يظل القرآن الكريم مصدراً للهداية والتوجيه، ومعلماً للأخلاق والقيم الروحية، فهو ليس مجرد كتاب، بل هو كلام الله تبارك وتعالى، المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يحمل في طياته الحكمة والرحمة والإرشاد، حيث تتجلى جماليات القرآن الكريم في عدة جوانب، منها:
أولاً، اللغة البليغة: يتمتع القرآن بأسلوب لغوي رفيع، ينبعث منه العظمة والجلال، وفي الوقت نفسه يصل إلى قلوب الناس بسهولة ويسر، فهو يجمع بين البلاغة والوضوح، ويصنع بالكلمات أرقى الصور البيانية.
ثانياً، التدبر والتفكير: يدعو القرآن الكريم إلى التفكر في آياته والتأمل في معانيها، مما يعزز الروحانية لدى القارئ ويزيد من ارتباطه بالله.
ثالثاً، الهداية والتوجيه: يعرض القرآن قصص الأنبياء والمرسلين، ويحكي تجارب الأمم السابقة، ويبين النهج السوي في جميع جوانب الحياة، مما يمنح الإنسان الارشاد الروحي اللازم لسيره في الحياة.
رابعاً، الرحمة والتسامح: يتضمن القرآن الكريم دعوة للرحمة والتسامح، وتعظيم قيم العدل والإنصاف، مما يعزز الروحانية والتلاحم بين أفراد المجتمع.
خامساً، الإلهام والتأمل: يفتح القرآن أفقاً للإلهام والتأمل، حيث يدعو القارئ لاكتشاف عظمة الخلق وقدرة الله، والتفكر في الآيات الكونية والمعجزات الخالدة.
بالتالي، إن جماليات القرآن الكريم تتجلى في كلماته السامية، وفي معانيه العميقة التي تنير الطريق للباحثين عن الحقيقة والروحانية.
من هنا، يتمحور القرآن الكريم حول أفعال البشر، إذ يصوّرهم وهم ينتجون ويعملون بمختلف الطرق، مما يثير تساؤلات حول الغرض البياني لهذه الأفعال، فالفعل هو مفهوم عام يمكن أن يطبق على الإنسان والحيوان والجماد، ومن بين الأفعال الأكثر شيوعاً هو فعل الماء وفعل الرياح، سواء كان ذلك بقصد أو بدون قصد، والعمل هو مفهوم أضيق من الفعل، فهو يتضمن القصد والتوجيه، ولذا نجده يُرتبط بشكل رئيسي بالإنسان، وقليلاً ما يرتبط بالحيوان، مع الإشارة إلى أن العرب استخدموا مصطلح العمل في الحيوان فقط فيما يتعلق بالبقر وعوامل الحراثة، بالتالي، إن العمل هو مفهوم أضيق من الفعل ويُرتبط بشكل أساسي بالإنسان.
كما يتجلى مفهوم الصنع كمهارة في الفعل، حيث يُعتبر أضيق من العمل، فلا يُرتبط بالحيوان ولا بالجماد، وليس كل عمل هو صنع حتى يكون متقناً، كما جاء في القرآن الكريم: “صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ” (سورة النمل، الآية 88) بالتالي، إن الصنع هو مهارة في العمل، وهو أضيق من العمل.
وعندما يستخدم القرآن العبارة “بما يصنعون”، فإنه يشير إلى أن الناس يحاولون ويخططون ويتقنون ما يفعلون، ويأخذون الحيطة في ما ينفذون، مما يظهر أن الصنع هو إتقان للعمل، هنا يتناول القرآن الكريم كل فعل وفقاً للسياق الذي ذُكر فيه، ولكن بشكل عام، يظل الفعل مفهوماً أشمل وأكثر عموماً، بينما يتم التركيز على العمل والصنع كأشكال أدق منه.
أما فيما يتعلق باللغة العربية، فإنها دقيقة للغاية، وتثير بعض النقاشات بين اللغويين حول ما إذا كان هناك ترادف في القرآن الكريم أم لا، فهناك من يرون أن بعض الكلمات مترادفة، مثل “المدية” و”السكين”، التي تدل على معنى واحد، بينما يرى البعض الآخر أن كلمات أخرى تشير إلى صفات محددة، مثل أسماء السيف وأسماء الأسد.
وجدير بالذكر أن التفسير يهدف إلى توضيح المعاني للسائل، ولا يجوز تغيير كلمة بكلمة في القرآن الكريم، بل يجب البقاء على النص الأصلي، فكل كلمة فيه تحمل معنى محدداً لا يجوز تغييره، بالتالي، يتجلى في القرآن الكريم دقة اللغة العربية وعمق المعاني، مما يدعونا إلى التأمل والتدبر في آياته الكريمة.
بالإضافة إلى ذلك، في القرآن الكريم، تبرز القوانين التي تحكم تقديم العمل على الفعل، أو الخبرة على العمل، في إطار تأملي روحاني يعكس عمق الحكمة الإلهية والتدبر في النصوص القرآنية، حيث يعتمد القرآن الكريم على ترتيب معين في تقديم العمل والفعل والخبرة، حيث يُعطى الأولوية للعمل في السياقات التي يتحدث فيها عن الإنسان وأفعاله، بينما يُقدم الخبرة في السياقات التي تتعلق بالله تبارك وتعالى أو بالأمور القلبية.
على سبيل المثال، في آية “صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ” (النمل: 88)، تُظهر هذه الآية تقديم الخبرة على العمل، إذ يتحدث النص عن صنع الله ومهارته الكاملة في خلق كل شيء، وفي ختام الآية يُشير إلى علم الله عز وجل الشامل بأعمال البشر قائلاً: “إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ”.
وكذلك، في آية “وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (الحديد: 10)، يُظهر النص تقديم الخبرة على العمل، إذ يُشير إلى أن ميراث السماوات والأرض لله وحده، ويُختتم النص بالتأكيد على علم الله الشامل بأعمال البشر قائلاً: “وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”.
وبالتالي، تتجلى هذه القاعدة العامة في التقديم في القرآن الكريم، حيث يُظهر النص تفضيل العمل في السياقات التي يتحدث فيها عن البشر وأفعالهم، بينما يُقدم الخبرة في السياقات التي تتعلق بالله تبارك وتعالى وبالأمور الروحانية.
أما في الآية (90) من سورة النمل، يُلقى الضوء على عواقب السيئات، حيث يصف الله تعالى مصير الذين أتوا بالسيئات بشكل ملموس وعميق، حيث يُظهر النص مشهد الإذلال والإهانة الذي يتعرض له أولئك الذين ارتكبوا السيئات، إذ يُجبرون على وجوههم في النار، ويُوضح النص بأنهم لا يجزون إلا بما كانوا يعملون، بالتالي، إن تأمل هذا المشهد يظهر لنا اللطف في تعبير القرآن الكريم عن دخولهم النار، حيث يستخدم لفظاً يشير إلى الإهانة والإذلال بقوله “فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ”، حيث يُظهر هذا اللفظ القوة والتشديد والفزع المصاحب لهذا الوضع المروع، وتتجلى دقة اختيار لفظ الكبّ في هذا السياق، حيث يُظهر اللفظ معنى رمي شيء مهين، مما يُعزز من درجة الإهانة والإذلال التي يتعرض لها أولئك الذين جاءوا بالسيئات، إذ يعكس استخدام اللفظ تصوّراً دقيقاً للحالة النفسية والمعنوية للمسيئين، ويبرز أن الوجه هو الجزء الأكثر أهمية وأشرف في جسم الإنسان، لذا يكون الكبّ على وجوههم هو نوع من الإذلال والقهر.
وبهذا، يرسم القرآن الكريم صورة حقيقية وواقعية لعواقب السيئات، مؤكداً على أهمية الالتزام بالخير وتجنب الشر، حتى لا يتعرض الإنسان للإذلال والإهانة في الدنيا والآخرة.
وفي الآية (91) من سورة النمل أيضاً، يُوضّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أُمِر به، حيث يُبين أنه أُمِرَ بعبادة رب هذه البلدة، الذي حَرَّمها لنفسه وأُمِرَ بأن يكون من المسلمين، وقد اختلفت الكتابات بين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بأن يكون مسلماً وبين أنه أمر بأن يكون من المسلمين، والفرق بين الاثنين يعكس تأملاً عميقاً في السياق والمغزى الروحي للآية، وبتحويل الجملة من “مسلماً” إلى “من المسلمين”، يُشير النص إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُوجّه الأمر لنفسه فقط، بل لجميع أفراد الأمة، مما يُبرز مكانة النبوة والرسالة الإلهية في بعثته كرسول للإنسانية جمعاء.
أما في بداية سورة النمل، يتحدث الله تبارك وتعالى عن القرآن الكريم ويصفه بأنه كتاب مبين، هدى وبشرى للمؤمنين، ويذكر العبادات التي أُمِر بها، مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويُشير إلى أهمية الإيمان بالآخرة ويحذر من الفتن والتضليل التي قد يواجهها الإنسان في الدنيا، وفي نهاية السورة، يذكر الله تعالى أنه أُمِر بعبادة رب البلدة المقدسة، وأنه أُمِر بتلاوة القرآن، مؤكداً على تناغم هذه الأوامر وتكاملها.
كما نجد أن هناك تناغماً بين بين بداية ونهاية سورة النمل بتأكيد القرآن كمصدر للهداية والحكمة، وبتأكيد أهمية العبادة والتزام الإيمان بالله، حيث يتكرر ذكر القرآن والعبادة في بداية السورة ونهايتها، مما يُظهر الوحدة والتكامل في رسالة السورة والدروس التي تُعلمها للمؤمنين.
وفي ختام سورة النمل، يأمر الله تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون من المسلمين وأن يتلو القرآن الكريم، مؤكداً أن من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فقد ضل بنفسه، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا منذراً للناس، موجهاً لهم بالهداية والتنبيه.
بالتالي، تتناسب هذه الآيات مع بداية سورة القصص، حيث يُذكر فيها أن القرآن الكريم هو الكتاب المبين، وهو الذي يحوي القصص التي تُعلم الناس الحكمة والتوجيه، ومن اهتدى بهذا القرآن فقد اهتدى لنفسه، ومن أعرض عنه فقد أضل نفسه، وهذا يتماشى مع القصص التي وردت في القرآن الكريم، مثل قصة موسى عليه السلام وفرعون، حيث أظهرت قصصهما التوجيه والإرشاد للبشرية، وكانت عبرة وعظة لمن يتلقاها بصدق ويستوعبها بعمق.
وفي الختام، إن كلمات القرآن الكريم، تتفتح كزهور الربيع لتنثر عبق الإيمان والسلام في قلوبنا، فإنها تشكل روحانية دينية تنبعث من عظمة خالق الكون وعطاءه اللامحدود، وبين كلمات القرآن الكريم، نجد الإرشاد والتوجيه، ونستشعر الهدوء والطمأنينة، فهو يعيدنا إلى جوهر الإيمان ويذكرنا بأننا جزء من خلقه العظيم، وفي جماليات القرآن، نجد العمق والسعادة، حيث يفتح أبواب السماء وينقلنا إلى عالم الروحانية والتأمل، إنه كتاب يروي لنا قصص الأنبياء والصالحين، ويعلمنا دروس الحياة والتسامح والرحمة.
فلنعيش مع القرآن الكريم، ولنجعله رفيق دربنا في كل لحظة، ففيه النور والهداية والسلوى، ولنتذوق جمالياته بقلوب مؤمنة، مستلهمين منه العزم والإيمان في كل خطوة نخطوها في هذه الحياة، فلنبادر إلى قراءة القرآن الكريم بتأمل وتدبر، ولنبحر في بحره العميق لنستنبط منه الحكمة والعبرة، ولنجعله شاهداً على حياتنا، مُلهماً لنا في كل لحظة وقرار نتخذه، فقد جعل الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم شفاء للقلوب، ونوراً للعقول، وهدى للباحثين، لذا فلنحتضن هذا الكتاب بكل حب وتقدير، ولنجعله دليلاً لنا في كل شأن من شؤون حياتنا.
إنها جماليات القرآن الكريم التي تمتزج فيها الروحانية والعمق الجميل، وتتجلى فيها عظمة الله عز وجل وكرمه، فلنستمع إلى نداءه، ولنستجب لدعوته، فإن في ذلك سعادتنا وراحتنا في الدنيا والآخرة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.