من أكبر المهازل، أن تساوي المحكمة الجنائية الدولية بين الجلاد والضحية، كما حدث يوم الإثنين، العشرين من مايو 2024م، عندما أعلن كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه قدّم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال لبنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، ويوأف غالانت وزير دفاعه، بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية، “وأنّ الأدلة خلصت إلى أنّ المسؤولَيْن الإسرائيليَّين متواطئان في التسبب في المعاناة وتجويع المدنيين في غزة”. إلى هنا الأمر طبيعي جدًا – رغم أنّ تنفيذه صعبٌ للغاية – ولكن غير الطبيعي ما زعمه كريم خان عقب ذلك بأنّ “هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد أنّ كلًا من زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار، ومحمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري للحركة، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة، مسؤولون عن ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية في إسرائيل”! والواضح أنّ المحكمة ورئيسها، لم يجرؤوا على إصدار قرار الاعتقال للقائدَيْن الإسرائيليَّيْن إلا إذا ضمّوا معهما قادة المقاومة الفلسطينية، الذين يدافعون عن وطنهم وعِرضهم وشرفهم منذ سنين طويلة، تجرّع خلالها الشعبُ الفلسطيني من الويلات ما لم يتجرّعه شعبٌ آخر، والأغرب أن تشمل قائمة كريم خان شخصًا مثل إسماعيل هنية، المسؤول عن الشؤون السياسية والاتصالات الخارجية، والذي ينسّق المفاوضات مع الوسطاء لوقف إطلاق النار في غزة مقابل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
تقول صفحة الأمم المتحدة، إنّ المحكمة هي أول محكمة جنائية دولية دائمة في العالم، أنشئت بموجب معاهدة للتحقيق في الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة الاعتداء ومقاضاة المسؤولين عنها، “أنشئت مع الوضع في الاعتبار ملايين الأطفال والنساء والرجال الذين وقعوا ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزّت ضمير الإنسانية بقوة”، ولا أدري هل هذه الديباجة لا تشمل شهداء غزة، الذين زاد عددهم – حتى لحظة كتابة هذه السطور – عن خمسة وثلاثين ألفا، منهم أكثر من خمسة عشر ألف طفل، وأكثر من عشرة آلاف من النساء، وأكثر من ألف مسن، عدا شهداء الصحافة والأطقم الطبية؟!
ورغم أنّ المحكمة لا تملك آلية للاعتقال، ممّا يعني أنّ قادة الكيان في مأمن، إلا أنّ الأمر قد أثار غضبهم، إذ ندّدت “إسرائيل”، بطلب مدعي عام المحكمة إصدار مذكرة التوقيف، واصفة هذا الطلب بأنه “وصمة عار تاريخية”، ووصفه نتانياهو بالـ”فضيحة”، وأعلن تحديه لهذا القرار، وتصميمه على موصلة حرب غزة بالقول: “لن يوقفونا”. ولم يكتفِ الكيان بالتعبير عن الغضب فقط، وإنما لجأ إلى العمل على تعطيل صدور قرار رسمي من المحكمة كما اتضح ذلك من تصريح يسرائيل كاتس وزير الخارجية الذي أعلن أنّ “تل أبيب فتحت غرفة حرب خاصة لمواجهة تحرك المحكمة الجنائية الدولية، وأنه يعتزم “التحدث مع وزراء خارجية الدول الكبرى حتى يعارضوا قرار المدعي العام ويعلنوا أنه حتى لو صدرت تلك الأوامر فإنهم لا يعتزمون تطبيقها على قادة دولة إسرائيل”، فيما ذهبت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أنّ نتنياهو افتتح جلسة كتلة الليكود بجمع تواقيع أعضاء الحزب على عريضة ضد قرار المدعي العام للجنائية الدولية، وبذلك تريد إسرائيل أن تحوّل القاضي إلى جانٍ.
إنّ قوة الكيان الإسرائيلي تنبع من أمرين اثنين؛ الأول هو ضعف الدول العربية، أما الثاني فهو اعتماده الكلي على الخارج، ومن هنا لا غرابة في أن ينبري الرئيس الأمريكي جو بايدن للدفاع عن إسرائيل بقوة، ويصرح بملء فيه يوم الثلاثاء 21 مايو 2024م: “أنّ القوات الإسرائيلية لا ترتكب إبادة جماعية في حملتها العسكرية على قطاع غزة.. نحن نرفض ذلك”!. وفي تصريحاته بالبيت الأبيض، زعم بايدن أنّ إسرائيل كانت الضحية منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023م، وجدّد الدعم الأميركي لسلامة وأمن الإسرائيليين قائلا عنه إنه “ثابت”، وإنّ بلاده تقف مع إسرائيل “للقضاء على يحيى السنوار، ونحن نعمل مع إسرائيل لتحقيق ذلك”.
إزاء الرفض الأمريكي والإسرائيلي لطلب كريم خان اعتبار نتنياهو وغالانت مُجرمَيْ حرب، نعلم تمامًا – في المقابل – أنّ “طوفان الأقصى” غيّر المفاهيم العالمية، وأوضح الصورة جلية للعالم؛ فما نعيشه ونشاهده الآن من متغيّرات في العالم فإنّ الفضل يعود فيه لذلك “الطوفان”، بمعنى أنّ الانتصار ليس محصورًا في ساحات المعركة في غزة فقط؛ بل تعدى ذلك إلى العواصم العالمية والمؤسسات التعليمية والمحاكم الدولية، حتى رأى العالم وآمن بعدالة القضية الفلسطينية، فاعترفت النرويج وأيرلندا وإسبانيا رسميًّا بالدولة الفلسطينية، وهناك دولٌ أخرى تسلك طريق الاعتراف، وها نحن الآن أمام خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بأن تطالب محكمةٌ باعتقال اثنين من قادة إسرائيل.
ورغم أنّ أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي قد رفض أيضَا طلب المدعي العام، ورأى أنه قد يُعرّض للخطر المفاوضات الرامية للتوصل إلى اتفاق بشأن المحتجزين ووقف إطلاق النار، إلا أنه وُفِّق عندما اعتبر مساواة المدعي العام للمحكمة الجنائية بين إسرائيل وحماس “أمرًا مُخزيًا”، حتى وإن كان انحيازه لمجرمي الحرب؛ فالحقيقة أنّ ضم ثلاثة من المقاوِمين من أجل شعبهم إلى القائمة مع مجرمي الحرب الإسرائيليين هو أمرٌ مخزٍ ويساوي فعلًا بين الجلاد والضحية. ولكن هل اكتفى بلينكن بتصريحه ذاك؟ لا. لم يكتف؛ بل أعلن اتخاذه “خطوات مع المشرِّعين الأمريكيين، لبحث إمكانية فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية”، واصفًا قرارها أمام جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي بأنه “خاطئ للغاية”، ممَّا يجعلنا نتساءل: هل ستعاقب أمريكا المحكمة الجنائية؟ وهل ستغلق المحكمة؟ وهل هناك مصير صعب ينتظر كريم خان؟ لقد تزامنت تصريحات بلينكن مع حملة يقودها الجمهوريون لفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، والتي قد تدخل مرحلة التصويت عليها قريبًا. وبهذه الخطوات تثبت أمريكا أنّ إسرائيل دولة فوق القانون، وأنّ المحكمة لم تنشأ إلا لأمثال عُمر البشير وصدام حسين والقذافي وبوتين وكلِّ من لفَّ غير اللفة الأمريكية أو الغربية. ولكي نعلم أنّ الولايات المتحدة التي تهاجم المحكمة الجنائية الآن، تكيل دائمًا بمكيالين، نذكّر أنه سبق لها أن مَجّدت المحكمةَ ومُدّعيها العام عندما أصدر اتّهامًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطالب باعتقاله فورًا، لكنها الآن تُغيّر موقفها، وتَعتبر نتنياهو وغالانت بريئين، وتُبَرِّرُ جرائمهما في غزة.
وإذا كانت أمريكا قد هبّت بقضِّها وقضيضها للدفاع عن نتنياهو وغالانت – رغم استبعاد اعتقالهما، كما أشرتُ سابقًا – فما هو موقف العرب وسلطة رام الله، من ضمّ القائمة لثلاثة من أعضاء حماس الذين يدافعون عن الشرف والعِرض والوطن؟! لم أجد تنديدًا واحدًا بقرار المدعي العام إلا من حركة حماس فقط، وهو أمرٌ طبيعي أن تندّد بذلك القرار لأنه يخصّها، ولا يُستبعد أن تساهم الدول العربية في تسليم هؤلاء للمحاكمة الدولية، إذا سنحت الفرصة لذلك.
وختامًا؛ فإن خطوة المحكمة ضد القيادات الإسرائيلية، رغم رمزيتها، ورغم أنها ساوت الجلاد بالضحية، إلا أنه لا يمكننا إنكار أنها تبقى خطوة جيدة، وفي المسار السليم، والدليل هو الغضب الشديد الذي انتاب أمريكا والغرب وإسرائيل من هذا القرار. ولا يسعنا أن نقول إن السهم قد خرج أخيرًا من القوس، ولا يمكن ردّه أبدا، وسيصل إلى هدفه ذات يوم.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عُمان : عدد الاثنين 27 مايو 2024م: