يأتي طرحنا لهذا الموضوع من خلال فرضيتين: الأولى إلى أيِّ مدى يُمكِن أن يشكِّلَ البُعد الاقتصادي للمواطن تحدِّيًا كبيرًا على منظومة الأمن الوطني؟ من خلال رصد أثر الظروف الاقتصاديَّة والتراكمات الماليَّة وتداعياتها على الأمن الاجتماعي وعلاقتها بإنتاج السلوك الإجرامي، والصورة التي باتت تعكسها الممارسة المُجتمعيَّة على منظومة الأمن الاجتماعي، في ظل مؤشِّرات ارتفاع أعداد الجرائم والجناة، حيث تشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن عدد الجرائم المسجَّلة في عام 2022 بلغت (16900) بارتفاع بلغ (32%) عن عدد الجرائم المسجَّلة في عام 2021 والتي بلغت (12812)، ومن حيث تصنيف الجرائم فإنَّ الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابًا في عام 2022 بـ(5821) بنسبة (34%) بزيادة بلغت (1700) جريمة على عددها في عام 2021 حيث بلغ عددها (4121) جريمة، لتشكِّلَ الجرائم الواقعة على الأموال أعلى الجرائم ارتكابًا والأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان في السنوات الأخيرة؛ وأنَّ (98%) من هذه الجرائم الواقعة على الأموال تتركز في السرقة والشروع فيها، والاحتيال، وإساءة الأمانة، والإضرار بالأموال الخاصة. وجرائم ماليَّة أخرى مِثل: غسيل الأموال، والإضرار بالأموال العامَّة، والقرصنة الإلكترونيَّة واستعمال بطاقة الغير دون عِلمه، والتعدي على البطاقات الماليَّة، أو غيرها ممَّا يتحدث عنه الواقع كالغش والنَّصب والابتزاز الإلكتروني والمحافظ الوهميَّة والنَّصب على المواطن في الحسابات البنكيَّة، ومشكلات تتعلق بعدم دفع الإيجارات السكنيَّة والتجاريَّة، واستغلال المناصب الوظيفيَّة، واختلاس المال العام، والابتذال الخلقي من خلال الحصول على المكاسب السريعة عَبْرَ الدعاية والإعلانات التجاريَّة، والشهرة وحُب الظهور في المنصَّات الاجتماعيَّة على حساب الدِّين والشَّرف والعِرض والقِيَم، والحالات المتعلقة بالتسوُّل وغيرها من الظواهر الاقتصاديَّة السلبيَّة التي باتت تمارس بآليَّات وطُرق وأوصاف احترافيَّة ومن فئات مختلفة في المُجتمع. كما ارتفع عدد الجناة في عام 2022 بنسبة (31%) والذين بلغ عددهم (23.996) ألفًا، مقارنةً بعددهم في عام 2021 (18.857) ألف جاني من الجنسين، وفي السياق نَفْسه فإنَّ عدد الجناة العُمانيين بلغ في الجرائم الواقعة على الأموال (3.971) مقارنةً بعددهم من الوافدين الذي بلغ (3.189) بنسبة تزيد على (52%) من الجناة، وأنَّ (35%) من إجمالي الجناة البالغين هم شباب في الفئة العمرية (18-29) ما يؤكد الفرضية التي أشرنا إليه بوجود ارتباط بين أعداد الباحثين عن عمل والجرائم، حيث بلغ عدد الجناة البالغين في الفئة العمرية (18-59) ( 22.697) وهم من فئة الشباب الباحثين عن عمل والمُسرَّحين ولا يحصلون على منفعة كبار السِّن من صندوق الحماية الاجتماعيَّة.
وبالتالي ما يعنيه ذلك أنَّ الوضع الاقتصادي وحالة التراكميَّة التي يعيشها وغياب السيولة الماليَّة التي تصنع للمواطن حُريَّة الحركة ومساحة أمان أوسع، وضيق العيش والتفكير في الديون وعدم القدرة على سداد متطلبات الاحتياج اليومي في ظل غلاء المعيشة ورفع الدَّعم عن الكهرباء والماء وارتفاع أسعار الخدمات التي تقوم بها الأيدي الوافدة، والرسوم الحكوميَّة الإسكانيَّة والبلديَّة والشُّرطيَّة والمخالفات المروريَّة وارتفاع أسعار الاتصالات، ناهيك عن السلوك الاستفزازي الذي تمارسه البنوك في ظل عدم وضوح مسار الفائدة أو ضبطه وغيرها؛ أدَّى إلى حالة من الضغط على الموارد الشخصيَّة للمواطن في ظل تراجع نشاط الحركة الاقتصاديَّة والتركيز على الأولويَّات المعيشيَّة، وما أسهم فيه ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل الذين يزيد عددهم عن (110) آلاف باحث، وأعداد المسرَّحين من أعمالهم حيث بلغ في عام 2023 أكثر من (4000) آلاف عامل عُماني، تمَّ قطع أرزاقهم، مع أنَّ الكثير منهم مَن يعُول أُسرة وأطفالًا ولديه التزامات عائليَّة وتعليميَّة واجتماعيَّة، ويتحمل قروضًا بنكيَّة، ليتَّجهَ به الأمر إلى أن أصبح باحثًا عن عمل. ولعلَّ ما أشار إليه إعلان وزارة العمل رقم (3/2024) من أنَّ عدد المتقدِّمين لشغلِ إجمالي عدد الوظائف (689) وظيفة، فما يقارب من (600) وظيفة بلغ في مدَّة (7) ساعات من نشر إعلان الوظائف الحكوميَّة أكثر من (30331) ألف باحث عن عمل، ما يؤكد أنَّ موضوع الباحثين عن عمل شكَّل اليوم رقمًا صعبًا وتحدِّيًا في المنظومة الاقتصاديَّة وأحَد الأسباب المؤدِّية إلى ارتكاب الجرائم الماليَّة والظواهر السلبيَّة ذات العلاقة. لقد أشار مسح نفقات واستهلاك ودخل الأُسرة العُمانيَّة الذي نفَّذه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات عام 2019 فيما يتعلق بالسلع والخدمات الأكثر نصيبًا من الإنفاق الأُسري أوضحت نتائج المسح إلى أنَّ حصَّة الطعام والمواد الغذائيَّة من إجمالي الإنفاق للأُسر العُمانيَّة بلغ (211) ريالًا عُمانيًّا بنسبة (28%)، في حين استحوذت وسائل النقل والاتصالات على أكثر من خمس ميزانيَّة الأُسرة العُمانيَّة بما يصل إلى (160) ريالًا وبنسبة (21%)، أمَّا من حيث الاستهلاك الشهري للأُسر العُمانيَّة فقد بيَّنت نتائج المسح أنَّ قيمة سلَّة غذاء المستهلك العُماني في المسح بلغت (216.9) ريال عُماني للأُسرة العُمانيَّة؛ وأنَّ نسبة استهلاك الأُسر العُمانيَّة من الطعام والشراب بلغت (25.3%) من إجمالي الاستهلاك العام، وهي تختلف في المجمَّعات الحضريَّة عنها في المجمَّعات القرويَّة حيث بلغت (23.4%) للتجمُّعات الحضريَّة، في حين بلغت (28.8%) للتجمُّعات القروية؛ فإنَّ إسقاط نتائج المسح على الوضع الاقتصادي للمواطن، سواء ما يتعلق منها بنصيب الإنفاق والاستهلاك والذي يتَّجه معًا إلى سلَّة الغذاء التي لا غنى عنه للعيش والحياة، أو الإنفاق على النقل وخدمات الاتصالات التي باتت اليوم تشكِّل ضرورة واحتياجًا مُجتمعيًّا في ظل توجُّهات سلطنة عُمان نحو الفضاء الرَّقمي أو عَبْرَ استخدام منظومة النقل كجزء من الخصوصيَّة الاجتماعيَّة التي يحتاجها المواطن في ظل غياب البديل الكفء المساعد له وارتفاع أسعار الوقود. أمَّا الفرضيَّة الأخرى فتتَّجه إلى التساؤل، ما المخاطر السلبيَّة لانتشار الجرائم والظواهر السلبيَّة على الاقتصاد الوطني، والوضع المالي للفرد؟ لا شكَّ بأنَّ نتائج انتشار هذه الظواهر يشكِّل أمرًا مقلقًا على الأمن الاجتماعي والاقتصادي الوطني؛ نظرًا لِمَا تتطلبه مسألة مكافحة انتشار هذه الظواهر والجرائم من موارد وإمكانات كبيرة وتوجيه المال العام لمعالجتها أو تكثيف حملات التوعية والإعلام، وتوجيه الموارد البشريَّة الأمنيَّة والشُّرطيَّة في سبيل مراقبتها والحدِّ منها ووقاية المُجتمع من انتشارها، في ظل ما تتطلبه من ممكنات وموارد وإمكانات وجهود، بينما يُمكِن استثمار هذه الموارد وتوجيهها في أولويَّات تحسين الحياة المعيشيَّة للمواطن وبناء الموارد البشريَّة ودعم الأُسرة للقناعة بأنَّه عندما يكُونُ الأمن الاجتماعي مستقرًّا ويعيش حالة من السَّلام والتصالح وغياب المنغِّصات، فإنَّ حجم الهدر المالي والموارد والموازنات المرصودة سوف تكُونُ أقلَّ بكثير، وعكس ذلك لمَّا يغرق المُجتمع في مستنقع الإجرام وفراغ الضوابط واتساع الظواهر السلبيَّة وزيادة المنغِّصات الفكريَّة والأمراض النفسيَّة والجسديَّة، فإنَّ معالجتها تتطلب الكثير من الجهد والموازنات والموارد. أخيرًا، فإنَّ الظواهر السلبيَّة التي بدأت تنتشر في المُجتمع هي نتاج لوضع اقتصادي في أكثر الأحوال، وإنَّ ارتفاع الجرائم الاقتصاديَّة في المُجتمع بات يُمثِّل هدرًا في الموارد والممتلكات العامَّة والخاصَّة على حدٍّ سواء، لحاجتها لموازنات وموارد لمكافحتها والحدِّ منها، أو لأنَّها باتت تستنزف المال العامَّ ذاته. فإحصاءات جهاز الرقابة الماليَّة والإدارية للدَّولة والادعاء العام من أنَّ الأموال المحصَّلة للحقِّ العامِّ خلال العام 2023 بلغت (3) ملايين و(432) ألفًا و(637) ريالًا عُمانيًّا، فيما بلغت في عام 2022م (17) مليونًا و(800) ألف ريال عُماني، يؤكد الحاجة إلى تبنِّي سياسات ناضجة وتشريعات أكثر رقابيَّة وضبطيَّة تتبنى نهج الشفافيَّة والمساءلة ومكافحة الفساد وحماية المال العامِّ من جهة، والاستباقيَّة والحسِّ الأمني والإعلام الوقائي في مواجهة تداعيات هذه الظواهر المُجتمعيَّة ومنع انتشارها وتمكين المُجتمع من الوعي بمخاطرها، انطلاقًا من مبدأ «الوقاية خير من العلاج».
د.رجب بن علي العويسي