من المهم في الدراسات القانونية والفقهية فهم القواعد القضائية والمعايير الفقهية المتعلقة بالارتباط بين الدعاوى، حيث يعكس هذا الفهم العميق التفاعل الحيوي بين القانون المكتوب والفقه الذي يستمده، ويوضح كيف ينعكس الفهم الفقهي في عملية اتخاذ القرار القضائي.
في هذا السياق، يظهر أن القضاء العربي يأخذ بمبدأ الضابط العام أو المعيار الغائي في تحديد الارتباط بين الدعاوى والطلبات، وهذا يعني أن القضاء يسعى إلى جمع أجزاء الخصومة وتوحيدها في إطار واحد لتحقيق العدالة والنزاهة.
بالتالي، توضح القواعد القضائية والأحكام القضائية المشار إليها في المقال السابق كيف يتم تطبيق مبدأ الضابط العام في المحاكم العربية. يتمثل ذلك في تحديد شروط الارتباط بين الدعاوى، وضمها في حال وجود صلة تجعل الفصل في إحداها مؤثرًا على وجه الحكم في الأخرى، وهذا يعني بوضوح أن هذا النهج القانوني والفقهي يساعد في توحيد الخصومة وتجنب التضارب في الأحكام، مما يعزز مبدأ المساواة أمام القانون ويضمن سير العدالة بشكل فعال، مما يبرز دور هذا التفاعل بين القانون والفقه، وأيضاً يوضح الدور الحيوي للفقه في تحديد المعايير القضائية وفهمها، ويؤكد على أهمية دور القضاء في تحقيق العدالة والمساواة في المجتمعات العربية.
بناءً على الأصول القانونية المعمول بها في النظام القضائي، فإن هناك علاقة وثيقة بين الدعاوى المرتبطة في القضاء، حيث تنص اللوائح والقوانين على أنه يتعين على المحكمة المختصة في القضية الأصلية أن تنظر في جميع المسائل والدعاوى المتعلقة بها، حتى لو كانت تلك المسائل والدعاوى خارج نطاق اختصاص المحكمة من حيث النوعية، يأتي ذلك نظراً لأن قرار المحكمة في الفصل بشأن تلك المسائل المرتبطة بشكل منفصل عن الدعوى الأصلية قد يؤثر بشكل كبير على الحكم النهائي الصادر في الدعوى الأصلية، وعدم فصل تلك المسائل المؤثرة قد يؤدي إلى تعقيد الأوضاع القانونية، وتشتيت الفصل في القضايا المتعلقة بالدعوى الأصلية، مما يؤدي إلى تأخير الإجراءات القانونية وتعطيل مبدأ الاقتصاد في التقاضي.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر مصطلح “الارتباط بين الدعاوى” مصطلحاً يحتاج إلى تحديد دقيق وتنظيم، ويعتمد القضاء العربي عموماً على المبدأ العام في تحديد الارتباط بين الدعاوى، الذي ينص على أن الارتباط يكون موجوداً إذا كانت المسائل والدعاوى والطلبات المرتبطة لها تأثير على الحكم في الدعوى الأصلية، ومن الجدير بالذكر أنه في أحد الأحكام الصادرة عن المحكمة العليا في هذا الصدد، قد أوضح هذا المفهوم بشكل ملموس، حيث أشارت الدائرة التجارية إلى أن الدعوى المرفوعة ضد المطعون ضدهما ترتبط بشكل واضح بالقضية الأصلية، وبالتالي فإنها لا تقبل التجزئة، ومن ثم، فإن من غير الممكن النظر في النزاع بشكل منفصل، حيث إن كل ما يتعلق بالطرفين لا يمكن فصله بشكل مستقل، ولذا، فإن المحكمة المختصة بالقضية الأصلية لها الحق في التصدي للفصل في المسائل المرتبطة بالعلاقة القانونية، ولهذا السبب، فإن الحكم الصادر بعدم اختصاص المحكمة الابتدائية في النظر في الدعوى ضد المطعون ضدهما يعتبر غير صحيح، وعليه يجب إبطال الحكم الاستئنافي الذي أيد هذا القرار.
وبالنظر إلى مفهوم الارتباط بين الدعاوى والطلبات في إطار قوانين المرافعات، يمكن تعريفه على أنه الصلة الوثيقة بين دعوتين أو طلبين، حيث يجعل من الضروري ومناسباً لسير العدالة جمعهما أمام محكمة واحدة للنظر فيهما والفصل فيهما معاً، إذ يعتمد هذا التعريف على الفكرة الأساسية التي تقضي بأن الحكم في إحدى الدعاوى أو الطلبات يمكن أن يؤثر على الأخرى، ومن ثم يصبح من الضروري توجيهها وفصلها من خلال إجراءات قضائية موحدة.
بالتالي، تتفاوت الآراء بين الشراح في تحديد طبيعة هذا الارتباط، حيث يُعرف بأنه الصلة التي تجعل من الحكم في إحدى الدعاوى تأثيراً على الحكم في الأخرى، مما يجعل من الضروري جمعهما أمام محكمة واحدة للفصل فيهما معاً بحكم واحد، ويرى بعض الشراح أن الارتباط يكتفي بوجود صلة بين الدعاوى دون الحاجة لتحديد أو وصف تلك الصلة بشكل دقيق، حيث يُمكن كشفها من خلال اشتراك العناصر الموضوعية أو الشخصية أو غيرها، ويُشير هؤلاء إلى أن المعيار الأساسي لوجود الارتباط يكمن في الآثار التي تترتب على تلك الصلة، وليس على الصلة نفسها، وبالتالي، لا يُشترط أن تؤدي تلك الصلة إلى جعل تنفيذ الحكمين مستحيلاً، بل يكفي أن تكون هناك صعوبات تعوق تنفيذهما معًا، حيث إن استحالة التنفيذ ليست ضرورة أساسية لوجود الارتباط بين الدعاوى.
وهذا يعني أنه من الواضح أن تحديد طبيعة الارتباط بين الدعاوى والطلبات يعد أمراً حيوياً لسير العدالة بسلاسة وفعالية، وبناءً على هذا الفهم، يمكن للمحكمة توجيه الدعاوى ذات الصلة إلى نظرها والفصل فيها معاً، مما يُسهم في تجنب صدور أحكام متناقضة وتسهيل عملية التنفيذ وتقليل التأخير في الإجراءات القانونية.
أما في مسألة في فهم العلاقة بين الدعاوى وعناصرها، يظهر أن لها دوراً مهماً في تحديد طبيعة هذه العلاقة، حيث تتألف الدعوى من عناصر رئيسية ثلاثة: الأطراف، والموضوع، والسبب، فإذا تجمعت الدعوى والطلبات في هذه العناصر الثلاث، فهذا يشير إلى وحدة الدعوى بدلالة على تجانس الدعوى وعدم وجود دعوتين متصلتين، ومع ذلك، يفترض وجود دعوتين مختلفتين على الأقل في أحد العناصر ليتم تأكيد وجود الارتباط بينهما، لذلك، يتوجب بيان كل عنصر من عناصر الدعوى لفهم تأثير اتحاد أو اختلاف الدعاوي في هذه العناصر على وجود الارتباط.
العنصر الأول: وحدة الأطراف، يعني أن الأطراف في الدعوى الأولى هم نفسهم في الدعوى الثانية، ورغم أن وحدة الأطراف ليست شرطاً لوجود الارتباط، فإنه يمكن أن يكون هناك ارتباط بالرغم من عدم وحدة الأطراف، كما في الدعوى التي يقيمها الدائن ضد المدين والتضامن، وفي حالات أخرى، يمكن أن ينتفي الارتباط بالرغم من وحدة الأطراف، مثل دعوى الإخلاء التي يقيمها المؤجر ضد المستأجر، ودعوى المطالبة بالتعويض نتيجة لإصابة المستأجر للمؤجر في حادث.
العنصر الثاني: وحدة الموضوع، يعني أن المطلوب في إحدى الدعويين هو الشيء نفسه المطلوب في الدعوى الأخرى، وعلى الرغم من أن وحدة الموضوع تعتبر كافية لقيام الارتباط بين الدعوتين، فإنه ليس شرطاً ضرورياً، حيث يمكن وجود الارتباط بالرغم من عدم اتحاد الموضوع في الدعوتين، مثل دعوى التنفيذ ودعوى فسخ العقد.
العنصر الثالث: وحدة السبب، يعني أن الوقائع القانونية المنتجة التي يتمسك بها المدعي في إحدى الدعوتين هي نفسها المتمسك بها في الدعوى الأخرى، وعلى الرغم من أن وحدة السبب تكون كافية بذاتها لقيام الارتباط بين الدعوتين، فإنه ليس شرطاً ضرورياً، حيث يمكن وجود الارتباط بالرغم من عدم وحدة السبب، كما في دعوى الإخلاء ودعوى المطالبة بالتعويض عن المدة التي انتهت عقد الإيجار.
وبناءً على ما سبق، يمكن التأكيد على أهمية فهم علاقة الدعاوى وعناصرها في تحديد طبيعة الارتباط بينها، وبالتالي توجيه الدعاوى المرتبطة للنظر فيها وفصلها معاً لتحقيق العدالة وفق مبادئ وقواعد القانون.
وفي مسألة الارتباط بين الدعاوى، يظهر اختلاف وجهات النظر بين الفقهاء والقضاة فيما يتعلق بالمعيار المطلوب لتحديد هذا الارتباط، حيث يمكن تقديم هذا الاختلاف في اتجاهين رئيسيين: الاتجاه الموضوعي والاتجاه الغائي.
الاتجاه الموضوعي يركز على تحليل الدعاوى للبحث عن العناصر المشتركة بينها، مثل المحل والسبب، لتحديد وجود الارتباط، ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه يفتقر إلى شمولية بعض أنواع الدعاوى التي تتطلب الارتباط بالرغم من اختلاف السبب والمحل، مثل دعاوى البطلان والفسخ، كما ويمكن استخدام هذا المعيار للكشف عن الارتباط بين الدعاوى عندما يشترك المدعين في عنصر موضوعي معين، سواء كان ذلك في المحل أو السبب.
أما الاتجاه الغائي فيركز على الهدف والفائدة من جمع الدعاوى معاً للنظر فيها وفصلها معًا، وتقدير وجود الارتباط متروك لسلطة التقدير للقاضي، فقد اتجهت العديد من النظم القانونية، مثل اليمن والكويت ومصر وفرنسا، نحو اعتماد هذا المعيار، ورغم اختلاف العبارات المستخدمة، إلا أن الهدف الأساسي هو تحقيق الفائدة المرجوة من جمع الدعاوى معاً.
بالتالي، من الواضح أن الاختلاف في معايير الارتباط بين الدعاوى يعكس التنوع في الفهم والتطبيق القانوني، إلا أن استخدام المعيار الموضوعي يمكن أن يساعد في تحديد الارتباط في حالات معينة، في حين يوفر المعيار الغائي مرونة أكبر للقاضي في تقدير الارتباط بناءً على الظروف الخاصة بكل دعوى.
وفيما يتعلق بالقواعد القضائية المتعلقة بالارتباط بين الدعاوى، يعتبر مناسباً تقديم نظرة على القواعد القضائية العربية في هذا السياق، لإضافة قيمة وفهم أعمق لكيفية تطبيق القواعد في الأنظمة القانونية العربية، وبخاصة استجابتها لمبدأ الضابط العام أو المعيار الغائي في هذا السياق.
أولاً: في قرارها بالطعن رقم 14037 لسنة 91 قضائية، حددت محكمة النقض المصرية أن ارتباط الدعوى الفرعية بالدعوى الأصلية يعتمد على الحكم في الدعوى الأصلية، مشيرة إلى حرص المشرع في قانون المرافعات على جمع أجزاء الخصومة وإن تغايرت عناصرها.
ثانياً: قامت محكمة التمييز الكويتية بتحديد شروط ضم الدعاوى، حيث أكدت على أهمية وجود صلة تجعل الفصل في إحداها مؤثراً على وجه الحكم في الأخرى، مع التأكيد على استقلالية كل دعوى.
ثالثاً: يتضمن قرار آخر لـ محكمة التمييز الكويتية تحديد الآثار المترتبة عن التدخل الاختصامي في الدعوى، وتقدير توافر الارتباط بين طلبات طالب التدخل وبين الطلبات في الدعوى الأصلية.
وهذا يدفع بنا إلى إبداء رأي قانوني وهو أنه يمكن التأكيد على أن القواعد القضائية العربية تعكس استجابة النظم القانونية في المنطقة لمبدأ الضابط العام في تحديد الارتباط بين الدعاوى، هذا المبدأ يسهم في تحقيق العدالة والنزاهة في القضاء من خلال ضمان التعامل العادل والمتساوي لجميع الأطراف في الخصومة.
في الختام، يُظهر الاستعراض القانوني والفقهي للقواعد القضائية المتعلقة بالارتباط بين الدعاوى أهمية كبيرة لفهم كيفية تطبيق القوانين وصياغة القرارات القضائية في البيئة القانونية العربية، حيث يعكس هذا الاستعراض الحاجة إلى وجود مرونة في النظام القانوني تتيح للقضاة اتخاذ القرارات الصائبة والعادلة استنادًا إلى الظروف الفعلية لكل دعوى.
وبالنسبة لدور القانونيين في هذا السياق، فهو يكمن في توجيه الأطراف المعنية بحقوقهم وواجباتهم وفقاً للقوانين والقواعد القضائية المعمول بها، حيث ينبغي عليهم أن يكونوا على دراية بالمعايير الفقهية والقانونية للارتباط بين الدعاوى، وأن يوجهوا عملائهم بشكل صحيح حول كيفية التعامل مع قضاياهم بناءً على هذه المعايير.
ومن خلال تبني مبدأ الضابط العام في تحديد الارتباط بين الدعاوى، يمكن للقضاء العربي أن يضمن تحقيق العدالة والنزاهة في الأحكام، وتوحيد الخصومة بما يعزز من سير العدالة بشكل شامل.
وبهذا الاستنتاج، يتضح أن التفاعل الحيوي بين القانون والفقه يلعب دوراً حاسماً في تطبيق العدالة وتحقيق المساواة في المجتمعات العربية، إنها مسؤولية مشتركة بين القضاة والقانونيين لضمان تطبيق القوانين والمعايير بشكل صحيح وعادل، وبما يحقق مبدأ حكم القانون وسيادة العدالة في المجتمع.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.