في هذا الوقت المميز من شهر رمضان المبارك، ونحن نقترب من نهاية هذا الشهر العظيم، يتزايد الشوق والحنين لاستقبال لياليه الأخيرة والتمتُّع بنسماته الروحانية المميزة، إنها فترة قصيرة تحمل في طياتها لحظات العودة إلى النفس، وفرصة للتوبة الصادقة والاستغفار الخالص.
إن شهر رمضان المبارك، بأسراره وفضائله العظيمة، يأتي ليُذكِّرنا بأننا في رحلة متجددة نحو الله تبارك وتعالى، وأن كل لحظة فيه تحمل فرصة للتغيير والتجديد، إنه شهر التوبة والقربات، حيث ينتظرنا الله بأحضانه الرحيمة لنعود إليه ونستغفره من كل ما مررنا به من زلات وتقصير، في هذا الربع الأخير من رمضان، دعونا نستغل كل لحظة لمراجعة أنفسنا، ونعمل جاهدين على التوبة الخالصة والتقرب إلى الله العظيم، ولنتذكر أن التوبة الصادقة تتطلب التدبر في آيات الله وقراءة القرآن الكريم بتأمل وتدبر، ومن ثم مساعدة الناس وفعل الخير بكل ما نستطيع.
فلنجعل هذا الوقت المميز من شهر رمضان فرصة حقيقية لتحقيق النجاح الروحي والتقدم الشخصي، ولنجعل من كل لحظة مع الله عملاً صالحاً وعبادة خالصة، فربما يكون هذا الربع الأخير فرصة الغفران والرحمة التي نبحث عنها، ولنتذكر دائماً أن الله غفور رحيم، يتلقى توبة عباده ببابه الواسع.
وهنا اخترت سورة القدر كآخر موضوع قرآني روحاني لهذا الشهر الكريم على أن نواصل دائماً هذا السعي بالكلمة وبالعمل للتقرب من الله تبارك وتعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر.
سورة القدر تنير قلوب المؤمنين ببريقها الروحاني، فهي السورة المكية التي أعلنت ببهجة السماء نزول القرآن الكريم، في ليلة القدر الشريفة التي أعطاها الله تعالى فضلاً عظيماً على سائر الليالي والأيام، “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ”، تلك الكلمات السامية تبث في القلوب نوراً يشع من بركة الوحي الإلهي، وليلة القدر، ليلة تجلّى فيها عظمة الله ورحمته على البشرية، فهي خير من ألف شهر، لا تقدر قيمتها ولا يُعرف قدرها إلا عند الله، “وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ”، هذه الكلمات تدعو الإنسان للتأمل في عظمة اللحظة والفرصة التي تأتي فيها.
وفي تفسير العلماء الكرام، يُذكر أن ليلة القدر كانت معروفة برفعتها وبشرفها قبل نزول القرآن فيها، فكانت مميزة بانتظار الوحي الإلهي، وتشير آيات كريمة إلى هذا الفضل الخاص، كقوله تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ”، لتؤكد على طابع البركة والفضيلة الذي يميز تلك اللحظة العظيمة.
ففي شهر رمضان المبارك، يتضاعف شعور المؤمنين بقرب ليلة القدر وعظمتها، فتكون لهم فرصة للتواجد في عبادة وذكر وتضرع إلى الله، مُرتجى الأجر والثواب العظيم، لذا فلنجتهد في البحث عنها في هذا الشهر الفضيل، ولنستغل كل لحظة في طاعة الله وطلب رحمته، فقد يكون فيها لنا فرصة للتغيير والتوبة والقرب إلى الله تعالى، والله أعلم بحقائق الأمور ومقاديرها، وعلى العبد أن يتذكر قيمة هذه الليلة العظيمة ويسعى جاهداً في استغلال فرصتها في طلب الخير والبركة والرحمة من الله.
أيضاً في شهر رمضان المبارك، تتجلى عظمة القرآن الكريم بكل جلاء وبهاء، ويتسامى بريقها في لياليه المباركة، ومن بين هذه الليالي النورانية ليلة القدر، التي أشرفت على سائر الليالي بفضلها وبركتها، إنها ليلة مميزة أنزل فيها الله تعالى كتابه العظيم، وهو كتاب الهداية والضياء، لينير دروب البشرية ويهديها إلى طريق الخير والسعادة.
وسورة القدر تُذكرنا بلحظة تنزيل القرآن الكريم، ففيها جاء الوحي الإلهي إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الرسول الذي تُنزل عليه الصحف المطهرة، ليتلى بها على الناس ويُبين مضمونها ومعانيها القيمة، ومن ضمن هذه الصحف، القرآن الكريم الذي جاء بكلامه المشرق ليهدي البشرية إلى الطريق الصواب والنجاة، ومع فاتحة البينة، يتكامل المعنى ويتجلى الهدف، فإنها توضح المقصود من تنزيل القرآن الكريم، وتبين بأنها كتاب الله الذي أنزله على رسوله ليكون هادياً ونوراً للناس، إنها البينة التي توضح وتبين الحقائق، وتُنير العقول بنور الإيمان والعلم.
وفي شهر رمضان المبارك، ينعكس بريق القرآن الكريم بكل ألوانه، فهو كتاب الهداية والنور الذي أنزله الله تعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خلال تدبر آياته الكريمة، نجد أن كل كلمة في القرآن الكريم متصلة بما قبلها وما بعدها، كما لو أنها جزء لا يتجزأ من كلام الله العظيم، فإذا نظرنا إلى بدايات السور وخواتيمها، نجد هذا الارتباط العجيب الذي يبرز عظمة القرآن وروعة ترابط مضامينه، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، وكل آية فيه تضيء درب المؤمنين نحو الحقيقة والصواب.
وفي هذا السياق، يأخذ الإنسان في شهر رمضان المبارك عبر رحلة روحانية مميزة، يتأمل في عظمة القرآن الكريم ويبحث عن الفوائد والعبر التي يحملها هذا الكتاب العظيم، ففي هذا الشهر الفضيل، يزيد الإيمان والتقوى، ويتسامى الروح ببركات الصيام وقراءة القرآن الكريم، لذا، فلنستمع بقلوب خاشعة إلى كلمات الله العظيمة، ولنتفكر في معانيها ونستقي منها الهداية والعبر، فإن القرآن الكريم هو شعلة تنير الظلمات وهدى يهدي الضالين.
وبينما نتأمل في فضل ليلة القدر وعظمة القرآن الكريم، نجد أنها تندرج في سياق تقرير فضل شهر رمضان المبارك، الذي هو شهر الصوم والقيام والتقرب إلى الله تعالى، إنه شهر الرحمة والغفران، وفيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، وتسجن الشياطين، وينزل فيه القرآن كهدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
إن ليلة القدر، التي نزل فيها القرآن الكريم، هي ليلة تفوق قيمتها وفضلها ألف شهر، حيث تكون فيها الملائكة تنزل بالرحمات والبركات من الله تعالى، إنها ليلة تملأها الرحمة والمغفرة، وتتسم بالهدوء والخشوع، حيث يفتح الله تبارك وتعالى فيها أبواب السماء ويستجيب لدعاء العباد، ومن بين أيام هذا الشهر الفضيل، اختار الله لنا ليلةً خاصةً بفضلها وعظمتها، وهي ليلة القدر، التي يكفيها شرفاً أنها أفضل من ألف شهر، إنها ليلة ينزل فيها الملائكة وتمتلئ بالبركات والرحمة، وفيها يُسمع دعاء العباد ويستجاب له.
وفي شهر رمضان المبارك أيضاً، يتجلى ارتباط وثيق بين القرآن الكريم وهذا الشهر الفضيل، حيث إن كل منهما يشير إلى عظمة وفضل الآخر، فقد أنزل الله القرآن الكريم في شهر رمضان، وجعله شهر القرآن، وهو شهر التدبر والتأمل في كلمات الله السامية، وفي كتابه العزيز، وصف الله تبارك وتعالى شهر رمضان المبارك بأنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن الكريم، مما يؤكد عظمة هذا الشهر وشرفه، إنه الشهر الذي يتميز بتفضيل الله له عن غيره من الشهور، وذلك بسبب البركات والرحمة التي ينزلها الله فيه.
ومن الملاحظ أن الله تبارك وتعالى أشار في سورة القدر إلى عظمة القرآن الكريم من خلال ثلاثة جوانب رئيسية:
أولاً، تكريم الله للقرآن بإنزاله في هذا الشهر الفضيل، مما يعكس عظمة الكتاب الذي يستحق أن يُنزل في شهر مميز كرمز من رموز الله على البشرية؛
ثانياً، جاء ذكر القرآن الكريم بضميره دون ذكر اسمه، مما يعكس الاهتمام الإلهي والاستغناء عن التنبيه عليه، كما يبرز نباهة الله وعظمته في تنزيل كتابه؛
ثالثاً، تميز ليلة القدر التي يذكرها الله في القرآن برفع مقدار الوقت الذي نزل فيه القرآن، مما يجعلها ليلة مميزة ومكرمة.
وفي سورة القدر، يتناول الله تعالى عظمة ومعاني الليلة المباركة، التي ينزل فيها القرآن الكريم، بدايةً يُفيد أنها الليلة التي بدأ فيها نزول القرآن، إشارة إلى بداية وحدته وتنزيله العظيم على خاتم الأنبياء والمرسلين، بالتالي، إن ليلة القدر تتحلى بالتشريف والتعظيم، إذ اختارها الله لنزول كتابه الكريم، ولتنزل فيها رحماته ومغفرته على عباده المؤمنين، إنها ليلة التقدير أيضاً، حيث يُقدِّر الله فيها مصائر الخلق ويجزيهم على أعمالهم بحسب إرادته العظيمة.
وللإعجاز وجوه تقتضيه، وللاستحسان علل تستوجبه وتستدعيه، وقد جاهر بذلك أرباب البلاغة على مر العصور، وتعاقب الدهور، من ذلك قول شيخ البلاغة عبد القاهر الجرجاني: “وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه دليل”، وإذا كانت وجوه الاستحسان في آيات القرآن الكريم لا تحصى، ومعانيه البلاغية لا تستقصى، فإن مُتقصد هذا المقتضب من القول: الإيماءُ إلى بعض ما اشتملت عليه سورة القدر من لطيف المعاني، وبديع الإشارات البلاغية، كما قال شيخ البلاغة – “لا يحصرها العدد، ولا ينتهي بها الأمد”، فعلى قصر الآية لكنها عظيمة بما قدّمت لقد لخصت مسيرة إيمان لذلك سورة القدر، سلام هي حتى مطلع الفجر.
وتُسمى ليلة القدر بهذا الاسم لأن العمل الصالح فيها يكون ذو قدر وقيمة عظيمة، فإن الله يضاعف أجر الأعمال فيها، ويجعلها خيراً من ألف شهر من غيرها من الليالي، ولذلك، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاجتهاد في تحري ليلة القدر، والبحث عنها في العشر الأواخر من رمضان المبارك، وخاصة في الليالي الفردية منها، فلنبادر جميعاً إلى الاجتهاد في البحث عن ليلة القدر، ولنسعى في تحقيق العبادة والطاعة فيها، لننال رحمة الله تعالى ومغفرته، ولنجعلها فرصة لتجديد العهد مع الله وللتوبة والاستغفار.
وفي ظل فضل شهر رمضان المبارك وعظمة القرآن الكريم الذي نزل فيه، تفتح أمامنا أبواب الرحمة والبركة والتوبة، إنه شهر التدبر والتفكر في آيات الله، وفي هذا الشهر الفضيل يتضاعف فضل القرآن الكريم، إذ يكون قراءته وتلاوته وتدبره أعظم وأجلّ، ولا شك أن الدعاء في هذا الشهر يحظى بأهمية خاصة، فلنكثر من الدعاء ولنبذل جهودنا في الدعاء للمظلومين والمحتاجين في كل مكان، خاصة لإخوتنا وأهلنا في غزة الذين يعيشون في ظروف صعبة ومأساوية، إن الدعاء هو سلاح المؤمن والمظلوم والمستضعف، وهو بوابة النجاة والإنصاف.
فنحاول جاهدين المساعدة وبكل الوسائل المتاحة، ولنبذل الجهود، لنكون داعمين ومعينين لأهلنا في غزة ولكل المظلومين في كل مكان. فلنجعل الدعاء سلاحنا الأقوى، ولنتواصل مع الله بقلوبٍ مؤمنة وأرواحٍ خاشعة، لنناجيه بأن يفرج كربهم ويعينهم على مصاعبهم، فشهر رمضان المبارك فرصة لكل مسلم لتحقيق ذلك.
وهنا لابد من أن أختم بذكر أمر مهم جداً بالنسبة لي على صعيد الشخصي وعلى صعيد العلم بالشيء، ويندرج في سياق العادات الجميلة التي تتمتع بها بلدي الكويت، ليس الآن بل منذ زمن طويل، حيث جُبل عليها أهل الكويت، وهي “وداع رمضان”، ففيه تتم صلاة القيام في العشر الأواخر من الشهر الكريم، ركعتين إلى أربع ركعات، مع استراحة قصيرة، وكان إمام المسجد يقرأ دعاء اسمه “وداع رمضان” والقصد واضح، فقد كانت الناس تجهش بالبكاء سواء الحاضرة في المساجد أو التي بجانبها، وتسمع عبر مكبرات الصوات، فكان هذا الدعاء بدون مبالغة، يُبكي الحجر فما بالك عن البشر، وهذه بعضٌ من الأبيات التي كنت استمع لها أنا شخصياً في مسجد العوضي في الكويت، حيث كنت أصلي خلف القارئ الكبير والصديق العزيز الشيخ وليد إبراهيم (أبو خالد)، الملقب بـ “وليد الدليمي” فكان يقرأ الدعاء بصوته الشجيّ فكان يبكي جميع من كان حاضراً، فقد أمتعنا بصوته وقراءته الروحانية الجميلة، رحمة الله عليه في هذه الأيام المباركة:
أيها المسلمون، إن رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبقَ منه إلا القليل، فطوبى لمن شهد له رمضان عند مولاه الجليل، وويلُ لمن أغفله عناداً وضل سواء السبيل، الوداع الوداع الوداع يا شهر رمضان الوداع، ودعناك بالصلوات، وتلاوة القرآن والدعوات، رمضان فد عزّ الفراق، اللهم كما بلغتنا شهر الصيام، فاجعل عامه علينا من أبرك الأعوام.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.