تُمثِّل الإشاعات تهديدًا خطيرًا على الأمن الوطني في ظلِّ ما يرتبط بها من هشاشة فكرية وضآلة معرفية، وإفلاس في المحتوى، وتشويهٍ للثَّوابت، قد تؤثِّر على النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية، والصورة الذهنية التي يحملها المواطن حَوْلَ الوطن وجهود المؤسَّسات ومستوى الثقة التي يصنعها في قراءة الواقع الوطني والمستجدَّات والأحداث وبرامج التطوير وخطط التنمية، ونظرًا لِمَا تتركه من فراغ تصبح فيه منظومات الدَّولة وأركانها وقواعدها التنظيمية والتشريعية عرضة لحديثِ الألسن وكلام العامَّة، وإقحام المنصَّات الاجتماعية أو أصحاب الحسابات الوهمية والذباب الإلكتروني في هذا الأمر. فهي حالة فكرية مشوّهة في تداول الأخبار، تقوم على الافتراء والزيف والكذب والدجل يتداولها عامَّة الناس وخاصتهم إمَّا لجهلهم بحقيقتها وغاياتها ومصداقيتها أو لِمَا باتت تروِّج له من أساليب وأفكار وأحداث غير واقعية تثير الدهشة والاستغراب وتفتح المجال للاستفزازِ والشكوك والتكهنات وتعطي المجال للقيلِ والقال أو التشفِّي لدى البعض، وتثير حالة من الجدل والتناقضات والتباينات في ذاتها، مع عدم الاستقرار الفكري والنَّفْسي لدى الفرد المتلقِّي لها، لذلك باتَ خطرها واضحًا للعيان، وتداعياتها السلبية في إلحاق الضَّرر بالأفراد والمُجتمعات أكثر ممَّا يُمكِن تخيُّله.
لذلك فهي من أخطر مهدِّدات الأمن الاجتماعي والأُسري والوطني، بما تفتعله من أحداث تستهدف إثارة الفتنة وتوسيع دائرة الخلاف، وتأجيج الصراع الفكري والمذهبي، وتعطيل فرص التسامح والاحتواء، وتعظيم سلوك الأثرة ورفع درجة الشعور السلبي لدى الفرد بالانتقام، ناهيك عن زعزعة الثقة ورفع درجة الحساسية بين أفراد المُجتمع، وسرعة إصدار الأحكام وغير ذلك كثير، كما اتسعت تأثيراتها لتشملَ الجوانب الاقتصادية فقد تهبط بسببها أسواق الأسهم، وقد ينسحب مستثمرون، وقد تُلغى صفقات تجارية، وتفشل مشاريع استثمارية وبرامج عمل واتفاقيات، إن لم تتدارك منظومات الدَّولة لها وتسرع في إيجاد معالجات واضحة للإشاعات وغيرها من الممارسات الفكرية التي باتت تتقاطع مع التوجُّهات الوطنية، بما يحافظ على مسار التوازنات في السلوك الفردي والاجتماعي؛ لِمَا له من أهمِّية في استدامة التنمية وتكافؤ الفرض وتفاعل الأُطر، وضمان قدرة المواطن على الوفاء بالتزاماته الوطنية والاجتماعية وتحقيق رؤية «عُمان 2040».
لقد وجدت الإشاعات طريق قوَّتها وفرص تداولها عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعية والواتس أب؛ لِمَا لها من خاصية سرعة نشر الأخبار وإشاعتها لدى أكبر عدد من المتلقِّين، في ظلِّ ما رافقَ ذلك من غياب الضوابط وضعف مساحة الرقابة الذاتية والوازع الخُلقي والديني، وسوء النيَّات، وبدأت الإشاعات مائدة مستساغة، يتلذَّذ بها البعض في ظلِّ ما تحمله من عبارات التهكم والسخرية، والاستهجان والاستخفاف، أو تتداول على سبيل النّكَت والضَّحك، وحُب الفضول، وتشويه معالم الحقيقة وإبراز الوجْهِ المُظلم الذي يصنع مجالًا للنقاشات العقيمة والتعقيبات المتناقضة التي تظهر فيها رائحة الكراهية والتشدُّد ومصادرة الفكر؛ بل إنَّ بعض الحسابات الوهمية وحسابات المشاهير والمروِّجين اتَّجهت لتوظيفِ هذه الإشاعات في سبيل زيادة أعداد المتابعين لها وتحقيق الشهرة والحصول على الترند، طريقها للتسلقِ على أكتاف الآخرين في ظلِّ ما باتت تُشكِّله هذه الفضاءات المفتوحة من بيئات جاذبة للشباب يعبِّرون فيه عن هواجسهم، مستغلِّين التراكمات الاقتصادية والاجتماعية والظروف التي يعيشها الشباب الباحث عن عمل أو المسرَّح عن عمله في ترويج مِثل هذه الأفكار أو الدخول من خلالها إلى إثارة قضايا أخرى، حيث يتلقاها الشباب عَبْرَ المروِّجين والمشاهير والحسابات الوهميَّة والتجييش الإلكتروني بدون تمحيص، ويتداولها بدونِ معرفة، فهي معلَّبات فارغة تحمل من السموم والقذارة ما يصنع لحضورِها أهمِّية، فيتداولها بدونِ تأمل في محتواها أو وقوف على مصدرها، ولأنَّه في المقابل لا يوجد مَن ينفي هذه الأخبار أو يُجلي الصدأ عن الصورة المُبهمة حَوْلَها، أو يصحِّح هذه الأفكار والأخبار المغلوطة بصورة فورية، أو تحليل أو انتظار لمصدرٍ يؤكد مصداقية هذا الخبر أو نفيه؛ حتى أدخلت المواطن في دائرة الشَّك، وغيَّرت لديه الكثير من القناعات والثوابت، كما أوجدت لديه حالة من التشويش الفكري مصحوبة بالتحريض تارة، وعدم الثقة في الجهد الحكومي والمؤسَّسي تارة أخرى.
وعليه، فإنَّ حماية منظومة الأمن الوطني الشامل من تداعيات الإشاعات يتأكد اليوم في جملة الموَجِّهات الآتية:
تكاتف جهود قِطاعات الدَّولة العسكرية والأمنية والمدنية وسُلطاتها القضائية والتشريعية والتنفيذية في تبنِّي سياسات وطنية ناضجة، سريعة التأثير، وذات كفاءة عالية في مواجهة الإشاعات بكُلِّ أنواعها ودوافعها وبواعثها وغاياتها، واتخاذ الإجراءات السريعة في التعامل معها والردِّ عليها وكشفها وتفنيدها وإيصال الصورة الصحيحة للمُجتمع والناشئة حَوْلَ مخاطر هذه الإشاعات، واستنطاق الثوابت والقِيَم والأخلاق العُمانية المنطلِقة من مبادئ الدِّين الإسلامي الحنيف والصورة التي عبَّرت عنها آيات القرآن الكريم وسنَّة النبي العظيم (عليه الصلاة والسلام) حَوْلَ الإشاعات والأخبار الكاذبة، والإطار التشريعي والقانوني الذي جادت به منظومة التشريعات الوطنية في هذا الشأن، وإعطاء المواطن جرعات تثقيفية وتوعوية، سواء عَبْرَ المؤسَّسات التعليمية أو عَبْرَ البرامج التدريبية على رأس العمل أو بشكل عام من خلال الرسائل النصية التي تحذِّر المواطن من الاستجابة للإشاعات، مستفيدةً من نموذج الرسال التحذيرية للبنوك التي تصل إلى المواطن بشأن التعامل مع الاحتيال الإلكتروني والابتزاز والامتناع عن الإدلاء بأية تفاصيل حَوْلَ المعلومات الشخصية وبيانات الحساب البنكي والرمز السري ورقم أمان البطاقة البنكية.
تنشيط منظومة الإعلام الوقائي الوطني في مواجهة الإشاعات ورفع درجة الحسِّ الأمني وخلق وعي عام لدى أفراد المُجتمع حَوْلَ المنصَّات الاجتماعية والقضايا التي باتت تروِّجها، وتؤثِّر سلبًا على حياة المواطن الصحية والبيئية والقانونية والأمنية، مع رفع درجة الاهتمام بالوعي الفكري للمواطن وقدرته على تجاوز الإشاعات والظواهر الفكرية السلبية، واستحضار الثوابت الوطنية والمبادئ وإعادة إنتاجها، من خلال توسيع المنصَّات التواصلية والحوارية والنقاشات الإعلامية واللقاءات المُجتمعية حَوْلَها، وتحليل المعطيات والمسبِّبات التي أسْهَمت فيها بالشكل الذي يضْمَن استيعاب المواطن لمخاطرِها وقدرته على الدفع بالجهود الوطنية قُدمًا، في توظيف أفضل الممارسات والنماذج الإيجابية الوطنية الحاصلة في التعامل مع الإشاعات والحدِّ منها، بالإضافة إلى إيجاد مراجعات وطنية متكاملة تأخذ في الاعتبار كُلَّ خطوط التأثير ذات العلاقة في مواجهة الإشاعات من خلال منصَّات التعليم والإعلام والتدريب، وعَبْرَ جرعات تدريبية وتثقيفية وتوعوية توَجَّه للمواطن وتأصيل عملي للمبادئ والتشريعات كمحاكاة للواقع في سبيل رفع درجة الرقابة الوقائية وتحصينه وترقية ممارساته.
تعظيم الطموحات الوطنية في شأن إنشاء مركز الدِّفاع الإلكتروني وإصدار نظامه بالمرسوم السُّلطاني رقم (64/2020)، في تأطير مسارات المواجهة وعَبْرَ تحوُّلات قادمة يصنعها المركز، وأدوار أكثر تخصصية وفاعلية في تعاطيه مع الإشاعات في إطار رؤية أكثر شمولية واتساعًا وعُمقًا ومهنية وارتباطًا بالواقع، وقدرة على اتِّخاذ قرارات استراتيجية في مواجهة الإشاعات التي باتت تهدِّد السِّلم الأمني والاجتماعي الوطني، على أنَّ الخصوصية التي يتمتع بها مركز الدِّفاع الإلكتروني والمهام الاستراتيجية النَّوعية التي يمارسها والأهداف والموَجِّهات التي يتعامل معها كُلُّ ذلك وغيره يؤكد اليوم أهمِّية البُعد الاستشرافي الذي يضعه في أولويَّاته، بما يُسهم في رفع درجة الجاهزية الوطنية في التعامل مع الإشاعات في ظلِّ وضوح البنية المؤسَّسية والتشريعية والأساسية، وعَبْرَ بناء استراتيجية وطنية موَحَّدة في مواجهة الإشاعات، وإيجاد خط ساخن أو مركز اتصالات يُمكِن الرجوع إليه كحلقة وصل مع المُجتمع لرصدِ وتفنيدِ الإشاعات التي يتمُّ تداولها في مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتوفير إجابات مقنعة واضحة حَوْلَها، وتعزيز مبادرات الشباب عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعي السَّاعية نحو مواجهة الإشاعات، ناهيك عن توفير قواعد بيانات وطنية بأنواع الإشاعات الحاصلة في المُجتمع وتصنيفها وقياس تأثيرها، ورصد مؤشراتها ومخاطرها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية من خلال تحليلات إحصائية كميَّة ونَوعيَّة، تترجم مخاطر هذه الإشاعات على شكل أرقام يُمكِن قياسها، وتعطي نماذج عملية لتداعيات بعض هذه الإشاعات على المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
د.رجب بن علي العويسي