يُعَدُّ مبدأ التمييز العنصري من المبادئ الأساسية في القانون الدولي الإنساني، والذي يُلزم الأطراف المتنازعة بالتفريق بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية، حيث تتجلى أهمية هذا المبدأ في حماية المدنيين من الأضرار الجانبية التي قد تنجم عن الأعمال العدائية.
وتنص المادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أنه “يجب على الأطراف المتعاقدة أن تميز في جميع الأوقات بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، وأن توجه عملياتها فقط ضد الأهداف العسكرية”، كذلك، تؤكد المادة 51 على الحماية العامة للسكان المدنيين من آثار الأعمال العدائية، مشددة على حظر الهجمات العشوائية التي قد تصيب المدنيين بشكل غير مبرر.
وفي سياق النزاع الصهيوني الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة، تبرز تحديات كبيرة فيما يتعلق بتطبيق مبدأ التمييز العنصري، حيث تشير التقارير والشهادات إلى استخدام الكيان الصهيوني لأنظمة استهداف تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل نظام “لافندر”، الذي أظهرت تحقيقات متعددة أنه يخلط بين المدنيين والمقاتلين بشكل غير دقيق، هذه الأنظمة، التي تفتقر إلى التحقق البشري الدقيق، أدت إلى تصنيف آلاف الفلسطينيين كأهداف عسكرية دون أدلة موثوقة، مما أسفر عن وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين، بالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير إلى إنشاء “مناطق القتل” في غزة، وهي مناطق يتم فيها إصدار أوامر بإطلاق النار والقتل فور دخول أي شخص إليها، بغض النظر عن كونه مسلحاً أم لا، هذه الإجراءات تعكس تجاهلاً واضحاً لمبدأ التمييز العنصري كما تنص عليه القوانين الدولية، وتثير تساؤلات حول مدى التزام الكيان الصهيوني بالتزاماته الدولية في حماية المدنيين.
بالتالي، إن الفشل في التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية في غزة ليس مجرد انتهاك للقانون الدولي الإنساني، بل يعكس قصوراً في الالتزام بمبادئ القانون الدولي الأساسية، مما يستدعي مراجعة شاملة وتدابير تصحيحية لضمان حماية المدنيين في النزاعات المسلحة.
من هنا، إن انتهاك مبدأ التمييز هو موضوع حساس ومهم في النزاعات المسلحة، حيث يوجب القانون الدولي على الدول التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، ووفقاً لهذا المبدأ، تتحمل الدولة مسؤولية التحقق من أن الجسم أو الفرد المستهدف يشكل هدفاً عسكرياً مشروعاً، أما في حالات الشك، يتعين على القادة افتراض الوضع المدني للهدف. مثلاً، يجب على القائد افتراض أن المدرسة، التي تُستخدم لتقديم مساهمة فعالة في العمل العسكري، هي منشأة مدنية.
وفي سياق الحرب على قطاع غزة، تم توثيق الهجمات الصهيونية الواسعة النطاق على المدنيين الفلسطينيين في غزة. تشير الحقائق إلى أن السياسة العسكرية الصهيونية تتجاهل بشكل فعال تفويض التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين، هذه السياسة تتجلى في وجود نظام استهداف يعتمد على الذكاء الاصطناعي يعرف باسم “لافندر”، والذي كشفت عنه مجلة +972 “الإسرائيلية” بناءً على معلومات من ستة ضباط استخبارات “إسرائيليين”، فقد أوضح ضباط المخابرات “الإسرائيلية” أن الجيش اعتمد بشكل شبه كامل على نظام “لافندر” خلال المراحل الأولى من الصراع، حيث صنف ما يصل إلى 37,000 فلسطيني كمتشددين مشتبه بهم دون التحقق بدقة من سبب قيام النظام بهذه الاختيارات أو فحص البيانات الاستخبارية الأولية المستخدمة، حيث لم يكن هناك قدرة ذات معنى على تدقيق اختيارات الاستهداف التي يولدها الذكاء الاصطناعين كما أن بيانات التدريب الأولية لنظام “لافندر” استخدمت مصطلح “عميل حماس” بشكل فضفاض ليشمل العاملين في الدفاع المدني، مما جعل النظام أكثر عرضة لاختيار المدنيين عن طريق الخطأ عند تطبيق خوارزمياته على عامة السكان.
بالإضافة إلى ذلك، اعترف مصدر عسكري “إسرائيلي” بأن هذا النهج أدى إلى تضمين العديد من الأشخاص الذين لديهم ملف تعريف اتصال مدني كأهداف محتملة، كان البشر يعملون كختم مطاطي لقرارات الآلة، حيث أمضوا ما يقرب من 20 ثانية لكل هدف – في المقام الأول للتحقق مما إذا كان الهدف ذكراً – قبل الإذن بالتفجير، أيضاً إن النظام لم يقتصر على تحديد البالغين كأهداف، بل شمل أيضاً الأطفال، حيث كان عادةً يُفترض أن العناصر المستهدفة أكبر من 17 عاماً، لكن هذا لم يكن شرطاً ثابتاً، نتيجة لذلك، تم القضاء على آلاف الفلسطينيين – معظمهم من النساء أو الأطفال أو الأشخاص الذين لم يشاركوا في القتال – بسبب الغارات الجوية الصهيونية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أفاد ضباط المخابرات الصهيونية بأن نظام “لافندر” حدد عن طريق الخطأ أفراداً لديهم أنماط اتصال مشابهة لنشطاء معروفين في حركة حماس أو الجهاد الإسلامي الفلسطيني، رغم أنهم لم يكونوا أعضاءً في هذه الجماعات، حيث شمل ذلك عمال الدفاع المدني، ورجال الشرطة، وأقارب عناصر الحركة، وأفراد من السكان الذين شاركوا اسماً أو لقباً مشابهاً للناشطين، كما أشار ضابط عسكري “إسرائيلي” كبير إلى أن الأتمتة جعلت الأمر أسهل، نتيجة للضغط المستمر داخل الجيش الصهيوني لتحديد الأهداف، إذا لم يحدد “لافندر” الأهداف في يوم معين، كان يتم الهجوم عند عتبة أدنى بسبب الضغوط المستمرة لجلب المزيد من الأهداف.
هذا النظام الذي اعتمد على الذكاء الاصطناعي بشكل غير دقيق أدى إلى انتهاكات جسيمة لمبدأ التمييز، وأسفر عن مقتل العديد من المدنيين الأبرياء، مما يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزام الدول المتنازعة بمبادئ القانون الدولي الإنساني، بالتالي، يتطلب القانون الدولي الإنساني، وخاصة مبدأ التمييز، أن تميز القوات العسكرية في جميع الأوقات بين الأهداف العسكرية والمدنيين، وأن تتحقق من الوضع العسكري للهدف قبل شن الهجوم، بالإضافة إلى ذلك، إن استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستهداف الجماعي، الذي يعتمد على بيانات غير دقيقة وتخلط بين الأهداف العسكرية والمدنيين، دون تحقق بشري أو تدقيق نظامي، ينتهك هذا المبدأ ويثير قلقاً كبيراً بشأن الامتثال للقانون الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، أنشأ الكيان الصهيوني “مناطق القتل” في قطاع غزة، وهي مناطق يتم فيها إصدار أوامر بإطلاق النار والقتل فور دخول أي شخص إليها، بغض النظر عن كونه مسلحاً أم لا كما أسلفنا أعلاه، وقد تفتقر هذه المناطق إلى علامات واضحة، مما يزيد من خطر استهداف المدنيين، ويتجاهل القادة المحليون في كثير من الأحيان مبدأ التمييز أثناء تحديد قواعد الاشتباك، وفيما يتعلق بالهجمات على الأهداف المدنية، استهدف الكيان الصهيوني المدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد، ويزعم الكيان الصهيوني أن الخسائر في صفوف المدنيين تحدث لأن حركة حماس تستخدم المدنيين كغطاء و”دروع بشرية”، ومع ذلك، حتى عندما يستخدم أحد أطراف النزاع المدنيين لحماية قواته، فإن القانون الدولي الإنساني لا يعفي الطرف الآخر من التزاماته بحماية المدنيين، كما تؤكد العديد من المصادر الاستخباراتية أن الجيش الصهيوني تلقى تصريحاً بقتل عدد كبير من المدنيين بجانب كل “مقاتل صغير”، مما يدل على التجاهل الصارخ لمتطلبات القانون الدولي الإنساني.
إضافة إلى ذلك، على الرغم من ادعاءات الكيان الصهيوني بأن استهدافه يتماشى مع القانون الدولي من خلال التوجيهات العسكرية التي تحث على الامتثال للقانون الإنساني الدولي، فقد أثبت الفشل في التماس معلومات استخباراتية موثوقة تؤكد الطبيعة العسكرية للأهداف، فقد ذكرت منظمة “كسر الصمت” أن الجيش الصهيوني منح ضباطاً من الرتب الدنيا سلطة الموافقة على الضربات التي قد تؤدي إلى أضرار جانبية كبيرة للمدنيين، كما أن الأدلة تشير إلى سلوك غير قانوني من قبل القوات الصهيونية في الرتب الدنيا، بما في ذلك لقطات لجنود يتفاخرون بقتل مدنيين عزل، وإحراق المنازل، ودهس المدنيين بالدبابات، على سبيل المثال، إن حادثة قتل ثلاثة رهائن “إسرائيليين” غير مسلحين تُظهر بوضوح تجاهل القوات الصهيونية للقانون الإنساني الدولي، حيث تم قتلهم بدلاً من التحقق من وضعهم كمدنيين.
إن هذه الأمثلة من فشل القوات الصهيونية في الالتزام بمبادئ التمييز تسلط الضوء على تقصير الجيش الصهيوني في تنفيذ قواعد القانون الإنساني الدولي، مما يستدعي مراجعة شاملة وإصلاحات لضمان الامتثال الكامل لهذه القواعد وحماية المدنيين في النزاعات المسلحة.
بالتالي إن انتهاك مبدأ التمييز العنصري في النزاعات المسلحة، كما هو الحال في قطاع غزة، يكشف عن تراجع خطير للقانون الدولي الإنساني أمام آلة القتل العشوائي والتكنولوجيا غير الدقيقة، بالإضافة إلى ذلك، إن استخدام أنظمة الاستهداف المعتمدة على الذكاء الاصطناعي دون تحقق بشري دقيق، وإنشاء “مناطق القتل”، والتجاهل الواضح لحماية المدنيين، كلها تدل على قصور جسيم في تطبيق مبادئ القانون الدولي.
وبالنسبة للتقارير الموثقة حول استخدام نظام “لافندر” لاستهداف المدنيين في غزة، والاعترافات الصادمة من ضباط استخبارات إسرائيليين حول الاعتماد شبه الكامل على الآلة لتحديد الأهداف، تضعف الثقة في قدرة القانون الدولي على حماية المدنيين في النزاعات المعاصرة، هذه الممارسات، التي تؤدي إلى مقتل آلاف المدنيين، تُظهر تآكلاً في الالتزام بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، وتُبرز الحاجة الملحة لإصلاحات جوهرية.
كما أن الفشل في التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وفي حماية الأهداف المدنية، يعكس تحدياً كبيراً يجب مواجهته بحزم، ومن الضروري أن تتخذ الدول والمجتمع الدولي خطوات فعالة لتعزيز الامتثال للقانون الدولي الإنساني، حيث يمكن تحقيق ذلك من خلال:
أولاً، تعزيز آليات الرقابة والمساءلة: يجب إنشاء لجان مستقلة للتحقيق في الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي الإنساني، وضمان تقديم المسؤولين عن هذه الانتهاكات إلى العدالة.
ثانياً، تطوير معايير واضحة لاستخدام التكنولوجيا في النزاعات: ينبغي وضع معايير دولية صارمة لضمان أن أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الاستهداف تخضع لتدقيق بشري دقيق وتحقق شامل.
ثالثاً، تعزيز التدريب والتعليم للقوات العسكرية: يجب توفير تدريب مكثف للقوات المسلحة حول مبادئ القانون الدولي الإنساني وأهمية التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية.
رابعاً، زيادة الوعي الدولي والانخراط المجتمعي: يجب تعزيز الوعي الدولي بأهمية حماية المدنيين، وتشجيع المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية على مراقبة النزاعات والمساهمة في حماية حقوق الإنسان.
بالتالي، إن استعادة الثقة بالقانون الدولي تتطلب التزاماً جاداً من جميع الأطراف المعنية بتعزيز مبادئ القانون الدولي الإنساني وتطبيقها بشكل فعال، حيث يجب أن يكون الهدف الأساسي هو حماية المدنيين وضمان احترام حقوق الإنسان في جميع الأوقات، حتى في أحلك الظروف. فقط من خلال هذا الالتزام يمكننا الأمل في تحقيق العدالة والسلام الدائم.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.