الشاعر بدر شاكر السياب
في عمق تاريخ البشرية، نجد بصمات تاريخية تُشكل جزءاً لا يتجزأ من روافد الحضارة والثقافة، تلك البصمات لا تأتي دائماً من أعمال القادة السياسيين أو العسكريين، بل تنبعث أحياناً من قصائد الشعراء وتأملاتهم الفلسفية التي تنسج خيوطاً من الإنسانية حول قلوب الناس.
وفي متاهات التاريخ، تبرز لنا شخصيات تجذب الأنظار وتلهم الشعوب بمداد قلمها وفكرها العميق، إنها شخصية الشعراء الذين يمتلكون قدرة على ترتيب الحروف وصياغة الأفكار لصنع عالم يتسع فيه الإنسان ويتجسد فيه حلم الجميع، كما أن أعظم قوة للشعر تكمن في قدرته على تجسيد المشاعر والأفكار بأسلوب يتسم بالجمالية والعمق، إذ يستطيع الشاعر أن ينسج من كلماته لوحات تروي قصة الإنسان وتستفز مشاعره وتثير تأملاته في عجائب الوجود، ليس الشاعر فقط من يعزف على أوتار الكلمات بل هو الحكيم الذي يجلب الضوء للأمور المظلمة ويعلق الأحلام في سماء الواقع.
ولذلك، فإن كلمات الشعراء المبدعين تعيش بين صفحات التاريخ كنجوم ساطعة في سماء الأدب، تتألق ببريقها وتأخذنا في رحلة عبر العصور، إنها كلمات تبقى خالدة، تتناقلها الأجيال كنهر لا يجف، تحمل في طياتها حكايا الأمم ومسيرة البشرية، فعندما تصبح الكلمات سلاحاً، يكون صداها أقوى من الرصاص، فهي تخترق القلوب وتحرك العقول، تبث الأمل وتحمل الشجاعة، وتلهم الشعوب للتحرك والتغيير، كما أن استخدام الكلمة في مناسبتها الصحيحة يمكن أن يحدث ثورة في الفكر والمشاعر، يعبر عنها التاريخ بمداد من ذهب.
إنها قوة الشعر والكلمة التي تجعلنا نؤمن بقوة الإنسان على تحويل العالم، وبأن الجمال والعمق ليسا مقتصرين على الأشياء المادية، بل يمكن أن تتجلى في أبسط العبارات وأعمق الأفكار التي ترسخ قيم الإنسانية في النفوس وتلهم الشعوب للتقدم والتغيير.
وفي أعماق جنوب العراق تتوشح مدينة البصرة بريقاً أدبياً وثقافياً يعبر عن تراث عريق وتاريخ غني بالعلم والفن، فقد أنجبت البصرة عبر العصور العديد من العظماء الذين أثروا الحضارة بتفكيرهم العميق وإبداعهم اللافت، وفي محور هذا التراث العظيم يبرز اسم بدر شاكر السياب، الشاعر الكبير الذي أسهم بشكل كبير في إثراء الأدب العربي بقصائده العميقة والمؤثرة، بدر شاكر السياب لم يكن مجرد شاعر بل كان رمزاً للإبداع والفكر الراقي في عالم الأدب.
لقد تناغمت كلماته الرقيقة مع مشاعر الناس، محاكيةً أوجاعهم وآمالهم وأحلامهم في قصائد تخترق القلوب وتحفر في الذاكرة، فلم يكن بدر شاكر السياب مجرد شاعر، بل كان موجّهاً للعواطف والأفكار، ملهماً للشباب والمثقفين، كما تعكس شخصية بدر شاكر السياب اهتمام البصرة بالعلم والأدب والثقافة، حيث كانت تلك المدينة بوابة للمعرفة ومركزاً لتبادل الأفكار والمعرفة في العصور القديمة والحديثة، إن تأثيره الكبير على الأدب العربي يجسد روح البصرة العظيمة وإرثها الثقافي الذي يستمر في إلهام الأجيال.
وبهذه الطريقة، تظهر البصرة كواحة للفكر والإبداع، تنير درب العظماء وتخلد ذكراهم في ضفاف التاريخ، وتثبت بفخر واعتزاز أنها ليست مجرد مدينة عابرة في خريطة الزمان والمكان، بل هي موطن العلم والأدب ومهد الحضارة الإنسانية.
ومن أعماق جنوب العراق، تنبعث قصة بدر شاكر السياب، الشاعر الذي ألهم العالم بكلماته الراقية وأفكاره العميقة، فقد وُلِدَ في قرية جيكور في محافظة البصرة، تلك البقعة الطيبة التي تتنفس الحكايات الخالدة وتخلد ذكريات العظماء، وفي تلك القرية البسيطة، حيث يتراقص ضوء الشمس على أوراق النخيل ويتغنى الأطفال بألحان الطبيعة، نشأ بدر بين ظلالها، وسط جمال يتخلله الواقع القاسي لحياة الفلاحين، وكما كانت أرضها خصبة بثمار النخيل، كانت حياتها مليئة بالتحديات والمصاعب التي واجهها معظم سكانها.
وفي هذا السياق، يندرج والده شاكر عبد الجبار في قافلة الفلاحين الذين عاشوا وسط أراضي النخيل، يعملون بجد واجتهاد لتأمين قوت يومهم، ومع ولادة بدر، ازدادت الحياة تعقيداً وتحملاً على عاتق الأسرة المتواضعة، التي لم تكن تعيش سوى بمعايشة اليوم والغد القريب، ومع وفاة والدته وهو في سن الطفولة الصغيرة، بقي بدر يتيم الأم، وحيداً يواجه تحديات الحياة في بيئة صعبة، فأصبح يتنقل بين أحضان الأقارب، يبحث عن الدفء العائلي والحنان المفقود، في رحلة حياة مليئة بالمشاق والتحديات التي لا تزال تصقل شخصيته وتغرس فيه قوة الصمود والإيمان.
هكذا، تبدأ رحلة بدر شاكر السياب، الشاعر الذي أثرى الأدب العربي بتجربته الشخصية ورؤيته الفريدة، وسط جذوره العميقة في أرض البصرة، التي أنجبته واحتضنته وشكّلت له قاعدة ثابتة لينمو ويزدهر، وسط أزقتها الضيقة تتلألأ نجوم الإبداع والفكر.
بالتالي، إن حياة بدر شاكر السيّاب تمثّل قصة تلاحم بين العلم والشعر، حيث تنسجم أنغام العلم بمعزوفة الشعر في خيوط تؤسس لمساره الإبداعي، فمنذ أواخر الثلاثينيات، كان ينتقل بين جيكور وأبي الخصيب والبصرة ليبحث عن بذرة العلم التي تنمو في تربية الحكمة والمعرفة، وعندما ألقت نفحات العلم بظلالها عليه، توجّه بدر إلى دار المعلمين في بغداد، ليسلك طريق العلم والتعليم بكل جدّ واجتهاد، في ذلك الجو المفعم بروح العلم والمعرفة، انطلق بدر في دراسة أدب اللغة العربية، ليعكس بمشاعره الشاعرية الغنية وتعبيراته اللغوية الراقية جماليات هذا الفن الراقي، وفي أحضان دار المعلمين في بغداد، لم يكتفِ بتلقي دروس أدب اللغة العربية وحدها، بل استحضر لنفسه فضاءات جديدة من المعرفة، حيث تناوَلَ علم اللغة الإنكليزية وأدبها بشغف وإبداع، يجسد تلك الرحلة الشاقة التي ترافقت مع شروق الفجر وغروب الشمس، ليختمها بفخر واعتزاز بحصوله على شهادة اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي في عام 1949، وهو يحمل في جعبته ثروة من المعرفة والثقافة تلمع كالنجمة في سماء الأدب.
وكما تنطلق الأنهار من مصادرها الصافية، بدأت رحلة بدر الشاكر السياب الشعرية منذ صغره، حيث عزفت أوتار الشعر في روحه الشابة، تجلت في قصائد تتراقص على لسانه باللهجة العراقية الدارجة، لتنقله بعدها إلى عالم الشعر الفصيح، يحتذي بأساتذته ومعلميه في مدرسة الرومانسية الأدبي، ورغم أن هذه المرحلة لم تزدهر بالجدارة التي كان يتمناها بدر، إلا أنها كانت بداية مباركة لرحلة فنية طويلة، حيث شهدت نشوء دواوينه الأولى مثل “أزهار ذابلة” و”أساطير”، التي انطلقت تتراقص في أروقة الأدب العربي كنغمة تحمل في طياتها وعوداً بالإبداع والتألق المستقبلي.
وفي محطات رحلة الإبداع والتجديد، انطلقت شخصية بدر شاكر السياب نحو عالمٍ جديد من الشعر، حيث اندمجت مختلف الثقافات والتأثيرات لتلد مرحلةً جديدةً من إبداعه الشعري، تتسم بالغنى والتنوع والتفرد، لقد تألق السياب في هذه المرحلة بعددٍ من الدواوين الشعرية التي أضاءت سماء الأدب العربي، كأنشودة المطر والمعبد الغريق ومنزل الأقنان وشناشيل ابنة الجلبي، حيث خرج بدر عن المألوف وبنى أسساً جديدة للقصيدة، يُعتبر فيها رائداً للتجديد الشعري في العصر الحديث، وفي زمن التغيير والتحول، سطعت قصائده بأسلوب جديد في الوزن والقافية، افتتح فيه مشروعه الحداثي بقصيدة “هل كان حباً”، ومن ثم أتبعها بمجموعة من القصائد التي تعبّر عن تجربته الحياتية ومشاعره العميقة.
وبعدما ترك بصمته في الشعر المنشور خلال حياته، استمر تأثير السياب بعد وفاته، حيث أُجمِعَ ونُشِرَ شعر لم ير النور مسبقاً، كقصائد “إقبال” و”قيثارة الريح” و”أعاصير” وغيرها، ليظل بذلك محط إعجاب الجماهير ومصدر إلهامٍ للأجيال القادمة، كمنارة تتوهج في سماء الشعر العربي، مكرساً بلا شك مكانته كواحد من أعظم الشعراء، وأغناهم تعبيراً عن خفايا النفس وأعماق الوجدان.
ومن بين مؤلّفات بدر شاكر السياب تتألّق جواهر الترجمة، حيث تجسّدت موهبته الشعرية في تأويل الأعمال العالمية لأدباء كبار من مختلف الثقافات واللغات. بفضل إجادته للغة الإنكليزية، فقد تبوّأ السياب مكانة بارزة في عالم الترجمة، حيث تحوّلت أقلامه إلى محطّات تقدير وتأمّل لأعمال كبار الشعراء، ومن بين الأسماء التي أضاءت رصيد السياب في الترجمة، نجد الإسباني فدريكو غارسيا لوركا والأمريكي عزرا باوند والهندي طاغور والتركي ناظم حكمت، وليست هذه الأسماء إلا بعضاً من مجموعة واسعة من الشعراء العالميين الذين ترجمت أعمالهم على يديه، كما أصدر السياب مجموعة من ترجماته لأول مرة في عام 1955، تحت عنوان “قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث”، حيث جسّد فيها تراثاً شعريّاً عالميّاً يتجاوز الحدود الجغرافية ويتخطى الثقافات.
ومن زوايا الشعر المترجم، تألّقت قصائد السياب في تقديم أعمال مترجمة متنوعة، تناولت مواضيع تتنوّع بين الحب والحرب والعصر الذرّي، من خلال ترجمته لأعمال إيديث ستيول وناظم حكمت وغيرهم من الشعراء العالميين، حيث عكست أقلامه نسمات الفن والجمالية في عالم الترجمة، مواصلة بذلك تراثه الشعري الراقي والمتجدد.
وفي عالم الأدب والفن، ترتسم روح الإبداع والتميز في أعمال السياب، حيث تتجلى نجمته اللامعة في عدة مجالات منها الأعمال النثرية التي أضاءت مسار الأدب العربي بإسهاماتها الفريدة، من بين هذه الأعمال النثرية المترجمة، يبرز بوضوح محاضرته المميزة بعنوان “الالتزام واللاالتزام في الأدب العربي الحديث” التي ألقاها في مؤتمر الأدب العربي المعاصر في روما، حيث قدّم فيها رؤية نقدية متميزة تسلّط الضوء على تجارب الكتاب العرب في الأدب الحديث، ومن جانب آخر، لم يقتصر إبداع السياب على الشعر فقط، بل امتدت ريادته أيضاً إلى المجال الشعري، حيث اعتلت قصائده قمم الشهرة والتأثير، ويشكل بدر السياب جزءاً أساسياً من مدرسة الشعر الحر العربي، التي جسّدت تجربة فريدة من نوعها في تجاوز تقاليد الشعر القديم واستحضار أساليب جديدة في التعبير.
ومن خلال تأثيراته العميقة، شارك السياب في جهود تحرير الشعر العربي من قيود القافية المحدودة، وتسليط الضوء على الحرية الشعرية وتنوع المفردات والتعابير، وبهذا المنحى، اندمجت أصواتهم في سياق عالمي يتسم بالحرية والتنوع، مما جعله يشكل جزءاً حيوياً من مسيرة التجديد الشعري في العالم العربي، وجسّد تفرّدهم في تراث الأدب العربي المعاصر.
ومما قال في قصيدة “أنشودة المطر”:
تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه – التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: «بعد غدٍ تعود»
لا بدّ أنْ تعود
بالإضافة إلى ذلك، إن قصيدة “غريب على الخليج” للشاعر بدر شاكر السياب تعتبر من القصائد التي تترك أثراً عميقاً في نفوس القرّاء والمستمعين، فهي تحمل بين جنباتها مزيجاً من الحنين والوجدان والشوق للوطن والتراب الذي ترعرع فيه أرواح الأجداد. يبدو أن الشاعر يتأمل في هذه القصيدة قضية الهجرة والغربة، والشوق العميق للوطن والانتماء إليه، فضلاً عن تفاصيل آلامه التي كان يعاني منها في أيامه الأخيرة.
هذه القصيدة المؤثرة لطالما أبكتني لروعتها وصدق تعبيرها، ولا عجب أن خًطّت عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه حول شعر هذا النابغة وقد قرأت شخصياً الكثير منها إن كان في جامعة القاهرة أو جامعات دول المغرب العربي وبالطبع بلده الثاني وبلدي الكويت، التي اهتمت بنشر شعره وكتاباته باستمرار خاصة في مجلة البيان التابعة لرابطة الأدباء الكويتيين فضلاً عن المجلات والصحف والمواقع الأخرى.
وا حسرتاه … فلن أعود إلى العراق!
وهل يعود
من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجود
به الكرام على الطعام؟
لتبكينَّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياح وللقلوع!
وكل من يقرأها يجد أن هذه القصيدة تمتاز بالبساطة والعمق في الوقت ذاته، فهي تأخذ القارئ في رحلة شاعرية تمتزج فيها الصور الجميلة بالمشاعر الصادقة، يظهر الشاعر بأسلوبه اللامبالي البسيط والمباشر، يصور حالة الغربة والشوق بقدرة فائقة على استخدام اللغة وتناغم الألفاظ.
وربما يكمن جمال القصيدة من وجهة نظري، في قدرتها على استحضار المشاعر وإيصالها بوضوح إلى القارئ، فهي تتناول موضوع الغربة والوحدة بشكل يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش تلك الحالة بنفسه، حيث تتخلل القصيدة تفاصيل وصور تجعل القارئ يتخيل المكان والزمان بواقعية مدهشة، مما يجعله ينغمس بعمق في عوالم الشوق والحنين.
ففضلاً عن قراءتها، كنت استمع إليها بصوت الفنان القدير، الراحل البصري فؤاد سالم، فقد أضاف لها بكل تأكيد تضيف للقصيدة طابعاً فنياً خاصاً، حيث يتمتع بصوت جميل يعزف على وتر الشعور، مما يجعل من تلك القصيدة تجربة مؤثرة بحق. فصوته يضيف بعمق إلى معاني القصيدة ويجعلها تتجلى بشكل ملموس أكثر، مما يجعلها قصيدة لا تُنسى وتبقى حاضرة في ذاكرة المستمعين.
بدر شاكر السياب الإنسان
بين ضفاف الحب وأضواء الواقع، تجتاح محنة بدر شاكر السياب مشاهد العاطفة المتقلبة، فلا يزال قلبه ينبض بنيران الأمل والشوق، حتى وسط زواجه الذي لم يطفئ حماسه للبحث عن الحب المنشود، فماضيه يشهد على سطور عدة، تحمل مجموعة متنوعة من العلاقات، تراوحت بين لميعة عباس ولبيبة وليلى الممرضة، وحتى الصحفية البلجيكية لوك، التي اهتمت بترجمة شعره إلى الفرنسية، ومع تنوع العلاقات وتباينها، لم يجد بدر السياب ملاذاً يروي فيه عطشه العاطفي، فالحب بالنسبة له لم يكن مجرد شعور استجابي، بل كان تجربة شخصية معقدة ترتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي عاشها.
وفي السياق، ينعقد صراع بدر بين عالمين متنافرين: عالم الدراسة وعالم الحب، بعد إتمامه للدراسة الابتدائية، انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار، حيث غمرته محبة جدته لأمه، وكانت هذه الفترة بمثابة نقطة تحول في حياته الشعرية، إذ اختار كتابة الشعر العروضي والتمسك بمواضيعه الكلاسيكية، لكنه لم يبقَ مقيداً بتلك الروح القديمة، بل تحرّر شعره لاحقاً وانضم إلى مدرسة الشعر الحر كما أسلفنا، ما عكس تطوره الشعري وثورته على التقاليد القديمة، ليصبح بذلك جزءاً لامعاً من مسيرة التجديد الشعري في العالم العربي، يقول السياب:
بيني وبين الحب قفر بعيد
من نعمة المال وجاه الأبِ
يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد
شتان بين الطين والكوكبِ
وبين أروقة الدراسة وألوان العاطفة، تجتاح رحلة بدر شاكر السياب مسارات متعددة، تتخللها لحظات تحوّل وتغيير، حيث ترك قسم اللغة العربية بعد نجاحه في الموسم الدراسي 1944-1945، وانتقل إلى قسم اللغة الإنكليزية كما ذكرنا، وذلك بحثاً عن مصادر جديدة لإثراء عالمه الشعري، في هذه الفترة، عاش تجارب جديدة واكتسب معارف من الشعراء الرومانسيين الإنكليز مثل ورودزورث وكيتس، ما أثر في تطوره وتجديده الشعري.
بموازاة ذلك، تشكلت خلفيّة سياسية مضطربة في العراق، حيث شهدت البلاد احتجاجات ومظاهرات تأتي في سياق التحولات السياسية والاجتماعية، لقد كان بدر جزءاً من هذا الحدث، ولكن الظروف القاسية دفعته للهروب إلى البصرة ثم إلى الكويت، حيث واجه تحديات جديدة ومواقف قاسية تركت أثرها على نفسيته وإبداعه الشعري، ليعود بعد ذلك إلى العراق، لكن حياته لم تكن خالية من التحديات، فزواجه عام 1955 لم يحمل السعادة المنشودة، حيث واجه تبايناً في الآفاق والتطلعات بينه وبين زوجته، ما جعله يتأمل في أسرار العلاقات الإنسانية وتعقيداتها، ويبحث في دواخلها عن معنى الحب والتضحية والتفاهم.
وفي نهاية الرحلة الطويلة لحياة بدر شاكر السياب، تجلت الصعوبات والتحديات بشكل لا يمكن تجاهله، خاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت تدهورًا مستمرًا في وضعه الصحي، لم يكن ذلك مجرد تحديات جسدية، بل كانت تحمل أعباء الأمراض والمشاكل المادية، فضلاً عن مسؤولياته نحو عائلته الصغيرة التي لم يمكن لأي أب أن يتجاهلها، في أعقاب تلك الأعباء الثقيلة أثرت على جسده وروحه، حيث تطورت أعراض مرضه العصبي، ورغم محاولات العلاج في عدة بلدان لم يحظ بدر بتحسن يُذكر، وكان يجمع بين أوجاع الجسد وأوجاع القلب، وهو يفكر في مستقبل أبنائه وحاجات عائلته التي لم تتوقف عن الزيادة.
في تلك الأوقات العصيبة، جاءت الإجازات المرضية بنصف الراتب كمساعدة مادية قليلة، لكنها لم تكفِ لتلبية احتياجاته، ومع انتهاء فترة الإجازات ونفاد الخيارات المادية، بدأت أزمة جديدة تتجاوز حدود الصبر وتتعاظم يوماً بعد يوم، رغم ذلك، لم يترك بدر الأمل يتلاشى من قلبه، فسافر مرة أخرى إلى الكويت بجهود صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي، ولكنه وصل إلى هناك مريضاً تلك المرة، محتاجاً لشفاء يعيد له قوته وحيويته، ولكن، لم تكن الأقدار رحيمة معه، فظل مريضاً في المشفى، حيث أقام هناك أيامه الأخيرة، حتى جاءت نهايته المحتومة في الرابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 1964، وبهذا الشكل انقضت حياة السياب، تاركة وراءه إرثاً شعريًا لا ينسى وقصة حياة مليئة بالتحديات والتضحيات.
السياب والشيوعية
لقد كان السياب، بما تمتع به من شغف وإلهام، قادراً على استحضار عوالم شعرية متنوعة، تقدم كتابات السياب في النثر بعداً جديداً لتجربته الشعرية، حيث تعكس تلك الكتابات غنى أفكاره ودعمها للتجربة الشعرية بأسلوب مختلف ومتجدد، تتنوع هذه الكتابات ما بين مقدمات لدواوين شعرية، ورسائل تبادلها مع أدباء عصره، ومقالات شارك بها في المؤتمرات، مثل مؤتمر روما الذي تم عقده في عام 1961.
ومن بين هذه الكتابات، يبرز كتاب “كنتُ شيوعياً” كوثيقة تاريخية وشاهدة على مراحل تجربة السياب، إذ يعتبره البعض اعترافات صريحة بأصعب المواقف التي مر بها، هذا الكتاب، الذي أُعيد نشره في عام 2007 بعد أن نُشرت أوراقه في جريدة “الحرية” البغدادية عام 1959، يمثل وثيقة تاريخية تكشف عن شذرات من حياة السياب ومواقفه وآرائه بخط يده، بالتالي، تتنوع مضامين هذه الكتابات بين العلاقة بين الشعر والسياسة، وبين الشاعر والحزب الشيوعي، حيث يستعرض السياب فيها التحولات السياسية والأثر الذي أحدثته على الشعر والشعراء، ومن خلال تساؤلاته عن مصير الشعر في ظل “الكابوس الأحمر” الذي ساد العراق، يبرز السياب الوعي السياسي والشعور بالمسؤولية الاجتماعية التي كانت تحدد تجربته الشعرية والفكرية.
ديوان أساطير
في مقدمته لديوانه “أساطير”، يتجلى تحدي السياب وتطلعاته نحو تجديد الشعر العربي، إذ ينبعث من كلماته حماسٌ للتفكير التحليلي والبحث في جوانب الشعر الحديث، ورغم قصر المقدمة، إلا أنها تكشف عن غرسه لبذور الفكر التنظيري، حيث يبحث في مواضيع مبتكرة ومتجددة تطبع القصيدة المعاصرة وتدفع بها نحو أفق الحداثة، في هذا السياق، يبرز السياب برنامجه الشعري الذي يسعى من خلاله لتحقيق التجديد وتحرير القصيدة من أثر المناخ الرومانسي القديم، مُعَدًّا الأجواء لقبول واستيعاب الجديد والمبتكر.
وفي هذا البرنامج الأساسي، يتضح تعبير السياب عن ثلاثة جوانب رئيسية: التفرد، والغموض، والشعور بالحرج، فقد أكد السياب على أهمية التفرد لا سيما في التفاعل مع المتلقي، حيث طالب بتجاوز القراءة التقليدية ورفع مستوى التفاعل الفني للقصيدة الحديثة، وانطلق السياب إلى تعبير عن مفهوم الغموض، الذي ينبغي أن يتجاوزه القارئ لفهم أعمق لمضمون القصيدة، ويعزز هذا الأسلوب من رونق وجاذبية النص الشعري، بالإضافة إلى ذلك، يشير السياب إلى شعوره بالحرج والغموض الداخلي، حيث يتناول تجربته الشخصية في مقابلة الحياة والتعامل مع الخسارة، مشيرًا إلى فقدانه لوالدته والحاجة الملحة للعواطف والدفء الأمومي الذي ناقشه وعانى منه.
تجربة فريدة
تجسد تجربة السياب الشعرية، بكل غناها وتعددها، هذا الاندماج المعقد والمتضارب، وتتسامى تعابيرها في مرحلتها الأخيرة إلى ما يمكن وصفه بـ “شخصنة الأسطورة”، فبينما كانت أنا الشاعر مغمورة في خلق الأساطير ونحت عوالمها الشخصية، لم يكن هناك ضغط وعي ملح على النهاية المحتومة، مما انعكس على السجل التعبيري الذي صاغته حالات الأنا الذاتية بين الغناء والتألم، وهكذا، اندمج السياب مبكراً مع الرمز الشخصي، مما منحه دلالات ذاتية يستنتج منها تجاربه وتحدياته في الحياة، محاولاً التعبير عن ألمه الحالي وعدم رضاه من خلال تشكيل هذا الرمز وتشتيت تناقضاته، وبالرغم من تردد الصور والذكريات التي تتداخل مع وظيفة الرمز، فإن هذا الأخير كان يعوض عن الشخص الفعلي الذي تأثر بالمرض الذي تصاعد، محولاً التجربة الشخصية إلى حوار غير ملموس، يُعبر عن تقلبات الأنا الداخلية، بل وحتى التشكيك في مدى تمثيلها بشكل واضح لحياة الشاعر نفسه.
ومع ذلك، فإن السياب لم يفقد “الصدق التعبيري”، حيث ظل يعبّر عن ألمه وتحدياته بصدق وشفافية، رغم استخدامه الرمز والأسطورة في كثير من الأحيان، وبالتدريج، بدأ يطرح علاقة متزامنة بين حياته وشعره، حيث يُعبّر الأخير عن أعمق مشاعره وأفكاره بأشكال متنوعة مما جعل من قصائده مساحة للتأمل في عالمه الثقافي والتخيلي، وعالمه الشخصي الملحمي، وتُعدّ “أنشودة المطر” (1960) رمزاً حياً لهذه المرحلة من تجربة السياب، حيث انفتح على السرد بشكل أكبر، وتخلص من الحساسية الرومانسية، واعتمد أسلوباً أكثر وعياً بحداثة العمل الشعري، الذي شكّل قصائده ودواوينه الذاتية.
وفي رحلته المتأملة عبر ساحات الشعر، خطى السياب خطوات تعكس مراحل حياته بوضوح شديد، وفي زمن حافل بالتغيرات والتحولات، أبصرت “أنشودة المطر” (1960) نور النهار، وكانت كلمة السر لهذا الطور المثير من تجربة السياب، في هذا الديوان، انفتح الشاعر على السرد بشكل جديد، متحرراً من قيود الحساسية الرومانسية، وينغمس بشكل أعمق في وعيه بحداثة الشعر الذي أضفى بصمة شخصية على قصائده، ولكن، لم يكن “المعبد الغريق” (1962) و”منزل الأقنان” (1963) مجرد تتويج لهذا الطور، بل كانا بوضوح يعلنان عن بداية فصل جديد في تجربة السياب، بعد خيبة الأمل من رؤية جيكور، ومع صراعه الشخصي مع المرض، تألم الشاعر بوجه مباشر، وشكا من تداعيات الذكريات المؤلمة، فقد انحسرت تجليات الرمز والأسطورة، لتكشف عن عذاب فردي يعيشه الشاعر، وتنقل العادي والمهمش إلى جوهر الخطاب.
وفي قصائد مثل “الأم والطفلة الضائعة” و”سفر أيوب” و”رحل النهار” و”الوصية” و”شباك وفيقة”، كانت الكلمات تنبعث منها ألمٌ وتألم، وهي تعبر عن حياة السياب وطفولته وتجاربه المريرة، لقد اندمجت ذكرياته وأطوار حياته في رموز تعكس معاناته الجسدية والروحية، ورغبته في البحث عن مأوى في أوج الألم، ولعل السياب اختار أسطورة “عوليس” أو “أوديسيوس” كبطل لأوديسة، لأنها كانت تعكس حالته الذاتية، كما نجده يحوي في قصائده آثاراً للنوستالجيا، تعكس رغبته في استعادة القيم التي فقدها في الماضي. فالماضي لم يكن مجرد ذكرى في عمر الشاعر الفعلي، بل كان شيئاً يُمثل النعيم المفقود والمستقبل المأمول.
السياب ونازك الملائكة
في صراع مفتوح على ريادة الكتابة الشعرية الجديدة، دارت حوارات متعددة بين السياب ونازك الملائكة، تتناول الأسبقية في تقديم هذا النهج الشعري الجديد، ففي عام 1947، رأى النور أول قصيدة لنازك بعنوان “الكوليرا”، وتقريباً في نفس الوقت، ظهرت قصيدة “هل كان حياً” للسياب، بدر شاكر السياب يذكر في مقدمة ديوانه “أساطير” أن أول تجربة له في هذا النمط كانت في قصيدة “هل كان حياً” من ديوان “أزهار ذابلة”، وقد لاقى هذا النوع من الشعر قبولاً كبيراً من قبل الشعراء الشباب، بالمقابل، تشير نازك الملائكة في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” إلى أن حركة الشعر الحر بدأت في بغداد عام 1947، وأن أول قصيدة حرة الوزن نشرت في بيروت وصلت إلى بغداد في ديسمبر 1947.
وبالنسبة للجدل حول من هو رائد الحداثة في الشعر الحر، فإن آراء النقاد متباينة، حيث يرى بعضهم أن نازك الملائكة كانت الأولى في اعتماد الشعر الحر في ديوانها “عاشقة الليل”، بينما يرى آخرون أن السياب هو الأول في ديوان “أزهار ذابلة”، وفي كتابه “مراجيح الناثر بدر شاكر السياب”، يستعرض جاسم المطير الآراء المتضاربة حول هذا الموضوع، ويشير إلى أن الدافع وراء كتابته للكتاب كان الرغبة في تسليط الضوء على البيئة التي نشأ فيها السياب، وتوضيح تأثيرها على حياته وأعماله، ويؤكد أيضاً أن الانتقادات التي واجهها السياب لم تثنه عن استمراره في تجسيد أفكاره بعيداً عن التقليدية.
لقد أجاد السياب بجهدٍ شاقٍ خلال مسيرته الأدبية، سعياً إلى تطوير الشعر العربي وتحديثه، لجعله يتناغم مع القوالب العالمية ويحمل بصمة مبتكرة، وبالرغم من التقدير الذي حظي به والانتقادات التي واجهها، فإن حياة السياب لم تخلُ من الصراعات والأزمات، التي تركت بصماتها على مساره الأدبي، على الرغم من اتساع هذه الأزمات، إلا أن أدباء البصرة تفهموا تماماً خصوصية السياب واحترامه لها، فهو كان يعيش في عزلته الثقافية والشخصية، ويجد في بقائه بقريته الصغيرة جيكور ملاذاً لروحه الإبداعية، ربما كانت هذه العزلة المنطقة تفسر انخراطه المتزايد في استكشاف الأساطير واستخدامها كعنصر أساسي في شعره، فأضاف هذا البعد الأسطوري لشعره لمسةً من الفتنة الإبداعية، مما دفع به نحو بناء قصائده بشكلٍ متطور ومبتكر، وجعله يعمل على تفعيل التفاعل بين الشعر والأسطورة بطريقة مثمرة.
وفي بيئة حيوية ونابضة بالحركة في مدينة البصرة، شهدت الأندية الأدبية والتجمعات الثقافية نشاطاً ملحوظاً، حيث تجمع الكتاب والشعراء والنقاد من جيلين أدبيين، مما أضفى على المدينة طابعاً مميزاً من الحيوية والإبداع، ومن بين الشخصيات المهمة التي نشطت في هذا السياق، كان للشاعر كاظم حسن وللشاعر الباحث رزوق فرج رزوق وللكاتب المؤرخ فيصل السامر وللناقد كمال الجبوري وللروائي مرتضى الشيخ حسين، دور بارز في إثراء المشهد الثقافي بإسهاماتهم المميزة، تلك التجمعات كانت ملتقى للأذواق المختلفة والأفكار الناشئة، وشكلت منصة للنقاش والتبادل الثقافي، مما ساهم في تجسيد مشهد أدبي حافل بالإبداع والتنوع.
السياب والسياسة
عكست مذكرات السياب جانباً من حياته السياسية والحزبية، إذ كانت تحمل توجهاً عاطفياً وغضباً ممزوجاً بالانتقام والثأر، بعيداً عن وضوح الفلاسفة والعلماء، فقد هاجم السياب الحزب الشيوعي العراقي، رغبةً في تحقيق الريادة في الشعر الحر، ربما بظنه أن عدم منحه هذه الهوية كان بتوجيه من الحزب، ورغم دوره المهم في ديوان “أباريق مهشمة” مع نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، فإنه يظل جزءاً من مجموعة من الشعراء المداحين.
السمات الشعرية والتعابير
بدأ السياب رحلته الشعرية وهو في شبابه، حيث استعان بلغة الشارع العراقية في نسج أولى خيوطه الشعرية، لكنه سرعان ما انتقل إلى اللغة الفصحى، متأثراً بأساتذة المدرسة الرومانسية، ولكن في تلك المرحلة لم يبدع بأسلوب فريد، ولم يتميز بتنوع القصيدة، وفي هذه الفترة، أطلق إصداراته الشعرية مثل “أزهار ذابلة” و “أساطير”، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وانقضاء الثقافات المختلفة في العراق، دخل السياب مرحلة جديدة من إنتاجه الشعري، حيث قدم مجموعة من الدواوين المهمة مثل “أنشودة المطر” و “المعبد الغريق” و “منزل الأقنان” و “شناشيل ابنة الجلبي”. في تلك المرحلة، بدأ السياب في ابتكار أساليب وأشكال جديدة للقصيدة، مما جعله في طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي، وفي نهاية الأربعينيات، أطلق قصيدته “هل كان حباً”، التي افتتحت مسيرته الحداثية بأسلوب جديد في الوزن والقافية.
وفي سعيه لابتكار تعابير جديدة، أكد السياب على أهمية إبداع تعابير فريدة، قائلاً: “الشاعر الحديث ملزم بخلق تعابير مبتكرة، يجب عليه نحت الكلمات بدلًا من تكرار الألفاظ القديمة”. واستطاع السياب أن يتألق في استخدام التعابير الجديدة، كما في قصيدته “ابن الشهيد”، قال السياب:
يا ليتني ما زلتُ في لعبي
في ريف جيكور الذي لا يميلُ
عنه الربيع الأبيض الأخضر
السّهل يندى و الرّبى تُزهرُ
ويُطفئ الأحلام في مُقلتي
كأنها مِنفضة للرمادْ
من هنا، وفي عالم شعر السياب، يتجسّد الرمز كلغةٍ خاصةٍ بالمعاني والأساطير، تتراقص على أوتار قصائده الشاعرية، محمّلة بالعديد من الأبعاد والمعاني العميقة، تجسيداً لمعاناة السياب الجسدية والنفسية، وتعبيراً عن أزمنة الصراع السياسي والاجتماعي في العراق، اتبع السياب درب أدبياً يحاكي فيه أساليب أبي تمام وإديث ستويل، وهو ما كشف عنه بنفسه عندما قال: “أغلب قصائدي هي مزيج من طريقة أبي تمام وطريقة إديث ستويل، إدخال عنصر الثقافة والاستعانة بالأساطير والتأريخ والتضمين في كتابة الشعر”، وفي هذا السياق، تعددت الرموز في شعر السياب وازدادت تنوعاً وتشعباً، حيث صاغ صوراً رمزية متعددة، يختبئ وراء كل منها قصة وإشارة تتحدث عن معاني وآفاق جديدة.
ومن بين الرموز التي تألقت في شعر السياب، تبرز صورة المرأة كمحورٍ أساسي في نصوصه، حيث أسهمت في تشكيل أفكاره ومشاعره بشكل عميق، فجسد المطر في قصيدة “المطر” يرمز إلى الأمومة والحب، وجميلة في قصيدة “جميلة بوحيرد” تعنى بالنضال والكفاح، بينما اعتمد السياب على صورة “إقبال” في قصيدة “الوصية” لترمز إلى قريته جيكور، ومن خلال هذه الرموز، استطاع السياب تجسيد مشاعره الشخصية وآلامه، ونقل معاناة وطنه بأسلوبٍ فنيٍ راقٍ، حيث مزج بين الواقع والخيال ببراعةٍ استثنائية.
كما تجلى احتكاك السياب بالرمز بوضوح في مواجهته للاغتراب، فقد اتسمت نصوصه بمفردات تكشف عن شعوره بالعزلة والوحدة، حيث أبدع في استخدام مفردات تلمّ عن تلك المشاعر مثل “الوحيد، الشريد، الغريب”، ومن خلال هذه الرموز، قام السياب بتصوير مشاعر الاغتراب بدقة وعمق، حيث أتاح لقارئه النظر إلى أعماق روحه ومشاعره بصورة ملموسة ومؤثرة، وعمق الاغتراب في شعر السياب يتعدى مجرد فقدانه لأحبائه، إذ يظهر بوضوح كيف أثرت الظروف السياسية والاجتماعية في شعوره بالاغتراب من وطنه ومن جذوره الثقافية، مما جعله يتألم ويعاني بصمت ويعبر عن آلامه بأسلوب شعري ينبض بالحياة والجمال.
في ليالي الخريفِ الطِّوال
آهِ لو تَعلمِين
كيف يَطغى عليَّ الأسى والمِلال؟!
في ضلوعي ظلامُ القُبورِ السجين
في ضلوعي يصيح الرَّدَى
بالتراب الذي كان أمي: «غدًا
سوف يأتي، فلا تُقلقي بالنحيب
عالمَ الموتِ، حيث السكونُ الرهيب.
همس كشوكٍ مسّ من جبهتي
يُنذر بالسارين فوق الجيادْ
في نهاية رحلة السياب، نجد أنفسنا مغمورين بعواطف لا تُوصف، فقد كانت حياته شاعرية مثيرة مليئة بالمعاناة والإبداع، لقد رسم بقلمه لوحات شعرية تحاكي أعماق الوجدان وترنو إلى الجمال والتأمل، عاش السياب في عالم من الغموض والرموز، حيث تجلت في شعره قصص الألم والحزن، لكنها انعطفت أيضاً نحو شغف الحياة وروح الإبداع، وعلى رغم نهاية رحلته في هذا العالم، يظل إرثه الشعري متلألئاً كنجمة في سماء الأدب العربي، يستمد منه الأجيال القادمة الإلهام والعزم على تجاوز الصعاب وتحقيق الجمال والإبداع، وهكذا رحل الشاعر الكبير عن عالمنا بما تركه لنا من إرث عظيم، في عام 1964، ونُقل جثمانه من الكويت إلى البصرة وعاد إلى قرية (جيكور)، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.
شخصية السياب البصرية الرائعة تمثل واحدة من أبرز الشخصيات الأدبية في التاريخ العربي، فهو شاعر يحمل في قلبه وعقله عشقاً للبصرة الفيحاء والعراق والعروبة بشكل عام، بدر شاكر السياب ليس فقط شاعراً، بل كان أيضاً ناقداً أدبياً ومفكراً، وقد ترك بصماته العميقة في عالم الأدب العربي.
وأما زياراتي المتكررة خلال سفري الدائم إلى البصرة، لقبره في مسقط رأسه في البصرة تعبر عن امتناني واحترامي لهذا العملاق الأدبي، وتعكس ارتباطي العميق بأعماله وفلسفته، وهي فرصة للتواصل الروحي مع تراثه وذكراه، بدر شاكر السياب كان رمزًا للعربية والعروبة، ونجح في تجسيد هذه القيم من خلال قصائده ومقالاته التي امتزجت بجمال اللغة وعمق الفكر، مما جعله يترك بصمة فارقة في تاريخ الأدب العربي.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.