يُعتبر النقد أحد الأدوات الأساسية في تطوير المجتمعات والتحسين من الأداء في مختلف المجالات، سواء كانت فنية أو سياسية أو اجتماعية، إلا أن هذا الأداة، ككل أداة، يُمكن استخدامها بشكل بنّاء أو تدميري، وهنا يظهر دور “نقد النقد” كوسيلة لتقييم وتحليل جودة وأثر الانتقادات الموجهة.
وعندما يُعبّر الناقد عن آرائه وتقييماته، يُفترض أن يكون ذلك بناءً على معايير موضوعية ومعرفة عميقة بالمجال الذي ينتقده. ومع ذلك، قد يحدث أحياناً أن يكون النقد غير بنّاء، مما ينتج عنه مشاكل أكثر من الحلول.
وإذا كان الناقد لا يمتلك حلولاً أو أفكاراً لتصحيح الأوضاع، فإن الصمت قد يكون أحياناً خياراً أفضل، أما إذا كان النقد لا يزيد عن مجرد انتقادات فارغة من دون اقتراحات بناءة، فقد يكون لهذا النقد تأثير سلبي أكبر من الإيجابي، في هذه الحالة، يمكن أن يكون الصمت خير حل، حيث يمكن أن يؤدي استمرار النقد السلبي إلى زعزعة الثقة وتقويض الجهود البناءة.
بالإضافة إلى ذلك، عندما يكون النقد غير حيادي ومنحاز لصالح طرف معين، فإن ذلك يفقد النقد مصداقيته ويتحول إلى أداة لتحقيق أهداف سياسية أو شخصية بدلاً من تحسين الوضع بشكل عام، وبمجرد أن يفقد النقد طابعه البناء والحيادي، يصبح من الضروري التفكير في قيمة الصمت، خاصة إذا لم يكن هناك ما يضاف إلى النقاش سوى الفوضى والتشويش، فإن التخلي عن النقد يمكن أن يكون الخيار الأنسب.
بالتالي، يُظهر النقد البناء قوته في تحفيز التطوير والتحسين، بينما النقد غير البناء قد يزيد من الفوضى والتوتر، في هذه الحالة، يجب أن يكون النقاد مدركين لقوة أقوالهم ومسؤولين في توجيهها بطريقة تعزز الحوار والتقدم.
وفي عالم مليء بالصراعات والتنافسات، يُلاحظ توجه بعض الفرق والجماعات أو الأحزاب “سمّها ما شئت”، نحو التحيز المقنع، حيث تسعى جاهدة لتشويه الحقيقة وترويج سياسات ضيقة بهدف تحقيق أجنداتها الخاصة، يتبنى هؤلاء الأفراد والمنظمات استراتيجيات مختلفة للتأثير على الرأي العام وإقناع الجماهير، وهذا ما سنتناوله في هذا المقال.
إن أحد أبرز سمات التحيز المقنع هو استخدام عناوين ظاهرية تبدو جاذبة للأذهان ولكنها في الواقع تخفي الحقائق وتشوه الصورة، على سبيل المثال، قد تعتمد بعض الفرق أو الشخصيات على تلوين الأحداث بألوان مغايرة للحقيقة، وذلك عبر استخدام عبارات مثيرة للعاطفة دون أدنى اعتبار للحقائق الواقعية، او حتى عبر الدخول في مناقشات لا يخرج منها أحد منتصراً لإثبات وجهة نظرهم، وهذا بطبيعة الحال يخلق صورة مغلوطة للواقع ويثير المشاعر دون أن يكون لها أساس واقعي.
بالإضافة إلى ذلك، تستغل هذه الأطراف المنحازة، تكرار الرسائل والترويج المستمر لها بهدف تغليب وجهة نظرها على الحقيقة، فهي تستخدم وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لنشر رؤيتها الخاصة دون النظر إلى التوازن أو العدالة في تقديم المعلومات، وبهذا يتم تضليل الجمهور وتشكيل آرائه بناءً على معلومات مشوهة وغير موضوعية.
في هذا السياق، يُظهر التحيز المقنع خطورته على المجتمعات والديمقراطيات، حيث يهدف إلى تشويه الحقائق وتزييف الواقع لتحقيق مصالح ضيقة ومحددة، ولذلك، ينبغي على الجماهير أن تكون حذرة ويقظة تجاه مثل هذه الأساليب، وأن تسعى لاستقاء المعلومات من مصادر موثوقة ومواكبة التطورات بحكمة وحرص.
بالتالي، يتعين على الفرد المسؤول أن يكون قادراً على التمييز بين التحيز المقنع وبين الحقيقة، وأن يسعى دائماً للبحث عن الحقيقة بجرأة وموضوعية، بغض النظر عن التحيزات السياسية أو العقائدية التي قد تحاول تشويه الصورة.
ففي الفترة الأخيرة، شهدت المنطقة تصاعداً في التوترات بين إيران والكيان الصهيوني، حيث شنّت إيران ضربات عسكرية على أهداف في فلسطين المحتلة، مما أثار تقييمات متباينة حول هذه الأحداث، بعض الأطراف اعتبرت هذه الضربات مسرحية وليس لها أثر عملي ألحق الضرر الذي نتمناه للكيان الصهيوني، بينما اعتبر آخرون أنها أحدثت تأثيراً إيجابياً، لكن لفهم الوضع بشكل موضوعي، يجب النظر إلى الحقائق والسياق الذي يحيط بالأحداث، دون الانجراف وراء الأهواء والمعتقدات المسبقة، بدايةً، يجب تحليل الضربات الإيرانية بناءً على المعلومات المتوفرة والتحليل الدقيق للتأثيرات الفعلية على الأرض.
من الناحية الفنية، يمكن النظر في تفاصيل الضربات وطريقة تنفيذها، مقارنةً بالأهداف المعلنة والمراد تحقيقه من وراءها، كما يجب أيضاً النظر في ردود الفعل الدولية والإقليمية وتفسيراتها للأحداث.
ومن الناحية السياسية، يمكن تحليل دوافع إيران وما يمكن أن تحققه من وراء هذه الضربات، بالإضافة إلى تقييم الاستجابة الصهيونية والتأثير على الوضع الإقليمي بشكل عام.
بالتالي، على الرغم من الانقسام في الآراء، يمكن أن يتم التوصل إلى تحليل موضوعي يقدم صورة شاملة للأحداث، محاولاً فهم الوضع بعيداً عن التحيز والانحياز، وبرأي المتواضع، لم تحقق تلك الضربات الهدف المنشود بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت إلى تنفيذ هذه الضربة، فالغاية هي إحقاق أكبر قدر ممكن من التدمير داخل الكيان الصهيوني، وهذا إن حدث، كان ليشكل فارقاً كبيراً، لكن بالنظر إلى خروج الكيان الصهيوني وساسته وهم يسخرون ويؤججون مشاعر العرب عبر إحداث شرخ بينهم وبين إيران، أو بين الأخيرة وقطاع غزة، يبدو أن كل ذلك يحدث انطلاقاً من تقليل أو تخفيف حجم هذه الضربة، وهنا لا بد من قول كلمة حق، إن هذه الضربة موجعة ربما من الناحية الاقتصادية لكيان الاحتلال الصهيوني، لكن لو كانت أكبر وبشكل مركز أكثر لكان من الممكن أن تدخل التاريخ، بكل الأحوال، امتلكت إيران الجرأة الكبيرة للرد على الكيان، وهذا له حساباته داخل فلسطين المحتلة، فهي ليست خصم سهل دون أدنى شك، لكن يجب أن نقول الحقائق وهذا لا يعني أنني أقف ضدها بل أحاول نقدها نقداً بنّاءً كما أشرت في بداية مقالنا، شخصياً لم أجد أي نتائج مقنعة من وراء هذه الضربة وهنا قناعاتي تتعلق وهي ذات صلة بما يحدث في قطاع غزة، ومن يعارضني له الحق لكن على أن يكون قادراً على إقناعي بعكس ذلك وهنا الطامة الكبرى.
وخلال اليومين الماضيين، أصبح النقاش حول الأحداث الحساسة محطة لتجسيد الهيستيريا السياسية، حيث يشهد العديد من الفرق والأفراد ردود فعل متشددة وغير متوازنة على الأحداث التي تؤثر على مصالحهم المصيرية، مما يجعل من الصعب تحقيق حوار بناء وتوجيه الأفكار بشكل موضوعي، ففي حالة الضربة الإيرانية على الكيان الصهيوني وحالة غزة، يظهر توجه بعض الأطراف نحو التصريحات المتشددة والتهويل، دون النظر إلى الحقائق أو التوازن في التقديرات، يتجلى هذا في تكرار الأنماط السائدة في التواصل السياسي، مثل التبسيط الزائد والتهويل والتجاهل الجزئي للحقائق المعقدة والتوازن في التقديرات.
بالتالي، إن التحليل الموضوعي للأحداث يصبح أمراً صعباً في مثل هذه الظروف، حيث تتغلغل الهيستيريا السياسية في النقاش العام وتحد من إمكانية تحقيق حوار بنّاء، وهنا تكمن المشكلة في عدم قبول الرأي الآخر والتمسك بالمواقف المتشددة دون النظر إلى الحقائق أو الأدلة.
وللتغلب على هذه الهيستيريا السياسية، يتعين على الفرق والأفراد التفكير بموضوعية وموضوعية وفتح الباب للحوار المستنير والبناء، حيث يجب أن يتمثل الهدف في فهم القضايا بعمق وتحليلها بشكل دقيق، بدلاً من الانجراف نحو التوجهات السائدة والتصريحات العاطفية أو العدائية، فأنا لست ضد أحد، ولكن لا يمكن أن أقف إلا مع الحق.
في النهاية، يبقى الحق حقاً والخطأ خطأً، ومن يسعى للوصول إلى الحقيقة والتمييز بين الصواب والخطأ لا يخشى لومة لائم، لأن من أهم مقومات بناء المجتمعات القوية والمستقرة هو قدرتها على قبول الحقيقة بكل شفافية وصراحة، دون التأثر بالهيستيريا السياسية أو الانحياز الشخصي، وعندما يتحدث الإنسان بصدق وجرأة، دون خوف من انتقادات الآخرين أو اللوم، يرتقي إلى مستوى أعلى من النضج والنقاء، ويصبح قدوة للآخرين في سعيهم نحو الحقيقة والعدالة، فالشجاعة في القول والصدق في التعبير عن الرأي لا يُقاس بمدى القبول العام، بل بمدى انعكاسها لقيم النزاهة والصدق.
لذا، دعونا نتجاوز الهيستيريا السياسية والانحيازات الشخصية، ولنكن جريئين في الدفاع عن الحق وتقديمه، مهما كانت التحديات والصعاب، إن من يسعى لقول الحق والوقوف عند الحقيقة، سيظل دائماً على درب الصواب وسط العواصف والتحديات التي قد تواجهه.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.