رغم أن منصَّات التواصل الاجتماعي يفترض أن تمثِّلَ تحوُّلًا نوعيًّا في البناء الفكري والمعرفي والأخلاقي للمُجتمعات، في ظلِّ ما توفره من فرص التثاقف المعرفي والحوار الإنساني والمنافسة الفكرية والتسويق الأخلاقي والقِيَمي والتبادل الثقافي والتواصل الحضاري، لضمانِ المحافظة على سقف الخصوصية للمُجتمعات، وصناعة المحتوى متعدِّد الاهتمامات متنوِّع الأدوات واسع الخيارات والفرص، قائم على الشيوع المعرفي المتبادل، والاستقلالية الفكرية في مواجهة الغزو الفكري وسياسة القطب الواحد.
غير أنَّ واقع مُجتمعاتنا العربية والإسلامية، وللأسف الشديد ما زالت غير مستوعبة لهذه الصورة الإيجابية التي يُمكِن أن تقدِّمَها المنصَّات الاجتماعية والفرص المتحققة منها بالشكل الصحيح لِتتَّجهَ إلى الاستغلال الجائر لها، وتصبح هذه المنصَّات خطرًا يهدِّد هُوِيَّتها وقِيَمها وأخلاقها وناشئتها ونسيجها الاجتماعي والأُسري، مساحة لنموِّ جراثيم الأخلاق وزعزعة الاستقرار الفكري، وتغييب التعايش المعرفي، ورفع درجة التنمر والهشاشة الفكرية، والمشوّهات التي باتت توسِّع من دائرة الخلاف والاختلاف وترفع من سقف المتناقضات والسلبيات، وتزيد من حدَّة العداء والتحريض وتفرض حالة من الفوضى غير الأخلاقية والنفوق الأخلاقي والعقم القِيَمي، الأمر الذي أعطى الحسابات الوهمية والذباب الإلكتروني والتجييش السلبي ومشاهير الدعاية والإعلانات فرص التمكين والسيطرة، حتى أفقدتنا أنْفُسنا وأضاعت قِيَمنا، وسلبت أخلاقنا، وأنهكت عقولنا وصدمتنا بواقع جديد، تستهلك فيه المنصَّات وقتنا وجهدنا بما لا طائل منه، حتى تعدَّت الممارسة المبتذلة لمستخدمي المنصَّات الاجتماعية الحدود، وخرجت عن طور الضوابط، واتَّجهت إلى مقارعة القِيَم، وتنكَّرت للفضيلةِ، وشوَّهت العفاف والسِّتر والحجاب وصورتها في شكلها الموحش وسلوكها المتقزم وبُعدها عن التعايش والتسامح والديمقراطية، وغيرها من الشعارات الجوفاء التي تنادي بها مدنية الإباحية والسفور والعهر والميوعة والشذوذ الجنسي والسقوط الأخلاقي. فإنَّ قراءة مشهد جراثيم الأخلاق في ظلِّ الفضاءات المفتوحة يضعنا أمام مشاهد صادمة، نذكر منها مشهديْنِ:
المشهد الأول: يتمُّ بين فترة وأخرى تداول مقاطع مرئية ومسموعة عبر منصَّات التواصل الاجتماعي تظهر بعض الممارسات غير الأخلاقية والسلوكيات الشائنة والتي يتمُّ ممارستها من قِبل مواطنين أو وافدين، سواء على شكل إثارة جنسية، أو ظهور جريء وغير لائق على الملأ أو تصرفات مستهجنة تتنافى مع الذوق الرفيع والفطرة السليمة، أو لبس فاضح وشفاف كاشف للخصوصيات أو كلام وحديث صوتي يدعو إلى الرذيلة والفُحش ولا يحترم خصوصية المُجتمع والمشاعر العامَّة، فإنَّ ما يحصل في السناب شات من أنماط غير صحية وممارسات غير أخلاقية مثال بسيط لحجمِ تقزم الصورة والبحث عن الشهرة واستخدام الابتذال الجسدي والإغراء والإغواء والإثارة الجنسية على حساب الفضيلة والقِيَم والأخلاق، دون أن ينزهَ أحدهم نَفْسه عن هذا العيب الشائن والسلوك المستهجن والمستحقر طبعًا وعرفُا، بل قد يتفاخر به وهو يصوِّر نَفْسه أو مع زوجه في وضعيات غير لائقة وحركات مثيرة. كُلُّ ذلك لجذْبِ الانتباه وتحقيق الشهرة وتسليط الأضواء وتوجيه الاهتمام، وسواء ظهرت هذه الممارسة وتحقَّق هذا السلوك الأرعن من أصحاب الحسابات الشخصية في المنصَّات الاجتماعية أو غيرهم ممَّن يتمُّ تصويرهم في السِّر أو العلن في مواقف مخلَّة بالحياء ومتجانبة مع السَّمت والشخصية العُمانية.
المشهد الثاني: إنَّ مَن يُطالع حسابات بعض النساء في المنصَّات الاجتماعية وبشكلٍ خاص منها في السناب شات والتوك توك واليوتيوب والانستجرام، وينظر بعَيْنِ المتأمل لواقع المرأة، يدرك عِظَم الخطر القادم الذي ستواجهه الناشئة، عندما يحصل هذا السلوك ممَّن يحملن مسؤولية بناء الناشئة وتربية الأجيال ومن يتحملن دَوْر صناعة القادة، في ظلِّ ما بات يحمله هذا الظهور غير اللائق للمرأة من خروج عن المألوف، ونفوق في مبادئ السِّتر والعفاف، وغياب كلِّي لماءِ الحياة، وتمييع في الشخصية، وإثارة في الحركات والتصرفات، وإبراز الجسد واللبس في مواقف مخلَّة بالحشمة، أو أن تتقمصَ دَوْر الرجُل في مواقف الرجال، وأماكن النزال لتتجلَّى بهيئتها وخطواتها وسلوكها ومشيَتِها ولبسِها في هذه المواقف، مشاهد مصورة بالصوت والصورة والحركات والإيقاعات والتغنجات والرقصات، فحديثها اليومي يَدُور حَوْلَ لبسِها الخارجي وملابسها الداخلية، وترتيب غرفتها، وتسريحة شعرها، وتطويل أظافرها، واستخدامها للخلطات ومنتجات تفتيح البشرة وإزالة الشَّعر، أو تجريب منتجات إزالة الكلف والبثور أو حَبِّ الشَّباب، تتحدث للعامَّة من غرفة نومها مستلقية على سريرها، غايتها الوصول إلى الترند في أعداد المتابعين والمعجبين والمصفِّقين وغيرهم، يحمل دلالات غير سارة لمستقبلِ الناشئة، كما أنَّ الصورة التي تعكسها حسابات البعض منهنَّ يعكس مستوى السقوط الفكري وغياب المحتوى اللائق والراقي.
وعليه، فإنَّ سرعة انتشار هذه السلوكيات واتِّساع هذه الممارسات والظواهر الفكرية السلبية باتَ يدقُّ ناقوس الخطر، في تشويهٍ متعمَّد للهُوِيَّة والخصوصية والسَّمت العُماني، وتجاوزٍ قذر لكُلِّ قِيَم المُجتمع وأعرافه ومبادئه وأخلاقه، وموجّهات التربية والتنشئة الاجتماعية المتوازنة لنهضةِ المُجتمعات وتنميتها والتي يجِبُ أن تشكِّلَ مساحة أمان لصناعةِ القدوات وإنتاج النماذج وتطوير القدرات والتربية المتوازنة للناشئة العُمانية، وهكذا تضيع المبادئ والأخلاق، وتغيب المروءة والخصوصيات ويذهب ماء الحياة أمام هذا التصنُّع الجسدي، بما يحمله من وسائل الإثارة والإغواء والإغراء والتغنُّج والتبذل، إذ كيف لأبٍ غيور يشاهد ابنته في هكذا منظر على الملأ؟ وكيف لأُمٍّ أن ترضَى في نَفْسها ولابنتها بذلك؟ ثم كيف لماجدةٍ أن تفعلَ ذلك وهي تدرك أنَّ ما تسطِّره هذه المنصَّات وما تختزنه للمستقبلِ من مشاهد وأحداث ستبقى شاهدة في صفحة إنجازاتها، ودليلًا على سوابقها وماضيها المشوّه بعلامات الاستفهام.
أخيرًا، فإنَّ مشهد المنصَّات الاجتماعية اليوم في ظلِّ هذا السقوط الأخلاقي المدوِّي في قعر الرذيلة، وما نتج عنه من إفلاس في المحتوى بات يفرض واقعًا جديدًا على ناشئة المستقبل، عندما يجدون في أُمَّهاتهم وآبائهم وواقعهم هذه الصورة العبثية المنافية للذَّوق والخلق، فيتربَّى النَّشء على هذه التراكمات بعيدًا عن كُلِّ معاني الرُّجولة والشَّهامة والصَّبر والثِّقة، فيطبع في سلوكه عادات مستهجنة تدعو إلى الحُرية المُطْلقة، والاختلاط المُريب، والتصرفات الرَّعناء، والتبذل والتردِّي والسقوط؛ لِتصنعَ هذه التصرفات جيلًا غير مسؤول غير متصالح مع نَفْسه والآخر، بل جلُّ همِّه إشباع غرائزه الجسدية أو غريزة المال حتى يصبحَ عبدًا لشهوتِه مستسلمًا لجسدِه وماله يحركه كيفما شاء دون أن تكُونَ له مقاومة وردَّة فعل، جيلًا مهووسًا بذاته يعيش لِنَفْسه، متقوقع مع ذاته، حتى تتولدَ لديها في قادم الوقت صورة قاتمة مصطنعة متكلفة غير واقعية قائمة على الكذب والخداع والتضليل لِتنعكسَ هذه الصورة على حياته في مخاطر التشويه الفكري والأخلاقي، والتمييع والانكفاء إلى الذَّات، ونزوع نحو الاستهلاكية المفرطة؛ جيلًا غير قادر على بناء ذاته، مستهلكًا لكُلِّ شيء ينتظر من يخدمه، ويوفر له لُقمة العيش بدون جهدٍ أو تعَبٍ أو بذلِ أدنى طاقة منه، ولا يستطيع أن يتعايشَ مع الظروف والمواقف الصعبة، إذ لا تتعدى أولوياته الخلطات ومساحيق التجميل والبوتكس وغيرها من لوازم الظهور المتكلف والمتصنع للشخصية، جيلًا يواجه نقمة الحياة والعيش بسبب ما تتركه الأُسرة فيه من سوء التربية وغياب الرجولة والنزول به إلى دركات الرداءة في الفكر والتفكير واللباس والسلوك. وهنا تتجلى خطورة الأمر على حياة الناشئة. إذ كيف ستكُونُ ردَّة فعل ناشئة المستقبل التي تربَّت على هذا النَّوع من السلوك والخروج عن الضوابط ممَّن تقوم على رعايته؟ أو كيف ستكُونُ ردَّة فعلهم بعد أن قويَ عودهم واتَّسعت صداقاتهم واختلطوا بغيرهم؟ كيف له أن يتصوَّرَ مشهد أُمِّه أو أُخته بهذه الصورة التي وثَّقتها التقنية وحفظها الشَّباب في ملفَّاتهم؟ هنا ينبغي للمرأة الماجدة أن تلتقطَ الأنفاس وتُعيدَ توجيه البوصلة وتقييم الممارسة وتصحيح السلوك، لتتأملَ في الصورة التي يعكسها هذا المشهد ولو بعد حين، ماذا ستقول أمام أبنائها وأحفادها بعد ما ذهب منها ماء الحياء وغاب نور الوجه، وسقطت الرجولة، وترجلت المرأة وعقرت الفضيلة، فأفلست وسقطت في قعر الحضيض والعياذ بالله؟ محطَّات تدعو إلى تكاتف الجهود لإعادة هيبة الأُسرة العُمانية والضبط الاجتماعي، وإعادة تدريس القِيَم وإنتاج القدوات والنماذج، ممارسات تمشي على الأرض، ومعالجات تصنع من الضبطية الأخلاقية نقطة تحوُّل.
د.رجب بن علي العويسي