موضوع لطالمنا حاولنا تجنُّب الحديث عَنْه أو تناوله في كتاباتنا بصورة مباشرة، خشية أن لا يُفهمَ بطريقة مختلفة، أو يُنظر إليه في إطار مغاير، ولكن ما بات يثيره هذا الموضوع من هاجس شخصي، والخوف على مستقبل الناشئة، وأهمِّية تبنِّي سياسات وطنيَّة تعيد قراءة المشهد الاجتماعي للمرأة في ظلِّ معطيات «السوشيال ميديا» والمنصَّات الاجتماعيَّة، إذا ما سلَّمنا يقينًا بأنَّ الكثير من المؤشِّرات الاجتماعيَّة المرتبطة بالطلاق والخلع والتصدُّع الأُسري والأفكار المتعلِّقة بالنسويَّة والإلحاد وغيرها هي نتاج للحلقة المفرغة التي باتت تستهلكها هذه المنصَّات في حياة المرأة والرجل والأبناء والمُجتمعات، لذلك آلَيْت على نفسي الحديث عَنْه وتناوله في هذا المقال بشيء من العفويَّة والصراحة والبساطة، وأبدأ بحقيقة مؤلمة وهي أنَّنا لَمْ نستفد من منصَّات التواصل الاجتماعي بالشكل الذي يجِبُ، وما زالت منصَّات التواصل بعد مرور أكثر من عقدين من ظهور الإنترنت، لَمْ نستطع أن نحدِّدَ اختياراتنا مِنها، وما الذي نريده، وما زالت الصورة القاتمة التي تعاملنا بها مع الإنترنت وحالة الإبهار المصحوبة بالرفض آنذاك، حاضرة في نصفها الأوَّل، بَيْنَما لَمْ يكُنْ للنصف الثاني «الرفض» حضور يُذْكر اليوم! ولعلَّ ذلك يرجع إلى هذا الارتماء العجيب نَحْوَ هذه المنصَّات في ظلِّ غياب القدوات وبدائل التوجيه وانكفاء الممارسة التعليميَّة على ذاتها وأسباب أخرى؛ فالصورة القاتمة التي استقبلنا بها الإنترنت والتقنيَّة مع بداية الألفيَّة الجديدة أنَّها كانت تروِّج للفحش والانحلال الخلقي وضياع الناشئة وتتيح لهم مواقع الإنترنت فرص الوصول إلى المحتوى المبتذل والهابط بما فيه من ملفات لصور خليعة وأفلام وغيرها ممَّا بات يتناقل بَيْنَ الجميع على أنَّه خطر يهدِّد الناشئة والشَّباب، ويُعزِّز فيهم الغريزة والشهوانيَّة؛ وبدأ المُجتمع آنذاك يتعامل مع الوضع على أنَّه تهديد خارجي أفرزته العولمة والقطبيَّة العالميَّة والتي تستهدف في أحد أبعادها الغزو الفكري والتأثير على مبادئ الشعوب وقناعاتها وأخلاقها وقِيَمها وتوجيه الاهتمام إلى هذه المنصَّات إحدى وسائل تحقيق هذه الأهداف، ومع الحملات التوعويَّة والتثقيفيَّة الدينيَّة التي بدأ بها المُجتمع بصورة فرديَّة ومُجتمعيَّة رغم عدم وجود الضوابط والتقنين الذي يمنع وصول هذه المواد المثيرة إلى الشَّباب، إلَّا أنَّ الاعتماد على الحواسيب في تلك الفترة قلَّل من تأثير هذه المشوّهات على حياة الجيل، غير أنَّ التطوُّر السريع في الهواتف النقالة الذكيَّة غيَّر موازين القاعدة.
ما أردتُ قوله إنَّ عالمنا اليوم يشهد ثورة غير مسبوقة في منصَّات التواصل الاجتماعي، أريد لها أن تستهدفَ القِيَم والأخلاق والمبادئ، ولأنَّنا لَمْ نستثمرها في الترويج للقِيَم والمبادئ والأخلاق والهُوِيَّة والإيجابيَّة والإنتاجيَّة، ولَمْ نستغلها بشكلٍ صحيح في تحقيق مفهوم أعمق لاقتصاد المعرفة الذي يبدأ من الفرد والأُسرة والبيت والمُجتمع قَبل أن يكُونَ هدف الدولة وسياسة الحكومة، لذلك ظلَّت هذه النظرة الضيِّقة إلى المنصَّات تلاحقنا في مَسيرة التطوُّر الحاصل في شبكات المعلومات والإنترنت والهواتف الذكيَّة وغيرها مما يجود به الفكر الإنساني كُلَّ يوم من ابتكارات واختراعات، بعد هذه الفترة من ظهور التقنيَّة والمنصَّات ظلَّت مساحة الإبهار حاصلة مع وقف الرفض ومبدأ القَبول لها بدُونِ قيد أو شرط حتى أفقدتنا أنفسنا وأضاعت قِيَمنا وسلبت أخلاقنا وأنهكت عقولنا وصدمنا بواقع جديد، تستهلكه المنصَّات وتستهويه، حتى تعدَّت الممارسة المبتذلة للكثير من الحسابات الشخصيَّة لمستخدمي المنصَّات الاجتماعي الحدود، وخرجت عن طور الضوابط، واتجهت إلى مقارعة القِيَم، وتنكر للفضيلة، وتشويه للعفاف والستر والأخلاق وتمييع للأنوثة، وخروج عن المألوف، وانتهاك للقِيَم والمبادئ، وانكفاء لماء الحياء، ومع أنَّ هذه الممارسة قَدْ طالت حسابات الذكور والإناث على حدٍّ سواء، إلَّا أنَّ خطرها من جهة لإناث أشد وأكبر، نظرًا لِمَا تُشكِّله المرأة في حياة المُجتمعات وبناء الناشئة، فهي المُجتمع كلُّه، وهي فيه كالقلب في الجسد، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه.
إنَّ مَن يطالع حسابات بعض النساء في المنصَّات الاجتماعيَّة وبشكلٍ خاصٍّ مِنها السناب شات والتك توك واليوتيوب والانستجرام، وينظر بعَيْن المتأمل لواقع المرأة، يدرك عِظم الخطر القادم الذي ستواجهه الناشئة، عندما يحصل هذا السلوك ممَّن يحملن مسؤوليَّة بناء الناشئة وتربية الأجيال ومَن يتحمَّلن دَوْر صناعة القادة، فإنَّ ما يظهر من حُب الشهرة والظهور الجريء غير اللائق للكثير من مستخدمات المنصَّات الاجتماعيَّة ليعكس مستوى الخطر القادم الذي تواجهه الناشئة، وهو خطر يهدِّد الأُسرة والطفولة والحياة في ظلِّ حملات التغريب والتشويه للقِيَم والمبادئ التي تواجهها المرأة اليوم، وباتت تتَّجه إليها عَبْرَ هذه المنصَّات الاجتماعيَّة والقنوات الإعلامية والفضاءات المفتوحة، في محاولة لإخراجها من جوهر المبادئ والقِيَم والأخلاق التي تؤمن بها، والمعايير والمُثل التي تربَّت عليها، وهو أمر وجد في غوغائيَّة البعض منهنَّ في هذه المنصَّات وحُب الشهرة والظهور الجريء فرصة سانحة للانتقال بها إلى مراحل أخرى أشدَّ وأعظم خطرًا على الناشئة من حملات التشوية والتغريب التي تواجهها الناشئة ذاتها، والتي في الأساس لا تمتلك فيها المنصَّات قوَّة الإلزام؛ بل أعطت خيارات أوسع وأتاحت وسائل أخرى للتغرير بالناشئة بالأسلوب والكلمة والوعود والأفكار وغيرها، ورغم تعدُّدها إلَّا أنَّ تأثيرها قد لا يكُونُ بتلك القوَّة، نظرًا لِمَا يُمكِن أن تنتجَ عَنْه الأساليب الموجَّهة للناشئة من ردة فعل عكسيَّة تعزِّز من فرص الممارسة التأمليَّة من قِبل النشء، فيراجع نفسه، ويعيد التفكير في حساباته، ويلحق نفسه قَبل السقوط، لتتجلَّى روح الإرادة والغيرة للحقِّ وصدق الشعور وإيمانيَّته فوق كُلِّ دعوات التغرير، بَيْدَ أنَّ تحقيق ذلك من الصعوبة بمكان عندما يكُونُ التأثير ممَّن تقع عليها تربية الأبناء ورعاية الناشئة وحماية فلذات الأكباد، وهنا تأتي الكارثة الكبرى، عندما يطبع في سلوك الناشئة عادات مستهجنة تدعو إلى الحُريَّة المطلقة، والاختلاط المريب، والتصرفات الرعناء، والانغماس في صيحات التبذل والتردي والسقوط؛ فتصنع بذلك جيلًا قَدْ يتعلَّم من الأُمِّ أو الأخت الكبيرة أو المُعلِّمة أو الخالة أو العمَّة أو تتقمص شخصيَّات مَن تقع عليهم الأنظار وتزيّن بصورهم الملابس والصفحات، لينعكسَ ذلك سلبًا على سلوك الناشئة وواقعهم وتعاطيهم مع المواقف، وهنا تتجلَّى خطورة الأمْرِ، وصعوبته وتأثيره على حياة الناشئة.
عليه، بات هذا الظهور بما فيه من خروج عن المألوف، ونفوق في مبادئ السِّتر والعفاف، وغياب كُلِّي لماء الحياة، وتمييع في الشخصيَّة، وإثارة في الحركات والتصرفات، وأبرز الذَّات في مواقف مخلَّة بالحشمة، أو أن تتقمَّص دَوْرَ الرجل في مواقف الرجال، وأماكن النزال لتتجلَّى بهيئتها وخطواتها وسلوكها ومشيتها ولبسها في هذه المواقف مشاهد مصورة بالصوت والصورة والحركات والإيقاعات عَبْرَ الانستجرام والسناب شات وغيرها، يحمل دلالات غير سارَّة لمستقبل الناشئة، كما أنَّ الصورة التي تعكسها حسابات البعض منهن يعكس مستوى السقوط الفكري وغياب المحتوى اللائق والراقي، فحديثها اليومي يَدُور حَوْلَ لبسها الخارجي وملابسها الداخليَّة، وترتيب غرفتها، وتسريحة شعرها، وتطويل أظافرها، واستخدامها لمنتجات تفتيح البشرة وإزالة الشعر، أو تجريب منتجات إزالة الكلف والبثور أو حَب الشَّباب، تتحدث للعامَّة من غرفة نومها مستلقية على سريرها، غايتها الوصول على الترند في أعداد المتابعين والمعجبين والمصفِّقين وغيرهم، وهكذا تضيع المبادئ والأخلاق وتغيب المروءة والخصوصيَّات أمام هذا التصنُّع الجسدي، بما يحمله من وسائل الإثارة والإغواء والإغراء والتغنج والتبذل. ولعمري كيف لأبٍ غيور يشاهد ابنته على الملأ؟ وكيف لأُمٍّ أن ترضَى في نفسها ولابنتها بذلك؟ ثم كيف لماجدة أن تفعلَ ذلك وهي تدرك أنَّ ما تسطِّره هذه المنصَّات وما تختزنه للمستقبل من مشاهد وأحداث ستبقى شاهدة على إنجازاتها ـ جيل سيعيش على حقائق مؤلمة وشواهد مفجعة ـ؟
أعود فأقول بأنَّ ناشئة المستقبل وهي تقف على هذه المشاهد، ستتولد لديها في قادم الوقت صورة قاتمة مصطنعة متكلفة غير واقعيَّة قائمة على الكذب والخداع والتضليل لتنعكسَ هذه الصورة على حياته في مخاطر التشويه الفكري والأخلاقي، والتمييع والانكفاء إلى الذَّات، ونزوع نَحْوَ الاستهلاكيَّة المفرطة في جيل غير قادر على بناء ذاته مستهلك لكُلِّ شيء ينتظر من يخدمه، إذ لا تتعدَّى أولويَّاته مساحيق التجميل والبوتكس وغيرها من لوازم الظهور المتكلف والمتصنع للشخصيَّة، جيل يواجه نقمة الحياة والعيش بسبب ما تتركه الأُمَّهات فيه من سوء التربية وغياب الرجولة، والنزول به إلى دركات الرداءة في الفكر والتفكير والحوار والمحتوى واللباس والسلوك، وفي تعامله الأبوي وغيرها ممَّا بات يظهر ـ وللأسف الشديد ـ في واقع بعض الأُسر والمُجتمعات. بَيْدَ أنَّ المرجوَّ من المرأة وهي حاملة لواء الإصلاح وطريق القوَّة ونهوض المُجتمعات، الباسلة الماجدة الحالمة، أن تقرأ في ظروف الصورة وكومة الفواجع التي باتت تُوجَّه للناشئة من دعوات ـ وللأسف الشديد ـ دوليَّة نَحْوَ المثليَّة والنسويَّة والحُريَّات المطلقة والاستقلاليَّة التامَّة ونفوق القِيَم، في أن تكُونَ القوَّة التي تتصدَّى لثورة الواقع البائس، وتعيد الأمور إلى نصابها، وتنتشله من كومة السقوط والجهالة، لتتَّجه الإرادة إلى بناء جيل واعد واثق بقدراته يستفيد من هذه المنصَّات في تحقيق الفارق، وتصحيح الواقع وإعادة صناعة الوعي، محطَّات تبني في المرأة روح المسؤوليَّة، وحسَّ التغيير، ونهج القوَّة في مواجهة حملات التشويه وصيحات الانسلاخ ودعوات التحريض، والعيش خارج جلباب المسؤوليَّة والاحتواء الأُسري والعائلي والزواجي؛ لنتصور ردَّة فعل ناشئة المستقبل التي تربَّت على هذا النَّوع من السلوك والخروج عن الضوابط التي تمارسها مَن تقوم على رعايته! أو كيف ستكون ردَّة فعلها بعد أن قويَ عودها واتسعت صداقاتهم واختلطوا بغيرهم، أن يتصور مشهد أُمِّه أو أُخته بهذه الصورة التي وثَّقتها التقنيَّة، هنا ينبغي للمرأة الماجدة أن تلتقطَ الأنفاس وتفكِّرَ مليًّا في الصورة التي يعكسها هذا المشهد أمام ناظري أبنائها وفلذات أكبادها حيث انعدمت الخصوصيَّة وذهب ماء الحياء. إنَّني أفخر بالماجدات الحاضرات في مواقع العمل والإنجاز، في ثوب الوقار والحشمة، وصدق الكلمة، وعظمة المحتوى، ورصانة الفكر، وعُمق الهدف، لَنْ تكُونَ لقمة سائغة وراء هذه المشوّهات، ولَنْ يبتزَّها في دِينها وأخلاقها وثوابتها معسول مُلحِد، أو كلام مِثلي، فما ذاك سوى هذيان يلقى من الصدِّ ما يُثنيه عن بغيته، ويردُّ كيده في نحره، ولَمْ يلبث إلَّا أن ينصهرَ في كومة القمامة.
د.رجب بن علي العويسي