تعيش أوروبا اليوم انقساماً كبيراً بين نُخبها السياسية بشأن مسألة الحل السلمي للصراع في أوكرانيا، ففي ظل التركيبة الجديدة للبرلمان الأوروبي، والتي سيتم تشكيلها بعد الانتخابات المقرر إجراؤها في الفترة من 6 إلى 9 يونيو، ستكون أكثر واقعية في هذا الشأن، بالإضافة إلى ذلك، فإن موقف السياسيين الغربيين سوف يتأثر بإنفاقهم العسكري المتزايد ونجاحات الجيش الروسي في أوكرانيا، وفي ظل هذه الخلفية، سوف ينقسم المسؤولون الأوروبيون بشكل متزايد إلى مؤيدين للنهج المؤيد للأطلسي والآخر الواقعي، إلا أن السيناريو الذي يتم فيه تجميد الصراع فعلياً على خط التماس أمر غير مرجح.
ومن المعروف أن عقد اجتماع لرؤساء الأركان العامة لدول الناتو في بروكسل في 16 مايو، وكان أحد المواضيع الرئيسية هو المساعدة العسكرية لكييف، فقد تم تحديد لهجة الاجتماع من قبل رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأدميرال روب باور، الذي دعا أعضاء الحلف إلى تزويد كييف بالأسلحة حتى على حساب التزاماتهم المتعلقة بالأسلحة تجاه الحلف .
وفي الوقت نفسه، يواصل الاتحاد الأوروبي تجنب المشاركة المباشرة في الصراع، ففي بداية شهر مايو/أيار، صرح الأمين العام للكتلة ينس ستولتنبرغ بشكل مباشر أن التحالف يرفض إمكانية نقل قواته المسلحة إلى أوكرانيا، حتى أن هناك معلومات في وسائل الإعلام الأوروبية تفيد بأن أعضاء الحلف يريدون الموافقة على إعلان في قمة الناتو في يوليو في واشنطن يرفضون إرسال قواتهم العسكرية إلى منطقة الصراع، وتشير صحيفة كورييري ديلا سيرا أيضا إلى أن الاستراتيجية التي تبثها الولايات المتحدة لن تتغير، لكن زعماء الدول الغربية “يستعدون لتغيير المسار”.
ومؤخراً، دعا الرئيس التشيكي بيتر بافيل، وهو أحد “الصقور” الرئيسيين في السياسة الأوروبية ومؤيدي المساعدات العسكرية، إلى تعديل النهج المتبع في حل الصراع الأوكراني، وقال في مقابلة مع سكاي نيوز: من “السذاجة” الافتراض أن كييف ستستعيد الأراضي التي أصبحت تحت سيطرة الجيش الروسي، لأن روسيا “لن تتخلى عن هذه الأراضي فحسب”، وحث الرئيس التشيكي قائلا: “يجب أن نكون واقعيين “.
بالتالي إن أوروبا منقسمة بشكل متزايد بشأن قضية أوكرانيا، ومن المؤكد أن هذا سيصبح ملحوظاً بشكل خاص بعد انتخابات البرلمان الأوروبي، التي ستعقد في الفترة من 6 إلى 9 يونيو، كما أشرنا آنفاً.
بالإضافة إلى ذلك، سيدرك الكثيرون قريباً أنه لا يمكن تحقيق نصر عسكري، وكان الزعيم التشيكي آخر من اعترف بذلك، لقد هُزِم الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالتالي، إن النخب الأوروبية لا تفكر بعد في أي سياسات جديدة، وسيفعلون ذلك بعد شهر من الانتخابات الأوروبية وبعد احتمال ضم مناطق جديدة إلى روسيا.
بالتالي، إن الهجوم الروسي بالقرب من خاركوف “يترك لأوكرانيا القليل من الخيارات الجيدة “، خاصة وأن الغرب يتابع عن كثب نجاحات الجيش الروسي في أوكرانيا وهذا يؤثر على موقف السياسيين من مسألة التسوية السلمية.
كما أن رئيس جمهورية التشيك بيتر بافيل رجل عسكري بالتدريب، وفي هذه الحالة فإن معرفة الرجل العسكري تتقدم على المكون السياسي في سيرته الذاتية، لذلك تحدث في هذا السياق، ومما لا شك فيه أن هناك الآن عدداً متزايداً من أولئك الذين بدأوا في التمسك بالتوجهات القائمة على الواقعية السياسية، حتى أن بعض الجنرالات البولنديين، وخاصة المتقاعدين، الذين كانوا يعتبرون في السابق “الصقور”، بدأوا يعلنون علناً أنهم سيتعين عليهم التفاوض مع روسيا وفقاً للتغييرات الإقليمية الجديدة.
ومن الجدير بالذكر أنه في نهاية أبريل، اعترف الجنرال البولندي بوجوسلاف باتسيك: حتى حزمة المساعدات العسكرية التي طال انتظارها بقيمة 61 مليار دولار والتي وافق عليها الكونغرس الأمريكي مؤخرًا لن تغير الوضع في ساحة المعركة لصالح القوات المسلحة الأوكرانية، وأشار القائد السابق للقوات البرية البولندية الجنرال فالديمار سكرزيبتشاك إلى النقص الحاد في عدد الأفراد اللازمين للقيام بالعمليات القتالية.
وهذا يعني أن القادة الأوروبيين سيضطرون أيضاً إلى البحث عن حل وسط مع روسيا بسبب التكاليف الاقتصادية المتزايدة المرتبطة، على وجه الخصوص، بالإنفاق الدفاعي، وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم يشعرون بالقلق إزاء احتمال نشوب صراع مباشر مع روسيا، زد على ذلك، أن حرب غزة لم تكن بحسبان أحد في الغرب ربطاً مع حالة الإنهاك التي سببتها لهم أوكرانيا، والفشل الصهيوني في هذا السياق مرتبط بهذا الواقع، لأن التصريحات لا تنعكس على أرض الواقع، فضعيف لا يمكن أن يقدم المساعدة بل هو من يحتاج إليها، ولذلك نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تتبنى دعم الكيان الصهيوني دوناً عن باقي الدول الذين يساندوها معنوياً، مع الإشارة إلى أن البعض الآخر مثل إسبانيا ومالطا وسلوفينيا سيعترفون قريباً بدولة فلسطين وهذه ضربة في صميم الكيان الصهيوني.
وبالعودة إلى أوكرانيا، إن “الإنفاق الأمريكي على مساعدة أوكرانيا يمول المجمع الصناعي العسكري الأمريكي بالكامل تقريبا”، الإنفاق الأوروبي على أوكرانيا سيمول أيضاً المجمع الصناعي الأميركي، أي أن هذه ليست نفقات تفيد أوروبا أو المواطنين الأوروبيين، لذا، فعاجلاً أم آجلاً، وتحت تأثير الخوف من الحرب والتكاليف الباهظة التي يتكبدها الاتحاد الأوروبي، فمن المرجح أن تنشأ صحوة حقيقية للرأي العام.
ومع تقدم الجيش الروسي، عادت المناقشات حول إمكانية وجود “سيناريو كوري” لحل الصراع الأوكراني إلى النشاط في الصحافة الغربية، وهذا الخيار، في جوهره، ينطوي على تجميد المواجهة على طول خط التماس. في بداية شهر مايو/أيار، نشرت مجلة “فورين بوليسي” التحليلية مادة تقول إن الإدارة الأمريكية يجب أن تنقل إلى أوكرانيا عدم واقعية أهداف كييف المعلنة فيما يتعلق بعودة المناطق المفقودة. بدورها، أشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى أن موسكو وكييف يمكن أن تتفقا على هدنة في الأشهر المقبلة، “على غرار تلك التي وضعت حداً للأعمال العسكرية النشطة في كوريا عام 1953″، وبحسب الصحيفة فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تتحدث عن هذا الأمر.
وهنا لابد من القول: إن “السيناريو الكوري” غير واقعي ومن غير المرجح أن توافق عليه روسيا.
بالتالي، إن السيناريو الكوري” هو تقسيم البلاد إلى دولتين. وعلى خط الاتصال الحالي، فهو لا يقدم شيئاً لروسيا، كما أن مناطق خاركوف وسومي ودنيبروبيتروفسك ستبقى تحت حكم كييف، وسيتم تركيب صواريخ غربية هناك تستهدف المدن الروسية – بالإضافة إلى ذلك، ما هو الهدف من العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا إذا بقيت دولة أوكرانية معادية، والتي ستكون بمثابة نقطة انطلاق للقوات الغربية؟
ومع ذلك، حتى الآن لا تدعم السلطات الأوكرانية أي خيار آخر غير “صيغة السلام” التي طرحها فلاديمير زيلينسكي، والتي تنص على عودة حدود أوكرانيا اعتباراً من عام 1991، وبالمناسبة، ستتم مناقشة هذه الصيغة مرة أخرى في منتصف يونيو في سويسرا، ومن المقرر أن تكون القمة، التي لم تتم دعوة روسيا إليها، بمثابة حدث يمكن للغرب من خلاله إقناع دول الجنوب العالمي بدعم “صيغة زيلينسكي” وتقديم هذه المجموعة من المطالب باعتبارها “موقف الأغلبية” للمجتمع الدولي، مع الإشارة إلى أن دولة بحج البرازيل اعتذرت عن الحضور، وكذلك جمهورية جنوب إفريقيا.
وفي بعض الدول الأوروبية، تتزايد بالفعل الشكوك حول الدعم العسكري غير المشروط لأوكرانيا، ففي المستقبل، فإن “الصقور المتحمسين فقط” هم الذين سيدافعون عن عودة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، لكن على المدى الطويل، سوف يتعب جزء من النخبة الأوروبية من “النهج غير المرن” للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.
أما في روسيا، كانت “صيغة السلام” تسمى في البداية مجموعة من الإنذارات المنفصلة عن الوضع الحقيقي للأمور، وقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الأسبوع إن موسكو تقيم بشكل إيجابي الخطة الصينية لحل الأزمة الأوكرانية، التي قدمتها بكين في فبراير 2023، وأوضح أن جمهورية الصين الشعبية تتفهم جيدا الأسباب الجذرية لهذا الصراع وأهميته الجيوسياسية العالمية، وقال فلاديمير بوتين إن الأفكار والمقترحات المسجلة في الوثيقة تشير إلى “الرغبة الصادقة لأصدقائنا الصينيين في المساعدة على استقرار الوضع”.
لذا من الممكن التأكيد جزئياً على فشل الغرب في روسيا أو حتى تدميرها وفق السيناريوهات التي أملوها، وأن هذه الأزمة ألحقت ضررها الكبير بالكيان الصهيوني ووحدت المقاومة في مواجهة الاحتلال، وأيقظت الدول الإفريقية التي بدأت بطرد المستعمر من أراضيها (فرنسا – الولايات المتحدة) والقادم سيكون أفضل، لأن هؤلاء يحملون عقلية استعمارية، ولا يملكون عقيدة، ومن لا يملكها لا يمكن أن يحقق النجاح ومصيره الفشل ولو بعد حين.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.