في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم إلى التقدم والتطور وإدخال التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، ونتطلع كذلك إلى تحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040، وما تُمثِّله من أهمية في الالتحاق بركب التقدُّم الذي يمضي بسرعة السنوات الضوئية؛ نجد هناك من يدعو إلى تجمُّعات قبلية، وإلى مناقشة مسائل فقهية، في تناقض غريب في هذا المجتمع الذي لا يمكن – على ما يبدو – أن يتزحزح من مكانه رغم الجهود المبذولة لنقله من حالة إلى أخرى على مدى أكثر من 50 عامًا، ينحت فيه في التعليم بمستوياته، والتوعية والتشجيع والتحفيز وغيره من الممكنات التي هدفت إلى تغيير أفكاره إلى ما هو أفضل بشكل يتواكب مع المتغيرات والمستجدات التي يشهدها العالم، وفتح آفاق أوسع أمام أبنائه نحو التطلع للأفضل في عالم يموج بالتغيرات المتسارعة؛ الأمر الذي يبعث على الاستغراب والدهشة مما وصل إليه تقوقُعنا وتراجعنا إلى الخلف!
وعلى الرغم من المضي قدمًا في ترسيخ دولة المؤسسات والقانون والنهوض بالمفاهيم المدنية، فإننا ما زالنا – على ما يبدو – ندور في فلك القبيلة والتحزُّبات والفئويات التي تُبلِور الأفكار الرجعية في التعاطي مع الواقع، وترجع الأمور إلى المرجعيات التي تجاوزها الزمن، وتنظر إلى الأمور بمناظير بالية.
فالتغير في المجتمعات المحلية ما زال – على ما يبدو – يحتاج إلى عصا سحرية تُخرِجها من هذا الوحل الذي تعيشه للانطلاقة إلى عوالم التطوُّر والتقدُّم الذي نتطلع إلى أن نتواكب معه في هذا العالم، بل التغيير يحتاج إلى نفضات قوية تأخذها إلى المسلك الصحيح، وتُخرِجها من الأنفاق المظلمة التي تُعشِّش فيها القبليَّة والتحزُّبات الفئوية وغيرهما من الأمراض الاجتماعية المزمنة التي تحتاج إلى علاجات جَذرية تجعلنا في المسار الصحيح.
فالتحديات الاجتماعية، على ما يبدو، تقف عثرةً في وجه التطوُّر الذي ننشده، والرؤية التي نتطلَّع إليها، في عالمٍ لا يؤمن إلا بالتغيُّر، وإلا فسنظل “محلك سر”؛ فاليوم الدعوات إلى اجتماعات قبَلية لمناقشة موضوعات فقهية تمَّ البتُّ فيها قبل 1400 سنة أمرٌ لا يقبله العقل والمنطق، والجدال فيها أمر يعكس حالة من التخلُّف.
وتطويع الدولة لفكر رجعي من قبيلة أو عشيرة أمر مرفوض جملةً وتفصيلًا، فضلًا عن أن هذا الخروج عن طاعة ولي الأمر والدولة يُمثِّل نشازًا لا يمكن القبول به، ويُؤسِّس للمزيد من التحركات القبلية الممقوتة، ويفتح المجال للآخرين بإقامة تجمعات واجتماعات لمناقشة أمور بالية ومسائل لا تخضع للمناقشة في زمن العلم والتطوُّر، وسندور في فَلَك هذه الجوانب فقط؛ ولذلك نقي أنفسنا أن نبقى حبيسين لهذه الأمور من قبيلة إلى أخرى والعالم يمضي إلى التقدُّم بسرعة السنوات الضوئية نحو التطور.
من جانب آخر، فإن المساس بأمر الأمن أمر مرفوض من كافة أطياف المجتمع؛ فمثل هذه التدخلات في جوانب تمس الأمن واضطراب أحواله أمر لا يجب أن نسمح به، وعلينا أن نحترم القانون ليأخذ مجراه، فلا يمكن عند إلقاء القبض على فرد أو مواطن أن نُقِيم تجمعات نطالب فيها الدولة بفكِّه؛ فهذه السلوكيات تُؤسِّس للفوضى وتُشجِّع على التمرُّد والميليشيات وغيرها مما تعاني منه المجتمعات التي تأخذ فيها مثلُ هذه التجمُّعات وغيرها مساحات.
فالنظام يسري على الجميع، ويد الأمن تمتدُّ لكل من يتطاول على مكتسبات الأمن والسلم الاجتماعي، سواء كان فردًا أو جماعةً، مهما كان شأنها أو صغر صنعها؛ فالقانون يسري على الجميع بدون استثناء. وللقبائل أو الأهالي – إذا كانت لديهم المقدرة – أن يساعدوا أفراد قبيلتهم أو جماعتهم وفق القانون باتباع أساليب راقية، عن طريق تعيين هيئات من المحامين للدفاع عنهم، وليس بإقامة التجمعات والتجمهر بهدف إثارة المنغصات.
فالتغير يبدأ من الفرد والقبيلة والمجتمع، ويمتد إلى أوصال الدولة؛ فالتغير إذا لم يلامس الفرد في التطلع للأفضل، ويفتح آفاقًا أوسع لأحلامه وتطلعاته لتتجاوز القبلية والعشائرية، فلن تكون له مكانة في هذا العالم، وسوف يعيش أبدَ الدهر يتابع الشيخ والقبيلة، ويسير في هذه الدهاليز المظلمة؛ فالعالم اليوم ينطلق إلى فضاءات أوسع وأصبح قرية تطوف به بهاتف تُمسِكه بأصابع اليد.
فإذا لم نُغيِّر من منهجيتنا في التعاطي مع الواقع والأحداث، فلا يمكن أن نطلب من الحكومة أو الدولة أن تُحدِث تطويرًا، مصداقًا لقول الله تعالى: (إن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم) صدق الله العظيم.
بالطبع، نؤمن بالقبيلة كاسم إشارة ومُكوِّن اجتماعي توارثناه، ولكن لا يمكن أن نُقدِّس القبيلة ونتبعها في كل ما تراه، في ظل وجود الوطن الأكبر الذي يُرسِّخ كل مبادئ المشاركة والحوار، ويسوده العدل والإنصاف وسيادة القانون.
نأمل أن نتغيَّر لكي نتطوَّر ونسهم في تغيير أنفسنا قبل أن نطالب بالتغيير والتطوير؛ فالأساس في التغيير هو الفرد.. اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.
علي بن راشد المطاعني