إن مسألة ماهية الشريعة الإسلامية، فيما يتعلق بالشريعة والفقه في العصور الوسطى أو القانون الوضعي للدول الإسلامية اليوم – لا تقل إشكالية (إن لم تكن أكثر) من مسألة مفهوم القانون بشكل عام، ففي العلوم القانونية المحلية والأجنبية، غالباً ما يتم استخدام مفاهيم الشريعة الإسلامية كمرادفات، أو يتم ربط الشريعة الإسلامية بالشريعة أو الفقه، أو أن المبادئ الدينية والقانونية للشريعة الإسلامية ليست منفصلة عن بعضها البعض، حيث غالباً ما يُفهم وضع القواعد على أنها مصادر للقانون، وهذا الظرف يعطي أسباباً لبعض الفقهاء المثقفين لإنكار الطبيعة القانونية للشريعة الإسلامية تماماً.
فلم يفهم العلم القانوني العلماني بعد جوهر الشريعة الإسلامية بشكل كامل، وقد ساهمت عدة أسباب في ذلك، فمن ناحية، تكمن المشكلة في أن المعرفة للشريعة الإسلامية تطورت نتيجة لدراسة المواد التي جمعها الرحالة والمؤرخون وليس الفقهاء من وجهة نظرهم، ولذلك، لم تكن قادرة على نقل الطبيعة القانونية الكاملة للشريعة الإسلامية بشكل موثوق.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه العواقب التي يصعب حلها، كانت نتيجة لتدخل العلم الوضعي في دراسة القانون بشكل عام والشريعة الإسلامية بشكل خاص، والذي يرى أن العلم يجب أن يصف الحقائق فقط، أما العلم الوضعي، الذي يركز على العلامات الخارجية، فلم يتمكن من التغلغل في جوهر الشريعة الإسلامية.
بالتالي، إن اللون الديني الخارجي للشريعة الإسلامية، والذي يعد من مشاكل فهمه، لا يسمح بتمييز طبيعته القانونية، ونتيجة لذلك، ظهرت نظرية أدنى للشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن عدم كفاية المنهج الوضعي في تحديد جوهر الشريعة الإسلامية يقتضي اختيار أسلوب آخر.
بالإضافة إلى ذلك، هناك شيء واحد واضح وهو أنه من أجل تحديد جوهر هذا المفهوم، من الضروري دراسة عملية تشريع وجود المسلمين، وظهور المعايير وتشكيل مبادئ الشريعة الإسلامية، ومصادرها المادية والشكلية، من حيث فعالية وصلاحية الشريعة الإسلامية، دورها وتأثيرها على علاقات المسلمين في مختلف مجالات الحياة، فالوضع الحالي للشريعة الإسلامية، يتطلب فهم المصطلحات المستخدمة في الشريعة الإسلامية، والتمييز بين جوهر التكنولوجيا القانونية، والقاعدة – أي عملية صنع القانون وعملية تطبيقه، وتصور المسلمين للشريعة الإسلامية، وما إلى ذلك.
وهذا يعني أن القانون الإسلامي لا يرتبط فقط بالدولة والتشريعات المنبثقة من الدول الإسلامية، لذلك، لدراسة جميع التساؤلات أعلاه، حيث أن الإجابات عليها ستساعد في الكشف عن جوهر الشريعة الإسلامية، فمن الواضح أن اتباع نهج وضعي واحد بمنهجيته بأكملها ليس كافياً، لكن الشريعة الإسلامية ليست ظاهرة مستقلة، مثل القانون العرفي على سبيل المثال، وفي هذه الحالة، فإن النهج التاريخي ليس كافياً هنا أيضاً، وهذا يجعل من الضروري تطبيق منهج مشترك، أو بمعنى آخر، منهج متكامل، يتجاوز إطار المعرفة الذي تطور في مجال هذه الظاهرة.
بالتالي، إن الشريعة الإسلامية ظاهرة اجتماعية معقدة ومتعددة الأوجه ولها تاريخ طويل من التطور، بالإضافة إلى ذلك، مع تطور الدول الإسلامية، تغير شكل التعبير الخارجي، ولهذا السبب، يبدو أنه من المستحيل دراسة وفهم الشريعة الإسلامية دون استخدام علوم مثل التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس، وكذلك القانون.
في اللغة العربية، تعني الشريعة “الطريق إلى المصدر”، “الطريق الصحيح”. يستخدم المسلمون هذه الكلمة كرمز لأسلوب الحياة الكامل الذي وصفه الله سبحانه وتعالى، باتباع هذا الطريق، يصل المؤمن إلى الكمال والرفاهية الدنيوية، ويمكنه بعد حياته الدنيوية أن يعتمد على الرحمة الإلهية، على سبيل المثال، في القرآن الكريم، قوله تعالى: “ثم هديناك على الطريق” ويسمى هذا المسار “الشريعة” باللغة العربية – من الفعل “شعر” الذي يتكرر في القرآن الكريم، ويعتبر الالتزام الصارم بمبادئه في الإسلام مؤشرا لا لبس فيه على الإيمان الحقيقي بالله تبارك وتعالى، بالتالي، إن الشريعة هي المفهوم الأقرب إلى الإسلام، وهي جوهر أسلوب حياة المسلم، والنموذج المثالي الذي يجب على المسلم أن يتبعه في أفكاره وأفعاله.
بالإضافة إلى ذلك، هناك مفهوم آخر للشريعة، يتم تعريف “الشريعة” على أنها الأوامر المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية والتي تحدد المعتقدات وتشكل الضمير الديني والقيم الأخلاقية للمسلمين، كما أنها بمثابة مصادر للتوحيد، والقواعد التي تنظم سلوكهم؛ ومجموعة من الأوامر الحتمية التي وضعها الله تعالى ونقلها إلى الناس عن طريق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا تم الاقتصار على الأحكام فقط، فإن هذا التعريف يشوه المعنى الحقيقي للشريعة، لأن الشريعة، لا تفرض على الإنسان واجبات دينية إلزامية فحسب، كما يعتقد العديد من الباحثين في الشريعة الإسلامية، معتبرين إياها نظاماً للأخلاق، ولكنها توفر أيضاً فرصاً كبيرة للمبادرة الحرة في الشؤون الدنيوية.
وتجدر الإشارة إلى أن قواعد القرآن الكريم، بحسب درجة اليقين، تنقسم إلى قواعد محددة بدقة، لها معنى واضح وأحكام مفهومة لا لبس فيها.
فالمعايير لا تحدد قواعد سلوك محددة، بل أطر عامة ومبادئ توجيهية ومبادئ، حيث تتضمن تقريباً جميع القواعد المتعلقة بأداء المسلمين لواجباتهم الدينية، بالإضافة إلى عدد صغير من القواعد المحددة بدقة والتي تنظم العلاقات الدنيوية بين الناس (قضايا الأسرة والزواج والميراث)، هذه المعايير نفسها هي محتوى الشريعة، وبهذا المعنى، تحتوي الشريعة على قواعد ثابتة من القرآن الكريم والسنة بشكل لا لبس فيه، ولا يمكن تغيير هذه المعايير التي هي معايير مشاكل العلاقات الدنيوية بين الناس، أي. القواعد العملية التي تسود بشكل ملحوظ في النص القرآني، وقد تم تفسير القواعد المتعلقة بهذه الطائفة وبيانها بالسنة النبوية، وبعد ذلك، ونتيجة لتطور العلاقات الاجتماعية، وحسب الضرورة، تم استكمال التصرف بالسنة النبوية، وفق هذه الفئة من الأعراف، بممارسة الخلفاء الراشدين.
أما الفقه ويعني “المعرفة العميقة” و”فهم الجوهر”، ولذلك يعتبر الفقه المذهب الشرعي لعلماء المسلمين الذين كانوا علماء خاصين، ومتخصصين في فهم وتفسير القرآن الكريم والحديث الشريف، ولم يتمكنوا من تفسير قواعد ومبادئ القرآن والسنة الراسخة والمفهومة بوضوح فحسب، بل قاموا أيضاً بتفسير الأحكام الغامضة، أو وضع قواعد غير محددة كالسلوك، ولكن فقط الإطار العام والمبادئ التوجيهية والمبادئ، وهؤلاء العلماء وحدهم هم الذين يتمتعون بالحق في تنفيذ وإدارة عملية وضع القواعد بشكل جماعي أو فردي، وبفضلها تصبح الشريعة نظاماً عالمياً للتنظيم الاجتماعي والمعياري، وبمساعدة وسائل وأساليب وتقنيات معينة، والتي هي في الواقع عناصر من التقنية القانونية، والتي تسمى في الشريعة الإسلامية “الاجتهاد”، تمت صياغة قواعد سلوك جديدة، حيث تم الاعتراف بهؤلاء العلماء المتخصصين على أنهم يتمتعون بسلطة صياغة قواعد (معايير) السلوك السليم، وقد تم الاعتراف بهذه القواعد من خلال الوعي الديني والوعي القانوني للسكان المسلمين على أنها إلزامية للتنفيذ، كما تم تطبيق هذه القواعد أيضاً من قبل المحاكم، وكان الحكام أنفسهم يخضعون لها، نحن هنا نتحدث عن قواعد (معايير) السلوك البشري المعبر عنه ظاهرياً، ونتحدث بشكل قانوني بحت – عن تصرفات السلوك المحتمل أو المناسب.
فإذا كانت هذه القواعد التي صاغها العلماء تحتوي على حقوق وواجبات وتؤسس لنظام معياري معين يطبقه الجميع، فماذا يمكن أن يسمى هذا النظام إن لم يكن “قانوناً”؟!
هذه المعايير رسمية وإيجابية على الرغم من أن موضوع نشرها ليس الدولة، في الظروف التي أصدرت فيها الدولة فقط أوامر ذات طبيعة عسكرية ومراسيم بشأن حماية الدين، تم الاستيلاء على وظائف التشريع من قبل خبراء قانونيين خاصين – المجتهدون (الأشخاص الذين لهم الحق في الاجتهاد)، وهذا خلق المشكلة الرئيسية المتمثلة في فهم الفقه والاعتراف به في الشريعة الإسلامية.
ويدعم هذا الموقف في المفهوم الوضعي الجديد للقانون، والذي بموجبه لا يتلقى القانون قوته من عقوبة إكراه الدولة، إذ يتلقى القانون قوته من المجتمع – من خلال الاعتراف والموافقة الرسمية أو الضمنية، بسبب وعي الشخص بواجبه في اتباع القانون، ونظام قانوني معين؛ وهنا يتم الاعتراف بسيادة القانون كشكل معين من أشكال الالتزام، وبدورها، فإن قواعد الفقه يعترف بها الوعي الشرعي الإسلامي كشكل من أشكال الالتزام غير المشروط، وإلى حد أكبر، بسبب دلالاتها الدينية الخارجية، وهذا يرفع من سلطة القواعد الفقهية في نظر المسلمين ويشكل حافزاً إضافياً للالتزام الصارم بها والثابت، وهو ما يحدد الفعالية الاجتماعية وصلاحية حكم القانون – الفقه.
ولذلك، يجب أن يؤخذ الفقه في الاعتبار ليس فقط كمذهب قانوني، بل كقانون، إن المنهج القانوني يشوه الطبيعة القانونية الحقيقية للفقه، بالإضافة إلى ذلك فإن المبادئ التي صاغها الفقه – مثل العدالة؛ وتركيز القواعد الفقهية على تطبيق القيم الأساسية للشريعة، والتي تشمل الدين والحياة والعقل والشرف والكرامة، والنظام الثابت لاستمرار الجنس البشري، وكذلك الملكية؛ وإعفاء الإنسان من التزام إذا كان الوفاء به فوق قدرته، أو يهدد مصلحته، أو يتعارض مع مقاصد الشريعة؛ وإباحة كل ما لم يحرم بشكل محدد لا لبس فيه في الكتاب والسنة؛ والموقف الرسمي المتساوي للقاضي تجاه المشاركين في المحاكمة؛ واحكم بالظاهر، فإن باطن الأفعال لا يعلمه إلا الله، إلخ. (هناك 99 مبدأ في المجموع) تنقل بشكل مباشر طبيعتها القانونية الموضوعية، وتصبح هذه المبادئ، أكثر قابلية للفهم إذا نظرنا إليها ودرسناها من منظور العقيدة القانونية.
وتكتسب هذه الأعراف والقواعد دلالة دينية لأن المصدر الرئيسي والأول لجميع هذه الأعراف والقواعد، كما يعلم جميع المسلمين، هو القرآن الكريم الذي يمثل الوحي الإلهي بشكل مباشر، والقرآن الكريم. والثاني هو سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم – مجموعة من الأحاديث عن أفعال وأقوال رسول الله، فالسنة النبوية وأحاديث الرسول الكريم يعتبرها الفكر الإسلامي تجسيداً لإرادة الله عز وجل، وإن تم التعبير عنها بشكل غير مباشر من خلال وصف الأفعال أو نقل أقوال رسوله، ويستند هذا الرأي إلى الآية التالية من القرآن الكريم: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة رائعة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً”.
فالفقه – ظاهرة حية ترتبط مباشرة بالمجتمع – يخلو من التأخر في النمو، ويتأخر عن الحياة الروحية والاقتصادية وغيرها، ويستجيب بشكل فوري للتحديات المادية، من وجهة نظر أنثروبولوجيا القانون أو الأنثروبولوجيا القانونية، على وجه الخصوص، لأن الإنسان المسلم شخص اعتباري لأنه يعيش وفق القانون، بالإضافة إلى أن التوحيد والأخلاق والقانون يعيشون في نفسية المسلم، والوجود القانوني للمسلم يعتمد على قناعاته وعواطفه الداخلية، وهو السبب الرئيسي لتحديد سلوكه المعبر عنه ظاهرياً، حيث يمكن للمرء أن يقول إن الشريعة الإسلامية تضفي طابعاً رسمياً على الأخلاق والأدب والعادات في نظام أكثر انسجاماً، وبالتالي ينظر إليها المسلمون على أنها جزء لا يتجزأ من وجودهم التقليدي.
بالتالي، فإن المسلم الذي يتبع الشريعة الإسلامية يمكن أن يُطلق عليه بشروط “شخص اعتباري”، لأنه يعيش وفقاً للقانون الحقيقي في تصوره الإسلامي، ولهذا السبب، فإن وجود مسلم متدين هو الاكتشاف الأكثر أصالة للأنثروبولوجيا القانونية، والشريعة والفقه هما آثار مادية ونصية أصلية.
أما فيما يتعلق باستخدام مصطلح “الشريعة الإسلامية” فيمكن وصفها بأنها شريعة إسلامية (ليس بالمعنى القانوني)، لكن ليست مجموعة قواعد الشريعة بأكملها تندرج تحت مفهوم الشريعة الإسلامية، بل فقط تلك القواعد التي تنشئ الحقوق والالتزامات المتبادلة في المجتمع الإسلامي، وتحدد علاقات قانونية معينة وتشكل وعياً قانونياً، أو بشكل أكثر دقة، والعقلية القانونية الإسلامية، هي تلك التي تجمع بين الأفكار الدينية والقانونية.
وهذه الحقيقة تبين أن القانون الإسلامي هو نتيجة النشاط البشري – المحامي الخاص في العصور الوسطى والهيئات الحكومية والمسؤولين في العصر الحديث.
بالتالي، يعتمد القانون الوضعي الإسلامي الحديث في معظم الدول الإسلامية على الشريعة، التي تثري الدساتير، وتعززها، فضلاً عن المحاكم الشرعية التي تمتاز بها الدول الإسلامية والتي تهيمن على مجال قانون الأحوال الشخصية والأسرة، المستمدة مباشرة من المصادر الأساسية للشريعة.
إن العلامة الرئيسية لتأثير الشريعة على الدستورية الحديثة في الدول العربية هي الترسيخ الدستوري لمبدأ “الشورى” القرآني وإنشاء هيئة استشارية تسمى مجلس الشورى على هذا الأساس. وهذا المبدأ ثابت في القرآن الكريم كما في قوله تبارك وتعالى: “وشاورهم في الأمر”، وكذلك ممارسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي بعض البلدان تنطبق القواعد القانونية للتشريع الإسلامي، ويعتبر القرآن الكريم المصدر الرئيسي للقانون.
وكما يتبين من كل ما سبق، فإن مصدر التشريع في بعض الدول الإسلامية في العصر الحديث هو الشريعة الإسلامية، وكقاعدة عامة، ينطبق هذا على الدول الأكثر تقليدية، وهي الأنظمة الملكية، وفي الدول الأخرى مصدر التشريع هو القانون الإسلامي، وهذا بدوره ينطبق على تلك الدول التي بدأت فيها، بعد الاستعمار، عملية تطوير الحياة الاجتماعية والسياسية بتشكيل ديمقراطية رسمية، مع تكريس مبادئ مثل نظام التعددية الحزبية، وإعلان حرية الصحافة، الاقتراع المتساوي والمباشر، وتوسيع السلطات التشريعية للبرلمانات، فضلاً عن اعتماد قوانين جديدة بشأن الانتخابات على أساس التعددية الحزبية، وما إلى ذلك.
وفي الختام يمكن القول إن كل ما سبق يدل على وجود الشريعة الإسلامية بأشكالها المختلفة منذ العصور الوسطى إلى يومنا هذا، مما يثبت تناقض المنهج الوضعي في تعريف مفهوم الشريعة الإسلامية.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.