في ظل الأوضاع الإنسانية الكارثية التي تعصف بقطاع غزة، يتجلى دور القانون الدولي الإنساني كأداة رئيسية لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية إليهم، تنص المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على أنه “يجب على كل طرف في النزاع أن يسمح بمرور الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية والملابس الضرورية المخصصة للأطفال دون الخامسة عشر والنساء الحوامل”، وتؤكد المادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف على أنه “يجب أن يتمتع المدنيون الذين يعانون من الحرمان في النزاعات المسلحة الدولية بحق تلقي المساعدة الإنسانية”.
في هذا السياق، أصدرت محكمة العدل الدولية أمرين مؤقتين يلزمان “إسرائيل” باتخاذ جميع التدابير اللازمة والفعالة لضمان توفير المساعدات الإنسانية الأساسية للفلسطينيين في غزة دون عوائق، وبالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة، تأتي هذه الأوامر استناداً إلى المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، التي تمنح المحكمة سلطة إصدار تدابير مؤقتة لحماية الحقوق المهددة في القضايا المعروضة أمامها، كما أن هذه الأوامر تجسد مبادئ القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان التي تضمن حق السكان المدنيين في الحياة الكريمة والأمان الغذائي والصحي.
وعلى الرغم من هذا الإطار القانوني الواضح، تستمر الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين في غزة، حيث يواجه أكثر من نصف السكان هناك مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، كما يعاني الأطفال والنساء بشكل خاص من آثار الحصار والعنف المستمر، وقد أشار تقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلى أن الأطفال في غزة يتعرضون لخطر المجاعة، في حين حذرت وكالات الإغاثة من أن الوضع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
بالتالي، إن التضامن مع غزة في هذه الظروف الصعبة ليس فقط واجباً أخلاقياً، بل هو أيضاً مطلب قانوني، إذ يجب على المجتمع الدولي أن يضطلع بمسؤولياته لضمان امتثال جميع الأطراف بالتزاماتها القانونية وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، كما تتطلب هذه الجهود تعاوناً دولياً فعالاً وإجراءات ملموسة لضمان فتح المعابر وزيادة تدفق المساعدات، إلى جانب الضغط على الكيان الصهيوني لوقف العمليات العسكرية التي تعرقل إيصال المساعدات الضرورية.
بالإضافة إلى ذلك، إن الأوضاع الحالية في غزة تستدعي تحركاً عاجلاً من قبل المجتمع الدولي لضمان احترام القانون الدولي الإنساني وحماية حقوق المدنيين، وإن استمرار العنف والحصار لا يؤديان إلا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية ويعرضان حياة الملايين للخطر، ومن هنا، يجب أن نتحد جميعاً في جهودنا لدعم الشعب الفلسطيني في غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل فوري ومستدام، والعمل على تحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة.
وبالنسبة للفشل في تسهيل الوصول إلى المساعدات الإنسانية وتقويضه بشكل فعال، زعم الكيان الصهيوني بأنه سهّل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ومع ذلك، بموجب القانون الدولي، “يجب على أطراف النزاع السماح وتسهيل مرور المساعدات الإنسانية بسرعة ودون عوائق للمدنيين المحتاجين، والتي تكون محايدة بطبيعتها ويتم إجراؤها دون أي تمييز ضار، مع مراعاة حقها في السيطرة”، إذا كانت المنظمة الإنسانية التي تقدم الإغاثة على أساس محايد وغير تمييزي لديها القدرة على إيصال المساعدات إلى السكان المدنيين المهددين بالمجاعة، فإن “الطرف ملزم بإعطاء موافقته”، وعلى أي حال، لا يمكنه رفض الموافقة “على أساس تعسفي”.
في 26 يناير/كانون الثاني 2024، أمرت محكمة العدل الدولية “إسرائيل” “باتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية المعاكسة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة”، ومع ذلك، على الرغم من توجيهات محكمة العدل الدولية، فقد تدهور الوضع الإنساني في غزة إلى حد أن المحكمة أصدرت أمراً مؤقتاً ثانياً في 28 مارس/آذار 2024 يشير إلى التزامات ملزمة أخرى للكيان الصهيوني.
وذكرت المحكمة أن “الفلسطينيين في غزة لم يعودوا يواجهون فقط خطر المجاعة، لكن المجاعة بدأت تلوح في الأفق”، وأن الفلسطينيين في غزة يعانون من “مستويات غير مسبوقة من انعدام الأمن الغذائي”، وأن “الوضع الإنساني الكارثي بالفعل قد تدهور إلى أبعد من ذلك”، بالإضافة إلى ذلك، أشارت المحكمة إلى أنه “لا يوجد بديل عن الطرق البرية ونقاط الدخول من “إسرائيل” إلى غزة لضمان التسليم الفعال والكفء”، وأن هناك “حاجة ملحة لزيادة قدرة وعدد نقاط العبور البرية المفتوحة إلى غزة وإبقائها مفتوحة لزيادة تدفق إيصال المساعدات.”
بالتالي، تظهر هذه الأحكام أن الوضع في غزة يتطلب تعاوناً دولياً فورياً وفعالاً لضمان تلبية احتياجات المدنيين وضمان تدفق المساعدات الإنسانية بشكل سلس وغير معرقل.
كما أصدرت محكمة العدل الدولية في أمر التدابير المؤقتة الثاني تعليماتها إلى “إسرائيل” باتخاذ جميع التدابير اللازمة والفعالة لضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية بشكل فوري وبدون عوائق، وبالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة، يشمل ذلك توفير الغذاء والماء والكهرباء والوقود والمأوى والملابس ومتطلبات النظافة والصرف الصحي، بالإضافة إلى الإمدادات الطبية والرعاية الصحية للفلسطينيين في غزة. أضافت المحكمة أن على إسرائيل زيادة قدرة وعدد نقاط العبور البرية وإبقائها مفتوحة طالما كان ذلك ضرورياً لضمان تدفق المساعدات.
كما أمرت محكمة العدل الدولية “إسرائيل” بضمان عدم قيام جيشها بارتكاب أعمال تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك منع تسليم المساعدة الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل، وتأتي هذه الالتزامات كجزء من واجبات الكيان الصهيوني بموجب المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فقد أكد القاضي سلام، رئيس محكمة العدل الدولية، في إعلان منفصل، أن هذه الأوامر لن تكون فعالة بالكامل إلا إذا امتثلت “إسرائيل” لوقف إطلاق النار الذي أمر به قرار مجلس الأمن رقم 2728 (2024)، والذي يهدف إلى تحقيق وقف إطلاق نار مستدام ودائم.
بالإضافة إلى ذلك، شدد القاضي يوسف على أن “الطريقة الفعالة الوحيدة” أمام “إسرائيل” للامتثال لاتفاقية الإبادة الجماعية هي تعليق عملياتها العسكرية للسماح بإيصال المساعدات، وأكد القضاة شيويه وبرانت وغوميز روبليدو وتيلادي في إعلان مشترك أن تعليق العمليات العسكرية يبدو ضرورياً لأي تنفيذ هادف للتدابير المؤقتة المشار إليها، وأشار القاضي تشارلزوورث إلى أن تعليق العمليات العسكرية هو السبيل الوحيد لضمان وصول الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية إلى السكان الفلسطينيين.
بالتالي، إن الكيان الصهيوني ينتهك واجباته بموجب القانون الإنساني الدولي وأوامر التدبير المؤقت الصادرة عن محكمة العدل الدولية لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث يواجه غالبية السكان في غزة خطر المجاعة، وبحلول يوليو 2024، من المتوقع أن يواجه أكثر من نصف السكان مستويات “كارثية” من انعدام الأمن الغذائي، وهو المستوى الأكثر خطورة حسب مقياس التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، كما أصدرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل بياناً أشارت فيه إلى أن “الأطفال في غزة يتضورون جوعاً حتى الموت”، وأن “غزو رفح سيأخذ الوضع الهش إلى نقطة الانهيار، ويعرض حياة الأطفال للخطر”. هناك حوالي 600,000 طفل معرضون لخطر المجاعة المباشر.
ورغم التهديد بالمجاعة، يواصل الكيان الصهيوني رفض وإعاقة دخول المساعدات إلى غزة بشكل تعسفي، ففي ديسمبر 2023، شنت القوات الصهيونية غارة جوية على معبر كرم أبو سالم، مما أدى إلى مقتل المدير المسؤول عن تنسيق دخول المساعدات. في الأسابيع التي تلت أمر الإجراءات المؤقتة الأول لمحكمة العدل الدولية، انخفض عدد الشاحنات التي تدخل غزة بمقدار الثلث، كما تسبب المتظاهرون “الإسرائيليون” في تأخير شديد في تسليم المساعدات من خلال عرقلة نقطة المسح في نيتسانا، التي تقوم بفحص شاحنات المساعدات المتجهة إلى غزة، أيضاً منع الكيان الصهيوني دخول الوقود والمولدات الاحتياطية إلى غزة، مما تسبب في انهيار نظام المياه والصرف الصحي والنظافة في غزة.
بالإضافة إلى ذلك، استهدف الجنود الصهاينة وقتلوا العديد من المدنيين الذين حاولوا الوصول إلى المساعدات التي وصلت إلى غزة. تم الإبلاغ عن ما لا يقل عن 14 حادثة “إطلاق نار وقصف واستهداف مجموعات متجمعة لتلقي الإمدادات المطلوبة بشكل عاجل من الشاحنات أو عمليات الإنزال الجوي بين منتصف يناير ونهاية فبراير 2024″، بما في ذلك “مذبحة” راح ضحيتها 112 شخصاً تجمعوا لجمع الدقيق في 29 فبراير 2024، وفي وقت مبكر من أكتوبر 2023، استهدفت الغارات الجوية الصهيونية المخابز التي تدعمها الأونروا.
بالتالي، يستمر الكيان الصهيوني في استهداف العاملين في المجال الإنساني عمداً، مما يمنع المساعدات من الوصول إلى غزة، وبعد خمسة أيام فقط من صدور أمر التدابير المؤقتة الثاني عن محكمة العدل الدولية، ضرب الجيش الصهيوني ثلاث سيارات تابعة للمطبخ المركزي العالمي (WCK) كما أسلفنا في مقال سابق، مما أسفر عن مقتل سبعة من عمال الإغاثة، حيث علق ذلك الهجوم التزامات الكيان الصهيوني بموجب القانون الإنساني الدولي لتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية، وكذلك التزاماته القانونية الناشئة عن أمر التدابير المؤقتة لضمان تقديم المساعدات دون عوائق والامتناع عن الأعمال العسكرية التي تمنع إيصال المساعدات الإنسانية.
من هنا، وفي ظل الوضع الإنساني المتدهور في غزة والانتهاكات المستمرة للقانون الدولي الإنساني، يتعين على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات قانونية حازمة لضمان الامتثال الكامل للالتزامات القانونية وتخفيف معاناة المدنيين، الحل الفوري للوضع الراهن يتطلب تنفيذ تدابير متعددة الجوانب، تركز على تطبيق القانون الدولي وتعزيز التعاون الدولي:
أولاً، يجب على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ممارسة ضغط دبلوماسي مكثف على الكيان الصهيوني لضمان التزامه الكاملة بأوامر محكمة العدل الدولية، كما ينبغي تفعيل جميع الآليات المتاحة داخل الأمم المتحدة، بما في ذلك مجلس الأمن والجمعية العامة، لاتخاذ قرارات ملزمة تلزم الكيان الصهيوني بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وفتح المعابر الحدودية.
ثانياً، يجب على المنظمات الإنسانية الدولية تعزيز وجودها في غزة وزيادة جهودها لتقديم المساعدات الضرورية، حيث ينبغي لهذه المنظمات أن تعمل بالتنسيق مع الهيئات الدولية لضمان وصول المساعدات بسرعة وكفاءة، مع التركيز على تأمين الموارد الحيوية مثل الغذاء والماء والرعاية الصحية.
ثالثاً، ينبغي تعزيز آليات الرصد والتوثيق الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في غزة، إذ يجب أن يكون هناك تحقيقات مستقلة وشفافة لتوثيق جميع الانتهاكات، مع تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة من خلال المحاكم الدولية أو الوطنية.
رابعاً، يجب على المجتمع الدولي النظر في فرض عقوبات محددة الهدف على الأفراد والكيانات التي تعرقل إيصال المساعدات الإنسانية أو تنتهك حقوق المدنيين، هذه العقوبات يجب أن تكون جزءاً من استراتيجية أوسع لضمان الامتثال للقانون الدولي وحماية حقوق الإنسان في غزة.
أخيراً، يتطلب حل الأزمة في غزة تحقيق وقف إطلاق نار شامل ودائم، مصحوباً بمفاوضات سياسية جدية تهدف إلى تحقيق سلام عادل ودائم، كما يجب أن تتضمن هذه المفاوضات جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك ممثلين عن الشعب الفلسطيني، لضمان تلبية احتياجاتهم وضمان حقوقهم.
بالتالي، إن الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان ليس خياراً بل ضرورة، من خلال تنفيذ هذه التدابير، يمكن للمجتمع الدولي أن يخفف من معاناة المدنيين في غزة ويضع الأسس لحل طويل الأمد يحترم كرامة وحقوق جميع سكان المنطقة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.