لم تكُنْ مسألة تطبيق اللامركزية والإدارة المحلية الفاعلة، التي اتَّجهت إليها سلطنة عُمان في المحافظات، ترفًا فكريًّا أو حالة وقتية، بل مسار أصيل يُراد منه تحقيق تحوُّل نوعي شامل في مَسيرة بناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤيتها الطموحة «عُمان 2040»، ولذلك أصبح الرهان عليها ليس كنظام إداري وتنظيمي يراد منه تمكين المحافظات من إدارة موارها وتوظيف الميزة النسبية فيها، بل أيضًا كسلوكٍ مُجتمعي وثقافة إنسان يمتلك قِيَمها وأخلاقياتها ومفاهيمها وأُطرها لتحقيقِ الأهداف الوطنية وتعظيم مسار الشراكة المُجتمعية القائمة على الإعلاء من قِيَم المسؤولية والوعي وترسيخ معالمها في مُجتمع سلطنة عُمان، لذلك ارتأت سلطنة عُمان في تطبيق اللامركزية والإدارة المحلية خيار القوَّة الاقتصادية والاجتماعية التي تتَّجه لأن تصبحَ المحافظات مسؤولة عن تطوير مواردها وإدارة برامجها بكفاءة واقتدار.
وبالتالي المسؤولية القانونية والأخلاقية والوطنية والتأريخية للمحافظات عن بناء منظومة اقتصادية متكاملة متوازنة، آخذة في الاعتبار اكتمال البنية التشريعية والتنظيمية ممثلة في نظام المحافظات وقانون المجالس البلدية والتي نصَّت على جملة من المهام والاختصاصات فيما يتعلق بـ: تنمية واستثمار الموارد الخاصة بالمحافظة والترويج لها، من أجْلِ تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للمواطنين، والعمل على الاستفادة من المُقوِّمات المختلفة في المحافظة، ومتابعة الأنشطة الاقتصادية في المحافظة، بما يعزز نمو هذه الأنشطة. أو دَوْر المجالس البلدية في إبداء الرأي في وسائل استثمار موارد المحافظة؛ الأمر الذي يضع المحافظات اليوم أمام مرحلة جديدة من العمل قوامها المسؤولية والإخلاص والمنافسة في تطوير موارها الطبيعية، الاقتصادية والتراثية والبيئية والسياحية؛ باعتباره خيارًا تنافسيًّا ومجالًا مفتوحًا للمحافظات للمنافسة فيه وإثبات بصمة حضور نوعية في خلق الفرص وإنتاج الوظائف وتحقيق الاستثمارات وتوطين الخبرات والاستفادة من أفضل الممارسات الوطنية والإقليمية والدولية لتحقيقِ التحوُّل الشامل المنطلِق من كفاءة الإدارة وحوكمة اللامركزية، وتعظيم الإدارة المحلية في صناعة الفرص التنموية والتوسُّع فيها.
وبالتَّالي ما يعنيه ذلك من دَوْر محوري للمحافظات يستوعب التحوُّلات والأولويات الوطنية في ظلِّ تعظيم القِيمة التنافسية لموارد المحافظات وتوظيفها، والاستثمار الأمثل في الفرص والممكنات والأدوات، وتنشيط الحراك المُجتمعي المتَّجه لصالحِ استدامة التطوير النَّوعي والتحديث الموَجَّه، وإعادة هندسة الواقع الاقتصادي وتقييمه وتعزيز ابتكارية المشروعات الإنمائية والخدمية والإنتاجية بالمحافظات، وصياغة واقع جديد من العمل المشترك، والتفاعل النَّوْعي، والتناغم في الرؤى والأفكار، وتدارس جوانب القوَّة وفرص النجاح التي تتميز بها المحافظة مع مختلف الشركاء، أو كذلك التحدِّيات والصعوبات التي ينبغي الوقوف عليها وتكاتف الجهود المؤسَّسية والفردية مُجتمعة نحو معالجتها، واستمطار الأفكار واستنطاق الفرص وإنتاجها بطريقة مبتكرة وتفعيلها وإعادة تدويرها لاحتواء كفاءة العمليات الداخلية وقدرتها على التكيف مع الواقع التنموي المُتجدِّدة وتعاظم قيمتها المضافة التي ستصنع الفارق في نواتج العمل، فإنَّ مسؤولية المحافظات في تقديم منجز تنموي اقتصادي وسياحي منافس مرهون بجملة من الموجهات التي يجِبُ أن تعملَ عليها بكفاءة ومنها:
أهمِّية أن تبني المحافظات منظومة عملها على قواعد بيانات متجدِّدة وواضحة ومؤشِّرات دقيقة، وتوظيف عملي لنتائج المسوحات والدراسات الاستطلاعية والإحصائيات والمؤشِّرات، وإيجاد آليَّات وأدوات نوعية لتشخيصِ واستقراء ورصد وتحليل متطلبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالمحافظة، وبناء نموذج في الإدارة المحلية الكفؤة يعبِّر عن حسِّ التلاحم والتكامل الوطني والانسجام بين المحافظات كهياكل إدارية وتنظيمية وبين مختلف شرائح المُجتمع في العمل معًا على تحسين صورة المحافظة وإثبات بصمة حضور نوعي للمشاريع التنموية التي ستغيِّر حياة الناس في المحافظة أو تقدم صورة إيجابية مشرقة حول نتائج هذه التحوُّلات وانعكاساتها على الحياة المعيشية للمواطن.
تعظيم تطبيق اللامركزية المنتجة التي تتَّجه إلى صناعة الفرص، وإنتاج الوظائف وإشراك مُجتمع المحافظة في تبنِّي سياسات اقتصادية تتناغم مع الفرص الاقتصادية والاستثمارية المتوافرة في المحافظة وتستفيد من الموارد الخام فيها وإعادة إنتاجها، وعبر تأكيد الانتقال الجدي نحو تطبيق اللامركزية، ليصبح برنامج عمل يتجلى في كل مُكوِّنات وتفاصيل عمل المحافظات، بدءًا من السياسات والخطط والبرامج، وأنظمة الاتصال والتواصل، وأساليب العمل، وطُرق الإنجاز، والرقابة والمتابعة والالتزام والمسؤولية، وفي تكامل العمل وتفاعل الأُطر ورفع درجة الجاهزية والتنسيق بين مختلف هياكل ومسارات العمل بالمحافظات، وتفعيل دَوْر غرفة تجارة وصناعة عُمان وهيئة المناطق الاقتصادية والحُرة «مدائن» في تنمية اقتصادات المحافظات، وإعادة إنتاج دَوْر المجالس البلدية، وإدماج الفِرق الخيرية والأندية الرياضية وجمعيات المرأة ومؤسَّسات المُجتمع المَدَني في منظومة العمل الوطني.
ـ الالتزام بجوهر البناء الداخلي للمنجز التنموي بالمحافظات، وعَبْرَ توجيه الاهتمام إلى المشاريع المنتِجة، أي التي يكُونُ لها أثَر مستقبلي ونتاج ملموس مستدام على حياة المواطن، وتحمل معها فرص نجاحها، وأدوات تفوقها، وقدرتها على بناء مواطن ممكن اقتصاديا، ومعنى ذلك أنَّ اختيار المشروع والمبادرة وانتقائها، يجِبُ أن يبنى على معايير القيمة المضافة، والفرص التي يصنعها في المشهد التنموي، سواء في أبعاده الإنتاجية والاستثمارية أو الخدمات أو فرص العمل التي يقدِّمها للمواطنين لتكامل شرط الكفاءة والاحتياج والاستدامة والتنوُّع والترويح والخصوصية فيه، ويرتبط بمسارات تتناغم مع أولويات الإنسان المستقبلية وطموحاته الحياتية.
ـ رفع درجة الجاهزية التنموية وتكوين مفهوم أعمق للمنافسة بين المحافظات يتجاوز الشكليات والروتين والتقليدية، مع التركيز على تهيئة المناخات الاستثمارية الكفؤة المعززة بالتشريعات والأنظمة القادرة على صناعة التوازنات وخلق الفرص والبدائل الاقتصادية للمواطن، ومعالجة جادَّة للبيروقراطية والتعقيد في الإجراءات التي باتت تعرقل سَير برامج التطوير بالمحافظة، وتنشيط برامج التمكين الاقتصادي لكُلِّ فئات المُجتمع وبشكلٍ خاصٍّ الأُسر المنتِجة وتوجيه الاهتمام بالمنتج الوطني، ورفع درجة الإنتاجية في الأنشطة الاقتصادية الواعدة والاهتمام بمشاريع الشَّباب والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة ذات القيمة المنافسة في مجالات الأمن الغذائي كالزراعة والتسويق للمنتجات الزراعية، أو كذلك المبادرات السياحية والتراثية والصناعات التقليدية كالفخاريات وإعادة تدوير المواد الخام الزراعية والصناعية وغيرها.
ـ تعظيم الاهتمام بالمورد البشري في المحافظة، وعَبْرَ استغلال الطاقات والقدرات وحفزها في إعادة إنتاج وتطوير المحافظة، فإنَّ كفاءة الاستثمار في موارد المحافظة، يحمل في طياته أبعادًا أخرى لتشملَ تطوير المورد البَشري بالمحافظات، وتعزيز حضور الكفاءات الوطنية واحتوائها، وتمكينها من القيام بِدَوْر أكثر مهنية وتشاركية عَبْرَ ما يقدِّمه مُجتمع المحافظة من مبادرات المسؤولية المُجتمعية، الأمر الذي يُعزِّز من تفاعل المواطن مع الفرص المتاحة، وفتح قنوات الاتصال مع مختلف شرائح المُجتمع من أصحاب الشركات وروَّاد الأعمال والمبتكرين وأصحاب براءات الاختراع، والنماذج الملهمة والقدوات، وأصحاب الأقلام والإعلاميين وصنَّاع المحتوى الرَّقمي والمثقفين والأكاديميين وأصحاب المبادرات المُجتمعية؛ باعتباره استحقاقًا وطنيًّا لا يقوم مفهوم التطوير إلَّا به ولا يصل إلى أهداف إلَّا من خلاله.
أخيرًا، يبقى استدامة نجاح تلك المرتكزات مرهونًا بكفاءة أنظمة الرقابة والمتابعة والضبطية والتقييم، وتدخُّل الحكومة ممثلة في جهاز الرقابة المالية والإدارية للدَّولة في مكافحة الفساد الإداري والمالي وتعزيز النزاهة؛ لِمَا له من أهمِّية في ضبط الموارد وحُسن توجيه الموازنات والحدِّ من الهدر وفاقد العمليات المتكررة الناتجة عن سوء استخدام سلطنة عُمان والنفوذ الوجاهي. إنَّ من شأن هذه الضبطية أن تُسهمَ في حوكمة المال العام، وموارد المحافظة، وضبط آليَّات صرف موازنات المحافظات وكفاءة توجيهها، وتعظيم مفهوم الاستثمار الموَجَّه نحو توطين الصناعات في المحافظات وتنشيط دَوْر المناطق الصناعية في الصناعات التحويلية، ناهيك عن أهمِّية ذلك في تبنِّي نموذج أكثر شفافية في إرساء المناقصات والعقود مع الشركات المنفِّذة للمشاريع، ومستوى العدالة والكفاءة المرتبطة بالقرارات الداخلية، وفق مؤشِّرات تنافسية، وإجراءات ثابتة، ومدخلات اقتصادية واستثمارية، يعوِّل عليها المواطن نجاح المحافظين في إدارة موارد المحافظة واحتواء كفاءاتها البَشرية. فهل سيضمن تكامل هذه الموجِّهات نضج المحافظات في الاستفادة من مبادرة سياحة المحافظات التي أطلقتها وزارة الاقتصاد في منتدى اقتصاديات المحافظات، في سبيل تقديم محتوى تنموي اقتصادي وسياحي مبتكر ومنافس؟
د.رجب بن علي العويسي