمعرفةِ الآخرين به؛ يغلب عَلَيْها طابع التَّنظيم والاستمراريَّة والاستدامة، فإنَّ إسقاط ذلك على أئمَّة المساجد في إطار مهامهم الوظيفيَّة الَّتي حدَّدها القانون يؤصِّل مرحلة متقدِّمة في استشعار حساسيَّة المُهِمَّة وعظَمة الرِّسالة، لِتنعكسَ على فِكر إمام المسجد ووجدانه، ومشاعره وأحاسيسه، وقناعاته وثوابته، والتزامه ومسؤوليَّاته فلا مجال للتَّراجع والانسحاب أو عدم المبالاة وعدم الجِديَّة، ولا مبرر للتَّذكير المستمرِّ به؛ كونه مبدأ أخلاقيًّا وإنسانيًّا يحتكم إِلَيْه.
إنَّ التزام أئمَّة المساجد، الطَّريق لِحفظِ الحقوق المهنيَّة وممارسة المسؤوليَّات الوظيفيَّة بكُلِّ كفاءة، والحلقة الأقوى في معادلة بناء منظومة الحوكمة، وترسيخ معالم الإنتاجيَّة في الأداء، والرِّهان الأكبر في قدرتهم على إثبات بصمة حضور نوعي في تفعيل رسالة المسجد، وامتلاكهم أدوات التَّغيير وآليَّاته، وإعادة إنتاج مهامهم الوظيفيَّة وضبطها بطريقة أكثر ذكاءً وحكمةً وعدالة، فيما يقدِّمه التزام الأئمَّة من فُرص ومُقوِّمات نجاح، تظهر في كُلِّ المجالات المرتبطة برسالة المسجد ومهام الأئمَّة، لِتنعكسَ إيجابًا على علاقات أهلِ المنطقة ببعضهم، ورفع درجة الاهتمام لدَيْهم بتلبية احتياجات المسجد والجامع، والسَّعي الحثيث المشترك بأن يُسهمَ جميعهم في كُلِّ ما من شأنه تحقيق رسالة المسجد في المنطقة، وقيامه بأدواره الثقافيَّة والاجتماعيَّة والتثقيفيَّة والتوعويَّة، ولمِّ الشَّمل، ووحدة الصَّف وتعظيم روح الأخوَّة، وقِيَم التَّكافل والإنسانيَّة وحقوق الجوار؛ وعِنْدما يستشعر إمام المسجد قِيمة الالتزام، ويجعله في أولويَّاته، ويعظِّمه في ذاته وقناعاته وتفكيره، حتَّى يصبحَ هاجسه، وهدفه ومبتغاه، وقراره واستراتيجيَّته في إدارة العمل في المسجد والجامع، وطريقته في معرفة النَّاس به، وتفاعلهم مع جهوده، فيجعل من التزامه مبدأ وثوابت ينطلق مِنْها بغْيَة الإصلاح، ويصنع له حضورًا في ذاته، ويؤسِّسه في حواراته مع أُسرته، ويستحضر أولويَّته لِتسبقَ هواياته أو ما يمارسه من مشاريع الرِّزق أو غيرها، فَيُعِيد تشكيل الظروف، وتهيئة برنامجه اليومي وضبطه لِيتَّجهَ نَحْوَ تحقيق هدف الالتزام؛ فيقتربَ من النَّاس، ويقفَ على وضع المسجد أو الجامع، ويسخِّرَ له أسباب القوَّة والتَّمكين، مستثمِرًا إمكانات أهلِ المنطقة في تحقيق نموذج مُبهر، يبني فيه مع أهلِ المنطقة التزامًا، يسع الجميع خيره، وينفتح على الكُلِّ عطاؤه، عِنْدها يصبح الالتزام مساحة أمان، ومحطَّة مُتجدِّدة لإعادة إنتاج الواقع، والتقاط الأنفاس لإنجاز يفخر به، والتزام يستشعر فيه معاني التَّقدير والاحترام بالذِّكر الطيِّب، والإشادة الحسَنة، والسُّمعة الطيِّبة من قِبَل القائمين على هذه المساجد والمُتردِّدين عَلَيْها، فينطلق من التزامه بمُهِمَّة إقامة الصَّلاة بالنَّاس إلى أرحبِ الآفاق، بما يمارسه من أدوار ثقافيَّة واجتماعيَّة ودينيَّة وتثقيفيَّة وتربويَّة وتوعويَّة، تُعزِّز في أهلِ المنطقة روح الانسجام والتَّقارب والتَّكامل والتَّناغم، ويوقد فيهم من شعلة الوعيِ وشموخ الإنجاز، وحُبِّ الخير والتَّواصي والتَّناصح، والأخذ بِيَدِ بعضهم البعض، فيوجِّههم إلى العمل الجمعي الخيري لِصالحِ المسجد وأهلِ المنطقة، فتتَّجه الأنظار نَحْوَ تحقيق سلام داخلي، وحوار بنَّاء، ولقاء مفعم بالحميميَّة، لِتتلاشَى عِنْدها الضَّغائن والتَّراكمات، والأحقاد والكراهيَّات، والمتعلِّقات وشخصنة الأحداث الَّتي كانت سببًا في الاختلاف والتَّباين.
عَلَيْه، ينطلق طرحنا للموضوع من فرضيَّة أنَّ تعظيمَ مسار الالتزام في السُّلوك الوظيفي والمِهني لأئمَّة المساجد يُشكِّل التحدِّي الأكبر الَّذي يواجه منظومة الحوكمة، في ظلِّ تزايد المؤشِّرات والتَّقارير والمشاهدات التراكميَّة الَّتي باتت تفصح عن قصور في هذا الالتزام لدى أئمَّة المساجد، وتراجع في الإنتاجيَّة، النَّاتج عن غياب منظومة المتابعة والرقابة على الأئمَّة والمُشرِفين والكادر العامل في هذا القِطاع، ما يعني الحاجة إلى تبنِّي سياسات وبرامج تؤكِّد هذا الالتزام، وتُعظِّم من شأنه، وتؤصِّل في أئمَّة المساجد أحكامه ومبادئه وضروراته، بحيث تخلق فيهم حسَّ المسؤوليَّة والرِّقابة الذَّاتيَّة، وتُذكي فيهم قِيَم المنافسة، وتفرض فيهم الالتزام الذَّاتي النَّابع من صدق الإيمان برسالة المسجد وأدوارهم المتعاظمة ومسؤوليَّاتهم المُتجدِّدة في ظلِّ معطيات ثورة الواقع التِّقني والتَّحديات الَّتي باتَ يواجهها النَّشء، وبما يفرضه القانون من التزامات مهنيَّة ووظيفيَّة على الموظَّف الحكومي أن يلتزمَ بها، فيقع على أئمَّة المساجد ما يقع على نظرائهم من الموظَّفين الحكوميِّين بالجهاز الإداري للدَّولة، من مساءلة ومحاسبة، وإجراءات إداريَّة وتنظيميَّة، وتقييميَّة ورقابيَّة، ومتابعة وقياس الأداء ومؤشِّرات الإنتاجيَّة.
ومع الاهتمام الَّذي تُولِيه وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة الموقَّرة، في إطار تحقيق أولويَّات رؤية عُمان 2040، وتوجُّهاتها المرتبطة بحوكمة المساجد، والَّتي يأتي من بَيْنِها، بناء قدرات الأئمَّة ورفع كفاءة أدائهم، وتفعيل أدوارهم الدينيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة في إطار إعادة هيكلة دَوْر الأئمَّة، أو كذلك ما يتعلق بتعظيم مسار الانضباط الوظيفي والالتزام المهني، كأسلوب حياة ومَنهج عمل في ظلِّ طبيعة المُهِمَّة وخصوصيَّتها والإطار الَّذي تعمل فيه في ظلِّ ارتباطها بمُجتمع له ثقافات مختلفة وقناعات متغايرة وظروف وتراكمات يوميَّة يعايشها أئمَّة المساجد؛ أو من خلال تبنِّي سياسات وإجراءات أكثر تقنينًا وضبطيَّة، تستهدف رفع كفاءة معايير وأدوات المتابعة والرقابة وأنظمة التَّقييم المستمرِّ على أداء أئمَّة المساجد والجوامع لِتَحقيقِ الغايات الوطنيَّة، وصناعة النَّماذج والقُدوات وتعظيم عرصات المنافسة الَّتي تنطلق من ميادين العمل بالمساجد، وتعكس هُوِيَّته وخصوصيَّته الَّتي صقلت الشَّخصيَّة العُمانيَّة، وبالتَّالي أهمِّية أن تتَّجهَ جهود وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة في سبيل تحقيق التزام وظيفي مستدام من أئمَّة المساجد والمُشرِفين، عَبْرَ استحضار جملة من المُوَجِّهات، ومن ذلك:
ـ إيجاد آليَّة عمل واضحة في تقييم أداء أئمَّة المساجد والجوامع والوظائف الأخرى المرتبط بها، وضبْط الالتزام الوظيفي لدَيْهم وفق أدوات واضحة، وآليَّات مقنَّنة، وبرامج مؤطَّرة واستراتيجيَّات محكمة، تقف على واقع السُّلوك الممارس وحيثيَّاته وتقيس نتائجه بناء على الاستفادة من كُلِّ المتابعة والرَّجع الميداني، بحيث تأخذ مسألة التَّقييم في الاعتبار جملة من المتغيِّرات، المرتبطة بالإمام نَفْسه مهاراته وقدراته ومبادراته أو الأخرى مِثل: سَعة المسجد، وطبيعة المنطقة الَّتي يخدمها، وأعداد المُصلِّين فيه، والأبعاد الثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في المنطقة، مستفيدةً من التَّطبيقات والبرامج الإلكترونيَّة المحوسبة في هذا الأمْرِ.
ـ تعزيز الضبطيَّة الرقابيَّة على الإشراف الدِّيني وتفعيل دَوْره فيما يتعلَّق بتقييم وقياس أداء أئمَّة المساجد وتقديم تقارير دوريَّة توَجَّه إلى الدَّائرة المختصَّة بالوزارة بشأن الملاحظات المُسجَّلة على إمام المسجد من قِبَل مُجتمع المسجد، وخطَّته التطويريَّة في الارتقاء بالمنطقة من خلال تفعيل أدوار المسجد ومسؤوليَّاته، وتكوين همزة وصل مؤطَّرة ومنتِجة بَيْنَ المُشرِفين على المساجد والأئمَّة بحسب القِطاعات ووكلاء المساجد والأمناء، وأئمَّة المساجد بحيث يتمُّ عقْدُ اجتماعات ولقاءات تقييميَّة وتشخيصيَّة دوريَّة للتعرُّف على التحدِّيات والصعوبات الَّتي يواجهها إمام المسجد وأدوار الوكلاء والأمناء في تذليلها ودَوْر الوزارة في الحدِّ من هذه الصعوبات بالشَّكل الَّذي يقدِّم لإمام المسجد بيئة عمل مريحة وجاذبة يجد فيها فُرصته لإثبات جدارته، وتحقيق مبادراته.
ـ تبنِّي إطار وطني لِضمانِ حوكمة المساجد يأخذ في الاعتبار إعادة هيكلة المساجد، إشرافًا ومتابعةً، وصيانةً، وتقييمًا، وتوسعة، وتتحدَّد من خلالها اختصاصات ومهام إمام المسجد، والوكلاء والأمناء، وإدارة الوقف؛ وإدارة الأنشطة التجاريَّة الملحقة بالمسجد، ومصلَّيات النِّساء وغيرها من المرافق المًلحَقة بالمساجد بحيث تُحدَّد عَبْرَ هذه اللائحة الضَّوابط والشُّروط والتوَجُّهات والأحكام ذات الصِّلة.
ـ تبنِّي برامج تدريبيَّة وتأهيليَّة مستدامة تُحدَّد في ضوء الاحتياجات التدريبيَّة العامَّة لأئمَّة المساجد في مجالات الحفظ، وأحكام التَّجويد، ودروس التِّلاوة، والتَّرتيل وحُسن الصَّوت، والقراءات السَّبع وتعريفهم أو تزويدهم ببعض هذه القراءات، خصوصًا في ظلِّ التنافسيَّة الحاصلة من قِبَل الأئمَّة الوافدين من بلاد المغرب العربي أو إفريقيا، وما يظهر من إتقانهم للكثير من الأحكام والقراءات، الأمْرُ الَّذي باتَ لَهُ أثَره في استحسان النَّاس لهذا الأمْرِ.
ـ إعادة هيكلة عمل أئمَّة المساجد العُمانيِّين وضمان قدرتهم على المنافسة والكفاءة الأدائيَّة ورفع درجة الالتزام والجاهزيَّة الوظيفيَّة لدَيْهم، في ظلِّ ارتفاع أعداد الأئمَّة القادمين من خارج سلطنة عُمان، والَّذي باتَ يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا على الأئمَّة العُمانيِّين، خصوصًا مع توافر الأئمَّة الوافدين بالأجْرِ اليومي أو الشَّهري والسَّنوي وارتياح النَّاس لَهُم، إمَّا لإتْقانهم للعديد من القراءات، أو ترتيلِهم للمصحف وأصواتهم الحسَنة في القراءة، أو والأهمُّ من ذلك التزامهم بالصَّلاة بالنَّاس في كُلِّ الأوقات، وقُربهم من سكَّان المنطقة بعد كُلِّ صلاة في ما يقدِّمونه للأطفال من دروس للحِفظ وحلقات الذِّكر وتجويد القرآن.
ـ رصْد وضبْط ومراقبة بعض التصرُّفات والظواهر الَّتي باتَ لهَا حضورها في الواقع، ومن ذلك مثلًا: «يظنُّ بعض الأئمَّة أنَّ في منحِ أبناء المنطقة فُرص الصَّلاة بالنَّاس في أوقات العمل، ـ أي من غير الإجازات المقرَّرة لأئمَّة المساجد ـ دعوة للتشاركيَّة والتَّعاون وفُرصة لِتقريبِ أهلِ المنطقة من المسجد، وتعويدهم على الاعتماد على النَّفْس»؛ وانطلاقًا من أنَّ جوهر القضيَّة وأساسها في وجود أئمَّة المساجد ليست الصَّلاة فحسب، بل مهام أخرى تقوم عَلَيْها طبيعة هذه المُهِمَّة، وهي مبدأ الالتزام؛ أي التزام الإمام ذاته بأداء مسؤوليَّاته، والوقوف على مهام عمله وتنفيذ اختصاصاته بحسب ما تقرُّه قوانين الوظيفة العامَّة، لذلك أدَّى هذا التوجُّه ـ للأسف الشَّديد ـ إلى أن يكُونَ مساحة للتَّساهل وفُرصة يجد بعض الأئمَّة فيها مبرِّرًا للغياب والانقِطاع عن المسجد، لِقناعتِه بأنَّ هناك مَن يقوم مقامه بمُهِمَّة الصَّلاة بالنَّاس، واتَّجه إلى ممارسة نشاطه الاقتصادي أو مهامه الأخرى خارج وظيفته الأصليَّة كإمام مسجد، حتَّى أصبحَ هذا الفعل لكثرة تكراره أحَد مشوِّهات رسالة الأئمَّة، وإحدى الثَّغرات الَّتي أدَّت إلى ارتفاع عدد الشكاوى المقدَّمة على أئمَّة المساجد؛ ما يؤكِّد أهمِّية أن تقومَ الوزارة باتِّخاذ الإجراءات الضبطيَّة المقرَّرة في الحدِّ من هذا الهدر الوظيفي، وتعظيم مبدأ التزام الأئمَّة، معيار أصيل للمنافسة والإجادة الوظيفيَّة والحصول على التَّرقية الماليَّة تجسيدًا لمبدأ حوكمة المساجد.
د.رجب بن علي العويسي