في الحج الأكبر، يفد المسلمون من كل اصقاع الدنيا، يجتمعون في صعيد واحد، ويطوفون ببيت واحد، ويمارسون شعائر واحدة ، يؤدون مناسك الحج بلباس واحد ” إزار ورداء” ، يتقاسمون جميعهم مشتركات كثيرة، تذوب بينهم كل مفارقات الحياة ومشوهاتها، ليصبح تمايزهم بإخلاصهم، وتفاوتهم على قدر انجازهم، وتميزهم بقدر صلتهم بربهم وتضرعهم إليه، يدعون ربا واحدا شاكرين لله، قائمين على حدوده، متضرعين اليه، باكين نادمين على تقصيرهم، يرجون رحمته ويخافون عذابه، وينظرون ثوابه ورضوانه، ومغفرة ذنوبهم ومحو سيئاتهم، ويسألونه التوفيق لهم في استكمال مناسك الحج العظام خالصة لله، وهم يرددون” لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.
لذلك كان الحج في الأمة منهج حياة، ومنبع هداية، وطريق رشاد، وقوة نهضة، ونصر شريعة، وانتصار مبادئ، وبناء إنسان ، وسمو خلق، وضياء بصيرة، ووحدة وتآلف وتكامل وحوار وتواصل، ومرتكزات متكاملة في البناء والتطوير والتنمية والاقتصاد والاستثمار، وهي معاني راقية جليلة تضع أمة الإسلام أمام مرحلة مراجعة لممارساتها، وتصحيح أخطائها، وإعادة حساباتها، وتعظيم إنسانيتها ومكانتها، وبناء فرص مجدها، والاستفادة مما يدور في قلب العالم الإسلامي في أرض الأقصى المبارك وشموخ غزة العزة وانتصار أبناء العقيدة والايمان والثوابت والأرض والوطن على الصهيونية العالمية والامبريالية الأمريكية الحاقدة التي أبانت قبحها وأظهرت خبثها وعدائها للإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء، بتقوية وحدة الصف، ولمّ شتات الكلمة، وتوجيه مقاصد الذات، والتسامي فوق الخلاف، ورؤية الاختلاف بين أهل البيت الإسلامي والعربي في إطار التكامل، وبناء أرضيات أوسع للحوار، والاعتراف بالمختلف الإنساني والمشترك القيمي ، في ظل مبادئ الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي ودوله في رد الحق المغتصب وتحقيق الإرادة الواعية الواعدة من أجل تحرير الأرض المباركة ومن حولها.
وعليه يأتي الحج الأكبر هذا العام وغزة العزة وفلسطين في جراحها الغائرة، وهي تواجه أقذر حرب وأعظم جرم شهده التاريخ البشري تقوم به الصهيونية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية، ومن شايعهم من الانجاس والأوباش والأقزام في عدوانهم على غزة، لتصنع هذه الاحداث والأزمات والظروف التي باتت يواجهها الشعبي الفلسطيني عامة وأهل غزة العزل خاصة من إبادة وتدمير، وقتل وقصف وتنكيل، وتشريد وإجرام، محطة لإعادة القوة والهيبة لهذه الامة، بعد أن فضحت غزة أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، فيقفوا مع المقاومة خيار القوة والعزة والكرامة، لتبني في كيان هذه الامة روح التغيير وتنطلق شامخة لمرحلة جديدة في إرادة وعزة وقوة، لتعيد صياغة واقعها من جديد، واقع حددت المقاومة طريقه ورسمت مساره، ووجهت بوصلته، فتأخذ بأسباب القوة والغلبة والنصر، والعمل والإنتاج، ومنهجيات العلم والبحث والابتكار والاكتشاف، منطلقة من روح الإسلام العزيمة وقيمه الخالدة وثوابته المتجددة، ورؤية أوسع للعالم وأحداثه، وقراءة واعية معمقة للتحديات التي تحيط بإنسانية الإنسان، في مواجهة الانحلال الخلقي والنسوية والالحاد والشذوذ الجنسي والمثلية ودعوات الإباحية والانسلاخ القيمي والفراغ الأخلاقي التي تعمل على نشرها الصهيونية والامبريالية والشرق والغرب الحاقد على الإسلام وأهله والفضيلة والسلام.
إن مواقف الحج ونسكه وأحداثه تصنع في شخصية المسلم حياة متجددة، ملؤها العمل والانجاز، والعطاء والسخاء، والإخلاص والانابة، والتوبة والاوبة إلى الله، في سمو فعل، ورقي ذوق، ولين خطاب، تلهج السنتهم بالذكر، فتصحو نفوسهم بالخوف من الله، مواقف تصنعها هيبة الحج وقدسيته، وتؤطرها مبادئه وأخلاقه وقيمه ، عندما تلامسها يد التطبيق، وتصل إليها مسارات التنفيذ، وتتجه إليها خيالات التفكير، معززة بروح التضحية والجهاد بالمال والنفس، ونماذج الايمان والوفاء للأرض والانسان والشرف والكرامة والأخلاق الذي يسطره المؤمنون الصامدون الصابرون في غزة العزة، في مواجهة الظلم والقهر والابادة والتنكيل والقصف والتدمير والتجويع والتشريد ، ليكن صبرهم وثباتهم نصرا وعزة في مواجهة الاجرام الصهيوني الغاشم على غزة، وعندها سوف يتغير حال الأمة بأكملها، وما تعانيه اليوم من انتكاسه، أو تعايشه من تأخر، وما ينخر في جسدها من خلاف، وما يشوه صورتها من تنابز واختلاف، وما يسيطر على فكرها من تأزم وخوار، وما تعانيه من حالة التقزّم والسقوط في مستنقع الفوضى الكلامية ، والتناحر والتحاسد والتباغض والخيانات، وتأجيج لغة الحرب وسلوك التحريض ورغبة التصعيد بدعم الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة ؛ سلوك يغلب عليه اليأس والذل والهوان الذي انعكس على حياة أبناء الأمة وشبابها، فتفرقت أوصالها، وضاعت كلمتها، وذهب بريقها، وانمحت شوكتها، وذهبت ريحها، حتى أصبحت عالة على غيرها، تتجاذبها التيارات الفكرية الشرقية والغربية، لتحاصر غزة من حكومات الأمة وحكامها، وتدمر وتسلب حريتها ويراق دماء أبنائها ويشرد إنسانها بتواطؤ هذه الحكومات وبتحريض من المتصهينين، أصحاب المواقف المفلسة والأهداف الدنيئة؛ إنهم من يقودون راجمات الموت وقاذفات القنابل لتقتل أطفال غزة ا وتدمر البيوت وتهلك التنمية وتخرب الديار – والله المستعان.
وعليه فإن ما يصنعه الحج من صور التلاحم والتكامل بين أبناء الأمة، – إن أحسنت الامة توظيفها وآمنت بها، سوف يحمل في طياته معادلة القوة ورياح التغيير لواقع متأزم، وبأمل قادم يصنع الاعجاز، ويغير شكليات الممارسة، لتذوب في آيات الحج ودلائله ؛ كل النعرات الطائفية والاحقاد المذهبية والسياسات العدوانية، والمفارقات السياسية، وحالة التأزم الأخلاقي والنقوق القيمي، وسلوك التنمر الذي يمارسه المسلم على أخيه المسلم. رغم ما يراه من مشاهد الاجرام والعدوان وما خلفه من عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء والكبار والشيوخ ، وحيث الدمار للبيوت والمساكن والمؤسسات الصحية والتعليمية،؛ شواهد حية لعبث وجرائم العدوان الصهيوني المحتل الغاصب واعتداءاته المخزية على غزة، أرقام باتت تفوق التقدير والوصف، ومناظر يندى لها الجبين وتقشعر لها الابدان، وتنفطر لها الأرض والسماء في حق الانسان، ، واقع مأساوي مخزي تعيشه الامة، وحالة إجرامية يشرعنها مجلس الأمن ومنظماته في هدوء تام وسكوت مقيت وخنوع مريب، يدرك تفاصيلها ونتائجها ولكنه يقف عاجزا عن فعل شيء، بما تقره إيديولوجيته وعنصريته التي ما زال يحتفظ بها نحو العروبة والإسلام، ليجد الكيان الصهيوني والغرب والولايات المتحدة الامريكية في الصمت العربي والاسلامي الرسمي ضوء أخضر له في ممارسة بطشه وطغيانه وصب جم غضبة وثورانه في حين لم يتجاوز الحراك العربي والإسلامي والدولي لغة الدبلوماسية المفرطة المنزوعة الأثر والتأثير، في تعدد الاجتماعات واللقاءات والبيانات والتصريحات التي لا قيمة لها أمام غطرسة الصهيونية الحاقدة، والامبريالية البغيضة بل عززت من مسار التطبيع المشين.
وعليه كان البحث عن معالجات مستدامة لهذا الواقع المؤلم في ظل فلسفة الحج ، الطريق الذي يجب أن يسلك، فيرد الامة إلى صوابها، ويعيدها إلى ثوابتها، فتقرأ واقعها من جديد بشكل يتناغم مع مبادئ الحج وأولوياته الداعية إلى الوحدة والتآلف والتكامل والحوار والتعايش والسلام والحب، ونصرة المسلم والوقوف معه في مواجهة الظلم الذي يعانيه، فعسى أن تذوب مع كبرياء الحج الأكبر وانتصارات المقاومة وشموخها، خلافات الأمة، فلا ترقى لتكون أولويات يتصارع عليها أبنائها عبر منصات الاعلام والفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، وعسى أن تزول سوداوية القلوب، ونتانة الكلمة، وحقارة التصرف، وسادية التعامل ، لتعيد أيام الحج الأكبر وتقدير شعائره وتعظيم حرمات الله فيه، للأمة نهج الحكمة والصواب، وتعمق فرص الشراكة والالفة والنصرة ووحدة الهدف، وعسى ان تذهب مع كبرياء الحج وحضور مبادئه وقيمه واخلاقياته في سلوك الحجيج ومتعة التلذذ بالمناسك وحسن الأداء وتعظيم شعائر الله فيها، في سمة تعلوها الوقار والخشوع والذكر لله والطاعة له؛ كل مرهقات الأمة ومسببات التفرق، ومضيعات الأجور، ومهلكات الضمائر، ومنغصات الشعور، ومزينات الفساد والإفساد، وعندها سندرك حقا أن الحج منبرا لبناء الحياة ، وصناعة التنمية وتقدم الإنسانية، وإعادة هندسة التغيير، وترقية مسارات البحث عن الحقيقة ، حقيقة النصر بالثبات على مبدأ المقاومة والدفاع عن الأرض بالمال والنفس؛ فلغزة العزة والمقاومة الباسلة وشعب غزة وفلسطين واحرار العالم المناصرة للحق والعدال كل الاجلال والوفاء .
د. رجب بن علي العويسي