يشكل النزاع المستمر في غزة انتهاكاً خطيراً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، خاصة فيما يتعلق بحماية المدنيين في النزاعات المسلحة، حيث يتعين على الأطراف المتحاربة الامتثال للقواعد القانونية التي تهدف إلى تجنب الخسائر في صفوف المدنيين وتقليلها قدر الإمكان، وبموجب البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، يجب على الأطراف المتحاربة اتخاذ “جميع الاحتياطات الممكنة” لتجنب أو تقليل الخسائر العرضية في أرواح المدنيين، وينص أيضاً على ضرورة إعطاء إنذار مسبق فعال للمدنيين قبل شن الهجمات التي قد تمسهم.
بالإضافة إلى ذلك، يحظر القانون الدولي التهجير القسري للمدنيين، وذلك وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث يعتبر التهجير القسري جريمة ضد الإنسانية إذا تم بشكل واسع النطاق ومنهجي، المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين، سواء داخل الأراضي المحتلة أو خارجها، ما لم يكن ذلك لدواعي أمنية حتمية أو لأسباب عسكرية قاهرة.
وفي سياق العمليات العسكرية الصهيونية في غزة، تثار تساؤلات جدية حول مدى التزام الكيان الصهيوني بهذه الالتزامات القانونية، إذ أن استخدام الأسلحة غير الموجهة، والتحذيرات التي تؤدي إلى إخلاء جماعي دون توفير بدائل آمنة، قد تشكل انتهاكاً لمبدأ الاحتياط وتحظر التهجير القسري، بالتالي، يتطلب الأمر تحقيقات مستقلة وشفافة لتحديد مدى الامتثال لهذه القواعد وضمان المساءلة عن أي انتهاكات محتملة.
وكعادته في استمرار النفاق، زعم الكيان الصهيوني أنه بذل جهوداً واسعة لتخفيف الضرر الذي يلحق بالمدنيين خلال عملياته العسكرية، وبموجب القانون الدولي العرفي، يتعين اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب الخسائر العرضية في أرواح المدنيين، أو التقليل منها على أقل تقدير، كما يشمل ذلك واجب إعطاء إنذار مسبق فعال واستخدام وسائل وأساليب الحرب التي تقلل من الخسائر في صفوف المدنيين، ومع ذلك، فإن العمليات العسكرية الصهيونية تكشف عن غياب الرعاية المطلوبة بموجب مبدأ الاحتياط، مما يمثل انتهاكاً لهذا المبدأ.
وكما اسلفنا، إن مبدأ الاحتياط في القانون الإنساني الدولي يفرض على الأطراف المتحاربة اتخاذ جميع التدابير الممكنة لتجنب أو تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، وهذا يشمل ليس فقط التحقق من الأهداف العسكرية بدقة، بل أيضاً استخدام الوسائل التي تقلل من الأضرار الجانبية، على الرغم من ادعاءات الكيان الصهيوني بأنه يعمل على تقليل الضرر، فإن الأدلة تشير إلى أن الجيش الصهيوني لم يخضع أهدافه لمزيد من التحقق بعد أن قام برنامج Lavender AI بتوليدها على نطاق واسع، متجاوزاً التقييم البسيط ما إذا كان الهدف ذكراً، هذا السلوك يظهر فشلاً في اتخاذ جميع التدابير الممكنة لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.
بالتالي، إن تطبيق مبدأ الاحتياط يشمل واجب التحذير المسبق للسكان المدنيين قبل شن الهجمات، واختيار الأسلحة والتكتيكات التي من شأنها أن تقلل من الأضرار الجانبية، على سبيل المثال، يمكن استخدام ذخائر دقيقة التوجيه أو اتخاذ تدابير لتحديد الأهداف بدقة قبل شن الهجوم، لكن في الحالة الصهيونية، عدم التحقق الدقيق من الأهداف بعد توليدها بواسطة برنامج ذكاء صناعي يظهر تقصيراً في الامتثال لمتطلبات القانون الدولي العرفي.
بالإضافة إلى ذلك، يفرض القانون الإنساني الدولي على الدول والأطراف المتحاربة واجباً إضافياً وهو التقييم المستمر لآثار العمليات العسكرية على السكان المدنيين واتخاذ تدابير تصحيحية عند الحاجة، أما إذا كانت هناك معلومات تشير إلى أن هدفاً معيناً قد يتسبب في خسائر مدنية غير متناسبة، يتعين وقف الهجوم أو تعديله، ومع ذلك، يبدو أن الجيش الصهيوني قد تجاهل هذه المعايير، مما يعزز الادعاءات بانتهاك مبدأ الاحتياط، بالتالي، يظهر فحص العمليات العسكرية الصهيونية تناقضاً بين الادعاءات باتخاذ الاحتياطات الواجبة والواقع الميداني الذي يعكس عدم الامتثال لمبدأ الاحتياط. إن هذا الفشل في اتخاذ جميع التدابير الممكنة لتقليل الخسائر المدنية يمثل انتهاكاً واضحاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، مما يتطلب مساءلة وتدقيقاً دوليين لضمان حماية المدنيين في النزاعات المسلحة.
ومن الأدلة التي تظهر أن الكيان الصهيوني لم يتخذ “جميع الاحتياطات الممكنة” لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين، تتعلق بأنواع الذخائر التي استخدمها جيشها في قصف غزة، ففي قضية مارتيتش، رأت الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن الأسلحة “غير الموجهة وعالية التشتت” تشكل سلاحاً عشوائياً إذا تم استخدامها في مناطق مدنية مكتظة بالسكان، مما يؤدي إلى وقوع إصابات خطيرة، وخلصت المحكمة إلى أن هذا يشكل دليلاً على هجوم متعمد ضد السكان المدنيين، وهو ما يكفي لإدانة المدعى عليه بانتهاك قوانين وأعراف الحرب. في قضية كاراديتش، اعتُبر القصف العشوائي والمطول لسراييفو، بما في ذلك الأعداد الكبيرة من القذائف التي سقطت على المدينة أثناء النزاع، استهدافاُ متعمداً وغير متناسب للمدنيين.
وبالمقارنة مع غزة، أشار مكتب مدير المخابرات الوطنية الأمريكية إلى أن حوالي 40 إلى 45 بالمائة من ذخائر جو-أرض الصهيونية غير موجهة، كما استخدم الكيان الصهيوني قنابل “غبية” تزن 2000 رطل، ويبلغ قطر شظاياها 1200 قدم، في حملة قصف لا مثيل لها من حيث الكثافة منذ حرب فيتنام، بالتالي إن استخدام الكيان الصهيوني لهذه القنابل غير الموجهة في واحدة من أكثر المناطق المدنية كثافة في العالم يمثل انتهاكاً للمبدأ القانوني الإنساني الدولي الذي يقضي بضرورة اتخاذ الدول “جميع الاحتياطات الممكنة” لتجنب الخسائر العرضية في أرواح المدنيين والتقليل منها بأي حال من الأحوال، بموجب القانون الإنساني الدولي، يجب على الجيش الصهيوني أيضاً أن يعطي “إنذاراً مسبقاً فعالاً” للمدنيين قبل بدء العمليات العسكرية التي قد تهددهم، ورغم أن الجيش الصهيوني أعطى، في أوقات مختلفة، تحذيرات للمدنيين في غزة بضرورة الإخلاء قبل الهجوم، إلا أنه شن مراراً وتكراراً غارات جوية على طرق الإخلاء المحددة والأشخاص الذين يفرون عبرها. على سبيل المثال، في أكتوبر 2023، أصدر الكيان الصهيوني توجيهات للمقيمين في شمال غزة بالفرار إلى جنوب وادي غزة “من أجل سلامتكم وسلامة عائلاتكم”، ومع ذلك شرع في قصف المنطقة الواقعة جنوب وادي غزة في اليوم التالي، كما قصف كيان الاحتلال مناطق سبق أن أعلنها “مناطق آمنة”.
بالتالي، يشير هذا النمط من تحذير المدنيين ثم قصف المناطق التي يغادرون إليها، إلى أن هذه التحذيرات لم تكن تهدف إلى حماية الأشخاص الفارين من الاستهداف والقتل، هذه التحذيرات المسبقة التي أطلقها كيان الاحتلال الصهيوني كانت غير فعالة في أحسن الأحوال، وفي أسوأها، أدت إلى تعريض المدنيين لأضرار جسيمة، حيث يبدو أن هذه الإجراءات لم تكن تهدف إلى حماية المدنيين بل ربما إلى زيادة الضغط النفسي عليهم أو تقليل قدرتهم على العثور على مأوى آمن، مما يعزز الحجة بأن الكيان الصهيوني لم يمتثل للالتزامات القانونية بموجب القانون الإنساني الدولي لحماية المدنيين وتجنب الخسائر العرضية في أرواحهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التحذيرات التي تؤدي إلى الإخلاء الجماعي يمكن أن تشكل انتهاكاً للحظر المفروض على التهجير القسري للمدنيين، والمحاكم الدولية قد رأت أن حث المدنيين على المغادرة عبر مثل هذه التدابير يشكل نزوحاً غير قانوني إذا لم يكن هناك بديل واقعي للمغادرة، وإذا اتخذت الدولة التدابير بقصد إجبار الناس على المغادرة، فقد شددت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية ستاكيتش على أن عمليات الطرد القسري تشمل عمليات الطرد التي تتم بسبب الخوف من العنف، أو الإكراه، أو الاحتجاز، أو الاضطهاد النفسي، أو إساءة استخدام السلطة، أو من خلال الاستفادة من البيئة القسرية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة التوطين التي تنشأ عن تحريض الدولة على حدوث أزمة إنسانية تشكل نزوحاً غير قانوني، وكما يتضح من الوقائع، فإن قيام الكيان الصهيوني بنقل أكثر من مليون شخص إلى الجنوب، واستمراره في إعادة التوطين أكثر فأكثر إلى أطراف الحدود الجنوبية لغزة، يشكل طرداً قسرياً، القانون الدولي الإنساني يحظر النقل القسري للسكان إلا إذا كان لأسباب تتعلق بسلامة المدنيين أو لأسباب عسكرية قهرية، لكن مع ذلك، يجب أن يتم هذا النقل في ظروف تضمن الأمان والكرامة للسكان النازحين، وتوفير المأوى والغذاء والرعاية الطبية، وفي حالة غزة، يتم إجبار المدنيين على الانتقال إلى مناطق قد تكون غير مجهزة لاستيعاب هذا العدد الكبير من النازحين، مما يؤدي إلى تدهور الظروف الإنسانية وزيادة معاناة السكان، بالتالي إن الكيان الصهيوني بتوجيهه التحذيرات التي تؤدي إلى إخلاء جماعي، وبنقله المستمر للمدنيين إلى مناطق ذات بنية تحتية ضعيفة أو غير كافية، يساهم في خلق أزمة إنسانية يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال التهجير القسري.
كما أن التقارير الدولية أظهرت أن الإخلاءات والتحذيرات المتكررة لم تكن مصحوبة بتوفير بدائل آمنة وواقعية للمدنيين، في هذا السياق، يمكن النظر إلى هذه التحذيرات على أنها تهدف إلى خلق حالة من الذعر والفوضى بين السكان المدنيين، مما يعزز الادعاءات بأن هذه الإجراءات تشكل جزءاً من استراتيجية أوسع للتهجير القسري، وبالإضافة إلى ذلك، فإن المجتمع الدولي يعترف بأن التهجير القسري جريمة ضد الإنسانية في بعض الظروف، إذ يشدد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن التهجير القسري للسكان يعتبر جريمة حرب عندما يتم بطريقة غير قانونية ومنهجية، من هذا المنطلق، قد يكون على الجهات الدولية والحقوقية النظر بجدية في الإجراءات التي يتخذها الكيان الصهيوني في هذا السياق، وتقييم مدى توافقه مع الالتزامات الدولية بموجب القانون الإنساني الدولي.
وفي ضوء ما سبق، يجب على المجتمع الدولي التحرك لضمان حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، ومنع أي انتهاكات قد ترتكب بحقهم بما في ذلك التهجير القسري، هذا يتطلب تحقيقات مستقلة وشفافة في الانتهاكات المحتملة، وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، كما يجب تعزيز الجهود الدولية لضمان تقديم المساعدات الإنسانية الفعالة للنازحين، وتوفير الظروف التي تضمن عودتهم الآمنة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن، لكن في حالة الكيان الصهيوني، من المستبعد أن يحدث ذلك.
وفي الختام، لا يمكننا إلا أن نشعر بالحزن والقلق إزاء الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعيشها المدنيون في غزة، إن القانون الدولي الإنساني وضع لحماية أرواح المدنيين وضمان احترام كرامتهم حتى في أحلك الظروف، ومع ذلك، نشهد انتهاكات متكررة لهذه المبادئ في النزاعات المستمرة، هنا من واجب المجتمع الدولي العمل بجدية لضمان الالتزام بهذه القوانين، وتقديم المساعدة اللازمة للمتضررين، ومحاسبة من يتسبب في هذه الانتهاكات.
إن الألم والمعاناة التي يمر بها المدنيون في غزة تستدعي منا جميعاً اتخاذ موقف حازم لتحقيق العدالة والسلام، كما يجب على جميع الأطراف المتحاربة احترام القانون الدولي الإنساني، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لحماية المدنيين، وضمان عدم تعرضهم للتهجير القسري أو الأذى، بالتالي إن استهداف المدنيين وعدم توفير الحماية الكافية لهم لا يعكس فقط انتهاكاً للقوانين الدولية، بل هو جريمة ضد الإنسانية يجب أن تتوقف.
ونحن، كمجتمع دولي، مطالبون بالتحرك الفوري لوقف هذه الانتهاكات، وتقديم الدعم اللازم للمتضررين، والعمل نحو تحقيق حل سلمي ومستدام يضمن أمن وكرامة جميع المدنيين في غزة، والأمل في العدالة والسلام يجب أن يظل حيًا، والأفعال يجب أن تتبع الأقوال لتحقيق مستقبل أفضل وأكثر أماناً للجميع.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.