تعد سورة النمل من السور المكية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، وهي السورة السابعة والعشرون في ترتيب المصحف الشريف، كما تتناول السورة العديد من القصص والعبر والدروس التي تبيّن قدرة الله تبارك وتعالى وحكمته في خلقه، وتدعو إلى توحيد الله عزّ وجلّ والإيمان به وحده، وترسخ العقيدة الإسلامية في نفوس المؤمنين.
في هذه السورة، نجد قصة النبي سليمان عليه السلام مع الهدهد وملكة سبأ، وهي قصة مليئة بالعبر والمواعظ، إذ تُظهر حكمة النبي سليمان عليه السلام في التعامل مع الأمور، وحسن تدبيره، وعدله ورحمته، كما تبرز قدرة الله تبارك وتعالى في إخراج المخبوء في السماوات والأرض، وعلمه المحيط بكل شيء، سواء كان ظاهراً أو خفياً، وفي هذا المقال تناولنا تفسير الآيات الكريمة من أهم كتب التفسير المعتبرة مثل تفسير الطبري والجلالين وابن كثير وروح المعاني وسيد قطب، موضحين المعاني الشرعية للآيات والجماليات اللغوية التي تحتويها، حيث يتبين لنا من خلال هذه التفاسير الحكمة الإلهية في إرسال الأنبياء والرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده، والتواضع، والإذعان لأوامره.
أهمية سورة النمل:
تتمثل أهمية سورة النمل في العديد من النقاط، من أبرزها:
أولاً، ترسيخ العقيدة الإسلامية: تؤكد السورة على توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، وتدعو الناس إلى الإيمان بقدرة الله وعلمه الشامل.
ثانياً، عرض قصص الأنبياء: تحتوي السورة على قصص مهمة من حياة الأنبياء مثل قصة موسى وسليمان عليهما السلام، مما يتيح للمؤمنين التعلم من حكمتهم وتصرفاتهم.
ثالثاً، التأكيد على العلم والتدبير: من خلال قصة سليمان والهدهد، تبرز السورة أهمية العلم والتدبير وحسن إدارة الأمور.
رابعاً، إظهار قدرة الله: السورة تبيّن قدرة الله على إخراج المخبوء في السماوات والأرض، وعلمه بما يخفى وما يُعلن.
خامساً، الدعوة إلى التواضع: من خلال دعوة سليمان لملكة سبأ بالتواضع والإذعان لأمر الله عز وجل، تتجلى أهمية التواضع في التعامل مع الآخرين.
بالتالي، وبهذه الطريقة، تجمع سورة النمل بين التوجيهات الدينية العميقة والجماليات اللغوية الفائقة، لتكون نصًا مميزًا من جميع النواحي، يسهم في بناء عقيدة المؤمن وترسيخها، ويعزز من فهمه لحكم الله وقدرته في خلقه، وفيما يلي تفسير هذه الآيات وفق أهم كتب التفسير تؤكد لنا ما تحدثنا حوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
يقول الطبري في تفسيره لهذه الآيات من سورة النمل (الآيات 25-31): أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: يوضح الطبري أن الله سبحانه وتعالى يُخرج المخبوء والمخفي في السماوات والأرض، سواء كان هذا المخبوء نباتًا في الأرض أو ما في السماوات من أمطار، وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ: الله يعلم كل شيء، سواء كان ظاهراً أو مخفياً، وفي تفسير: اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: تأكيد على وحدانية الله وربوبيته للعرش العظيم.
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ: سليمان عليه السلام يقول للهدهد أنه سينظر إن كان ما قاله صدقاً أم كذباً، اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ: يأمر سليمان الهدهد بأن يذهب بالكتاب إلى قوم سبأ ويلقيه إليهم وينتظر رد فعلهم، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ: بلقيس تتحدث إلى قومها وتخبرهم بوصول كتاب كريم من سليمان، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ: تبدأ بلقيس بقراءة محتوى الكتاب الذي يبدأ بذكر اسم الله الرحمن الرحيم، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: يطلب سليمان في رسالته من قوم سبأ أن لا يتكبروا عليه وأن يأتوا مسلمين مستسلمين لأمر الله.
تفسير الجلالين: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ: تعجب من ترك السجود لله الذي يخرج المخبوء في السماوات والأرض، وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ: الله يعلم كل شيء سواء كان مخفياً أو معلناً، اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: تأكيد على وحدانية الله وربوبيته للعرش العظيم، قَالَ سَنَنظُرُ: سليمان يقول للهدهد أنه سيتحقق من صدق كلامه، اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا: سليمان يأمر الهدهد بأن يذهب بالكتاب إلى قوم سبأ.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ: بلقيس تخاطب قومها بعد تلقيها الكتاب، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ: الكتاب مرسل من سليمان، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: يدعوهم إلى عدم التكبر عليه والمجيء مسلمين.
تفسير ابن كثير: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ: استغراب من ترك السجود لله الذي يخرج خبايا السماوات والأرض، وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ: الله يعلم كل ما يظهرونه وما يخفونه، اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: الله هو الإله الوحيد ورب العرش العظيم، قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ: سليمان يتأكد من صحة كلام الهدهد.
اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا: أمر سليمان للهدهد بأن يذهب بالكتاب، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ: بلقيس تخاطب قادة قومها، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ: الكتاب مرسل من سليمان، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: الدعوة إلى عدم التكبر والمجيء مسلمين.
تفسير روح المعاني للألوسي: يفسر الألوسي الآيات بتفصيل كبير، مبينًا المعاني اللغوية والدلالات البلاغية، مشيراً إلى أن الله يعلم كل ما في السماوات والأرض، وأن دعوة سليمان كانت موجهة لقوم سبأ لتوحيد الله وعبادته وحده.
تفسير سيد قطب في “في ظلال القرآن”: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ: سيد قطب يوضح أن هذه الآية تبرز التوجيه الإلهي لعبادة الله وحده، وأن السجود لله هو واجب طبيعي لكل مخلوق يدرك عظمة الله، اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ: يبين سيد قطب أهمية التوحيد وأنه أساس الدين، قَالَ سَنَنظُرُ: يركز سيد قطب على الحكمة في تحقيق سليمان من صحة الأخبار قبل اتخاذ أي خطوة.
من هنا، تجمع التفاسير بين تفسير المعاني اللغوية والدلالات الشرعية للآيات، وتوضح الحكمة من دعوة سليمان لقوم سبأ إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده، وترك التكبر والإذعان لأمر الله، وتؤكد على معرفة الله عز وجل بكل شيء سواء كان ظاهراً أو خفياً، ولفهم الربط بين التفسير الشرعي للآيات والجماليات اللغوية، يمكننا النظر في عدة جوانب تجعل النص القرآني مميزاً من الناحية الدينية واللغوية على حد سواء:
التفسير الشرعي للآيات:
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: هذه الآية تدعو الناس إلى السجود لله وحده، وتذكرهم بقدرة الله على إخراج المخبوء في السماوات والأرض. من الناحية الشرعية، هذا يعزز مفهوم التوحيد ويشدد على أن الله هو القادر والعالم بكل شيء.
وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ: التأكيد على علم الله الشامل بكل الأمور، سواء كانت خفية أو معلنة، ما يعزز الوعي بمراقبة الله الدائمة.
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: بيان وحدانية الله وربوبيته، مما يدعو إلى إخلاص العبادة لله وحده.
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ: الحكمة في التحقق والتثبت من الأخبار قبل اتخاذ القرارات، وهو مبدأ شرعي مهم.
اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ: الدعوة إلى استخدام الحكمة في الدعوة إلى الله، والانتظار لرؤية ردود أفعال المدعوين.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ: اعتراف بلقيس بأهمية الرسالة، ما يظهر الاحترام والتقدير للرسالة النبوية.
إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ: البدء باسم الله الرحمن الرحيم، ما يعكس التوحيد والرحمة في الدعوة الإسلامية.
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: دعوة إلى التواضع وقبول الدعوة الإسلامية.
الجماليات اللغوية:
استخدام الأسلوب البلاغي: القرآن الكريم يستخدم أساليب بلاغية متعددة مثل السجع والجناس والطباق والمقابلة، مما يعزز جمال النص ويجذب انتباه المستمعين.
الإيقاع والنغم: التوازن الصوتي والنغم الموسيقي في تلاوة القرآن يعزز جاذبيته ويعمق تأثيره الروحي.
الصور البيانية: استخدام الاستعارات والتشبيهات والصور البيانية لتوضيح المعاني وجعلها أكثر وضوحاً وقوة في التعبير.
الاختيار الدقيق للكلمات: اختيار كلمات بعناية ودقة ليكون لكل كلمة دلالتها المحددة التي تضيف إلى المعنى العام وتثريه.
التكرار والتأكيد: استخدام التكرار والتأكيد لإبراز معاني معينة وتعزيزها في ذهن المستمع، مثل تكرار أسماء الله وصفاته.
مثال على الربط بين الجوانب الشرعية واللغوية:
في الآية “اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”:
الجانب الشرعي: تأكيد على وحدانية الله وربوبيته، مما يدعو المسلمين إلى الإيمان الخالص والتوحيد.
الجمال اللغوي: استخدام أسلوب الحصر والنفي (لا إله إلا هو) الذي يعزز الفكرة ويوضحها بقوة، كما أن وصف الله برب العرش العظيم يضيف جلالًا وهيبة للمعنى، مستحضرًا صورة العرش العظيم كمظهر من مظاهر قدرة الله وعظمته.
وبهذه الطريقة، يمكننا أن نرى كيف يجمع القرآن الكريم بين المعاني الشرعية العميقة والجماليات اللغوية الفائقة ليكون نصاً مميزاً من جميع النواحي.
في ختام هذا البحث الذي أبحرنا من خلاله في البعض من آيات سورة النمل، يتضح لنا عظمة القرآن الكريم في جمعه بين التوجيهات الشرعية العميقة والجماليات اللغوية الرائعة، ومن خلال تناول تفسير الآيات الكريمة من سورة النمل، وتحديداً قصة نبي الله سليمان عليه السلام والهدهد وملكة سبأ، استطعنا أن نستعرض الحكمة الإلهية والقدرة الربانية في تسخير المخلوقات، وإظهار العلم والإبداع في إدارة الأمور.
بالإضافة إلى ذلك، لقد تأكد لنا من خلال هذا التفسير أن القرآن الكريم ليس مجرد كتاب ديني، بل هو معجزة لغوية وبيانية، يحتوي على أسرار ودروس قيمة تفيد المؤمنين في حياتهم الدينية والدنيوية، فالقصص القرآنية، بما فيها من عبر ودروس، تهدف إلى ترسيخ العقيدة السليمة وتوجيه الإنسان نحو السلوك القويم، كما رأينا، فإن الجمع بين التفسير الشرعي والجماليات اللغوية يعزز فهمنا للآيات الكريمة، ويجعلنا ندرك عمق المعاني الربانية والحكمة الإلهية في توجيه الخلق إلى عبادة الله وحده، سورة النمل، بما فيها من قصص ومعجزات، تبرز قدرة الله وعلمه الشامل، وتدعو إلى التواضع والإذعان لأوامر الله.
وفي النهاية، نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به جميع المسلمين، ويزيدنا فهماً وتدبراً لآيات كتابه العزيز.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.