تُعدّ قوانين الوقف من الأسس القانونية التي تنظم وتحدد شروط وآليات تأسيس الوقف وتنفيذه، كما تتنوع هذه القوانين حسب النظام القانوني لكل دولة خاصة في العالم العربي والإسلامي، إلا أنها تتمتع بالموازنة بين الأحكام الشرعية والقوانين الوطنية، بالتالي، يأتي دور قوانين الوقف في تأكيد الأحكام الشرعية وتنظيمها في إطار الأنظمة القانونية الوطنية، مما يضمن حماية الحقوق والتزامات للأطراف المعنية.
في هذا السياق، يُعتبر قانون الوقف الأداة الرئيسية التي تنظم إثبات صيغة الوقف وآليات تأسيسه وتنفيذه، وتُحدّد هذه القوانين الإجراءات والشروط اللازمة لإثبات مسألة الوقف بمختلف صوره، سواءً بالشهادة، المعاينة، أو غيرها من وسائل الإثبات المقبولة قانوناً.
من جانبها، تعتبر القوانين الوقفية مؤسسة قانونية تسعى إلى تحقيق العدالة والحفاظ على مبادئ الشريعة الإسلامية، وذلك بالتنسيق مع القوانين الوطنية، وذلك من خلال تنظيم وتنظيم العلاقات القانونية المتعلقة بالوقف وضمان سلامته وشرعيته، وبفضل هذه القوانين، يمكن للمحاكم والسلطات القانونية تقديم الحماية والدعم اللازمين للوقف وتطبيق العقوبات على المخالفين، مما يسهم في تعزيز الثقة بالنظام القانوني وتحقيق العدالة الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يتم الوقف بصيغة تصدر من الواقف، وتتنوع هذه الصيغة بين الصيغ الشفوية والفعلية والكتابية، حيث يمكن أن تكون مكتوبة بخط الواقف المعتمد أو بخط آخر، وفقاً للقانون الوقفي، يجب أن يُثبت وقوع الوقف بواسطة شهادة، ما لم تكن الصيغة مكتوبة بخط الواقف نفسه ويكون خطه معروفًا، حيث لا يلزم في هذه الحالة الإشهاد على خط الواقف، يمكن إثبات صيغة الوقف أيضاً بواسطة الشهادات، إذ ليست الكتابة الشرط الوحيد لصيغة الوقف، بل تعتبر وسيلة لإثباتها، في حال عدم توثيق الوقف في وثيقة مكتوبة، يُمكن إثباته باستخدام الوسائل المحددة في القانون الوقفي، ومنها شهادات الشهود الذين سمعوا الواقف يصرح بالوقف، هذا ما أكده أحد أحكام إحدى الدوائر المدنية بالمحكمة العليا في أحد جلساتها في الطعن المقدم حول هذه المسألة، حيث أيدت المحكمة القرار السابق القاضي بتأييد الحكم الابتدائي، نظراً لوجود الدلائل على التراضي من خلال شهادات الشهود ومعاينة الدكاكين الموقوفة على الجامع.
بالتالي، إن صيغة الوقف تمثل تعبيراً عن إرادة الشخص في تخصيص جزء من ممتلكاته لله تبارك وتعالى، وتوجيه منفعتها لأغراض دينية أو خيرية، قد تكون هذه الصيغة شفوية، حيث يعلن الشخص بشكل شفهي عن نية تخصيص جزء من ممتلكاته وتصدقه بها، وفقاً للمادة (3) من قانون الوقف، كما يمكن أن تكون صيغة الوقف مكتوبة بخط الواقف نفسه، حيث يصرح الواقف فيها بتخصيص جزء من ماله وتصدقه به لأغراض دينية أو خيرية، مثل بناء المساجد أو دعم الفقراء. وقد يتم كتابة وثيقة الوقف بواسطة شخص آخر غير الواقف، بالإضافة إلى ذلك، قد تكون صيغة الوقف إشارة مفهومة تصدر من الواقف، ويمكن أيضاً أن تكون صيغة الوقف فعلية، حيث يقوم الواقف بفعل ملموس يعبر عن نية جعل جزء من ممتلكاته وقفاً، مثل بناء جسر لمرور الناس عليه أو تركيب باب في مسجد، وفقاً للمادة (7) من قانون الوقف، يمكن تنفيذ الوقف بالقول، أو الكتابة، أو بالفعل، أو بالإشارة المفهومة من الأخرس. ويجدر بالذكر أنه لا يُشترط أن تُدوَّن صيغة الواقف كتابة، إذ لا تعتبر الكتابة شرطاً أساسياً في إبرام الوقف، بل تعتبر وسيلة لإثباته فقط.
على الرغم من أن الكتابة لا تُعتبر ركناً أو شرطاً أساسياً في عملية الوقف، كما تم توضيحه سابقاً، إلا أن للكتابة دوراً بارزاً في إثبات الوقف والحفاظ عليه، خاصة عندما يكون المال الموقوف عقاراً. فالكتابة تُعتبر وسيلة فعّالة لحفظ الوقف، ولهذا السبب، نص قانون الوقف على اعتبار مسودات الوقف مقبولة كدليل إذا كانت مكتوبة بخط كتاب معروف، كما ينص قانون المرافعات على اعتبار مسودات الوقف كأدلة تنفيذية. وتُلاحظ أهمية كتابة صيغة الوقف من خلال القرار الذي تمت مناقشته، حيث جاء الحكم بضرورة تحويل الوقف الشفهي إلى وثيقة مكتوبة.
أما فيما يتعلق بإثبات صيغة الوقف بالشهادة والمعاينة، فإن الحكم يرتبط بحرية القاضي في استخلاص إرادة الواقف باستخدام جميع الوسائل المتاحة والمقررة قانوناً، وفي هذا السياق، أكد الحكم المدعو عليه قدرة المحكمة على إثبات إرادة الواقف في الوقف من خلال شهادات الشهود الذين أكدوا أن الواقف قد أعلن لهم بوقف الأرض للجامع وبناء الدكاكين في جزء منها كوقف للجامع أيضاً، كما أذن الحكم المدعو عليه بإجراء معاينة للدكاكين واستجواب المستأجرين حول الإيجارات ومن ثم تبين للمحكمة أن الواقف قد قام بوقف الأرض المشار إليها والدكاكين للجامع.
وقد اشترط قانون الوقف الإشهاد على صيغة الوقف في معظم الحالات، ما لم تكن الصيغة مكتوبة بخط الواقف نفسه، وفقاً للمادة (8) التي تنص على أنه “إذا تم الوقف قولاً أو كتابة أو إشارة وجب الإشهاد عليه مالم يكن بخط الواقف”، وقد تم التطرق إلى هذا الأمر في تعليق سابق، حيث أشار القانون إلى أهمية الإشهاد على صيغة الوقف بوسائل الدليل المقبولة، سواء كانت الصيغة كتابة أو شفوية، باستثناء الحالة التي تكون فيها الصيغة مكتوبة بخط الواقف نفسه، حيث لا يُشترط الإشهاد في هذه الحالة.
ومن الجوانب البارزة لمسألة الوقف، تأتي النظرة الشرعية الإسلامية التي تعتبر الوقف من الآليات الفعّالة لتحقيق الخير وتعزيز العدالة الاجتماعية. ففي ضوء الشريعة الإسلامية، يعتبر الوقف وسيلة راسخة لتحقيق الفائدة العامة وتوزيع الثروة بشكل عادل، حيث يُعتبر المال الواقف ملكاً لله تبارك تعالى والذي يُخصص للأغراض الخيرية والاجتماعية.
بالتالي، تبرز منظورات الشريعة الإسلامية في قوانين الوقف التي تُشرع وتُنظم هذه الآلية، حيث يأخذ القانون بعين الاعتبار الأحكام والضوابط الشرعية في تأسيس وتنفيذ الوقف. وتهدف هذه القوانين إلى تعزيز مبادئ العدالة والإنصاف، وتوفير الحماية القانونية للموقوفين والمستفيدين من الوقف، مع الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية والمبادئ الأخلاقية.
وهذا يعني أنه بموجب هذا المنهج، يعكس القانون المعاصر موقف الشريعة الإسلامية من الوقف، حيث يُحكم بمبادئها ويُلتزم بأحكامها في تنظيم هذه الآلية، مما يسهم في تعزيز الثقة في النظام القانوني وتحقيق العدالة والاستقرار في المجتمع.
في الختام، يظهر أن مسألة الوقف تمثل جانباً مهماً في الشريعة الإسلامية وتشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمع والحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفي هذا السياق، يلعب القانونيون دوراً بارزاً في تنظيم هذه المسألة وتطبيق القوانين المتعلقة بها.
فعلى القانونيين أن يعملوا على فهم أصول وضوابط الوقف الشرعي وتطبيقها بشكل صحيح ومنصف، مع الحفاظ على حقوق جميع الأطراف المعنية وتوجيهها نحو الالتزام بالشريعة الإسلامية والقوانين المحلية، ويتوجب عليهم أيضاً توعية الجمهور بأهمية الوقف وفوائده الاجتماعية والدينية، وتشجيع المبادرات الخيرية والتطوعية في هذا الصدد.
بهذه الطريقة، يمكن للقانونيين أن يساهموا بشكل فعال في بناء مجتمع مترابط ومسؤول، يعمل على تحقيق العدالة والتنمية المستدامة وتعزيز قيم الخير والعطاء في المجتمع، ومن خلال تطبيق القوانين بناءً على مبادئ الشريعة الإسلامية والعدالة، يمكن تحقيق الأمن والاستقرار وتعزيز التفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع ومؤسساته.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.