تتصاعد كثيرا هذه الأيام، التساؤلات عن الموقف السوري من حرب غزة، والصراع في المنطقة بشكل عام، ومن التساؤلات التي تثار، هل سورية لا زالت في محور المقاومة، أم أنها تنتقل خطوة خطوة إلى المحور الآخر، أم أنها تمسك العصا من وسطها، بانتظار تبلور الأوضاع في المنطقة.
يساعد في غياب الصورة الحقيقية للموقف السوري، جمود غير مسبوق في الدبلوماسية السورية، والتي تقتصر اليوم، على بعض الزيارات التي يقوم بها وزير الخارجية، والتي لا يتم توضيح هدفها وغاياتها بما يكفي للرأي العام السوري والعربي، وبعض البيانات، ورسائل الاحتجاج المكررة، المرسلة من وزارة الخارجية إلى مجلس الأمن.
ورغم الإدراك بصعوبة وحساسية الموقف الرسمي السوري، المحكوم بالتزامات بروتوكولية ودبلوماسية، وبضرورة انتهاج سياسات عقلانية، ومعالجة الملفات والأزمات بعقل وأعصاب باردة، لكن الراي العام الحاضن للدولة السورية، يرى أن حالة التراجع في الدبلوماسية السورية، لا تنفصل عن الحالة العامة لإدارة الدولة، التي تضيع معها عوامل القوة التي تتمتع بها سورية، والتي تعطيها القدرة والقوة، على رسم سياساتها، والتحكم بأوراق وملفات الصراعات في المنطقة، وحتى فرض إرادتها، وهو ما تميزت به السياسة السورية، في المراحل السابقة، للحالة التي تمر بها اليوم، يعززه غياب قنوات مخاطبة الرأي العام.
هذه الحالة، أدت إلى غياب غير مسبوق لسورية، عن وسائل الإعلام، وتحليلات وكتابات الإعلاميين، بما فيهم التابعين لمحور المقاومة، وحتى في بيانات المقاومة الفلسطينية – إلا ما ندر – التي يدرك الجميع، أنه ما كان يمكن لها، أن تمتلك القدرة على الصمود، ومواجهة العدو الصهيوني، لولا الموقف السوري، والدور السوري في تسليحها، رغم الموقف المخزي لحماس، من العدوان على سورية، فيما يعطي هذا الغياب، الفرصة الذهبية، لوسائل الإعلام العربية والدولية المعادية، إما لاستمرار تغييب الموقف السوري، أو لتناوله بشكل سلبي، ينال من سورية، ومن موقفها ودورها.
كان يمكن للإعلام السوري، أن يرمم هذه الفجوة، وهو ما تحدث به الرئيس بشار الأسد، في أكثر من لقاء مع الإعلاميين السوريين، وأشار إلى أن من أهم الأدوار لوسائل الإعلام، أن تقول ما لم تستطيع القيادة السورية قوله، بسبب التزاماتها الرسمية والسياسية، لكن الإعلام السوري، يعاني هو الآخر، من حالة تصل حد الموت السريري، بسبب غياب الأدوات، والشفافية، وروح المبادرة، وأحيانا غياب الرؤيا، عند المسؤولين عنه، ما يجعله عاجز عن القيام بهذا الدور.
بالتأكيد الموقف السياسي والدبلوماسي، لأي دولة في العالم، وتحديدا التي تكون في حالة حرب، أو صراع إرادات، أو صراع عليها، يكون انعكاساً للميدان، وتوازنات القوى فيه، وهذا أكثر ما ينطبق على الوضع في سورية، والهدف الأساسي، هو هويتها، وموقفها، وفي أي مكان واتجاه تتموضع.
هذه الحرب، والموقع الجيوسياسي لسورية، فرض عليها أن تكون، ميدانا لتداخل وتواجد كل القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالمنطقة، وبالصراع الشرس، لتحديد موازين القوى والقوة، في المنظومة الإقليمية والدولية، التي تتشكل على البارد والساخن، للانتقال من عالم القطب الواحد، إلى العالم المتعدد الأقطاب، والذي بدأ انعطافته الكبرى من الميدان السوري، وتعتبر سورية بموقعها الجيوسياسى الهام، نقطة التوزان الاستراتيجي في هذا الصراع، وكانت على مدى التاريخ، قلب المنطقة، التي يتحدد منها مسارات صعود وانهيار الدول العظمى والامبراطوريات، وهذا ما جعل الصراع عليها على أشده، لأن من يضمن سورية في صفه، يستطيع السيطرة على كامل المنطقة، وحتى على الصراعات الدولية، من بحر الصين إلى أوكرانيا.
ولفهم الموقف السوري، وانعكاس الصراع على سورية، بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً، من العدوان الأمريكي الصهيوني، وحلفائها وأدواته، من المجموعات الإرهابية الوهابية الأخوانية، لا بد من توضيح أهم المشاهد الرئيسية للميدان السوري، الذي يبدو اليوم كلوحة سوريالية معقدة.
** احتلال أمريكي، بمساعدة عملائه من قسد، وبعض المجموعات المسلحة، على شمال شرق سورية، والتي تشمل حوالي ثلث الأراضي السورية، مع تواجد أمريكي غير شرعي في قاعدة التنف.
** احتلال تركي لإدلب، وبعض مناطق شمال سورية.
** مجموعات إرهابية مسلحة، من جبهة النصرة (حركة تحرير الشام) وبعض المجموعات الأخرى، التي تعمل بأمرة وإدارة تركيا، في إدلب، وأجزاء من أرياف حلب وحماه واللاذقية.
** تنظيم داعش، الذي يعمل بإشراف وإدارة، ومساعدات لوجستية، من الأمريكيين في البادية السورية.
** احتلال إسرائيلي للجولان.
** تواجد روسي شرعي، بطلب من القيادة السورية، في قاعدتي حميميم الجوية، وطرطوس البحرية، وفي بعض المواقع الأخرى.
** تواجد شرعي بطلب من القيادة السورية، لمستشارين إيرانيين، ساعدوا الدولة السورية، في التصدي للعدوان عليها، وللعصابات الإرهابية، التي شكلت المخلب الشيطاني لتحالف العدوان.
** مجموعات من فصائل المقاومة، التي تشكل رديفا للجيش السوري، في التصدي للمجموعات الإرهابية، وللاحتلال الأمريكي.
كما تتواجد العديد من الدول، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل الصين، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والسعودية، وقطر وغيرها.
هذه الحضور الإقليمي والدولي، المشروع وغير المشروع، في الميدان السوري، أوجد تشابكات وصراعات معقدة، فالتواجد الروسي، يقابله تواجد أمريكي، والتواجد الإيراني، يقابله اعتداءات إسرائيلية متكررة، وأي عدوان أمريكي أو إسرائيلي، يرافقه تصعيد في هجمات المجموعات الإرهابية، على مواقع ووحدات الجيش السوري، وتركيا تناغم تحركاتها وتهديداتها وضغوطها ضد سورية، مع الموقف الإسرائيلي.
هذه الحساسية والأهمية لموقع سورية وموقفها، فرض إيقاعه على تحركاتها السياسة والدبلوماسية، التي تبدو كمن يسير في حقل ألغام، وأي تحرك محسوب بدقة، وله انعكاساته المباشرة على الميدان، لكن سورية، ومن معها من حلفاء وأصدقاء، لم تتوقف عن مواصلة دورها، في قلب محور المقاومة، وتأمين العمق الاستراتيجي، وخطوط الإمداد، للمقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، وإصرار سوري إيراني، ومن الخلف روسي صيني، لاستمرار فتح طريق طهران، بغداد، دمشق، بيروت، مع ما يتطلبه ذلك، من مقاومة الأمريكيين، ومواصلة سورية وروسيا، في مراقبة وضرب تنظيم داعش، وتحركاته في البادية السورية، والمجموعات الإرهابية المسلحة، في ادلب وشمال حلب .
ومع التأكد من أن الصراع الذي نراه في المنطقة، سيأخذ وقتاً طويلاً، ومرشح للتصاعد، وليس للتهدئة، ستبقى سوريا في قلب هذا الصراع، ومحوره، أما هوية وموقف سورية، فهو لا يخضع لرغبات شخصية، أو أهواء سياسية، وإنما هو صراع على بقاء أو انهيار سورية، وما يمكن تأكيده، أن سورية، لا يمكن أن تغادر موقعها مع محور المقاومة، لأن أي مغادرة نحو الاتجاه الآخر، يفقدها روحها وهويتها الوطنية والقومية، هو ما أشار إليه الرئيس الأسد، في حواره السياسي مؤخراً، مع وزير خارجية أبخازيا، عندما أكد أن الصراع على سورية، هو صراع على هويتها الوطنية، وهو ما يفسر استماتة دول العدوان، للتدخل في أعمال اللجنة الدستورية، لمحاولة وضع دستور سوري، يحدد هوية سورية، بما يناسبهم، ويحقق أهدافهم، وهو ما فشلوا به، بسبب موقف الدولة السورية، التي ترفض أي تدخل في هذا الموضوع، وترفض وضع أي دستور سوري، إلا بما يتناسب مع هويتها الوطنية والقومية، ويوافق عليه الشعب السوري.
أحمد رفعت يوسف..
المصدر : صحيفة “لا” اليمنية