عِندما يكتُب التَّاريخ ما جرى ويجري من عدوان بربري صهيوني ضدَّ أشقَّاء عربٍ في غزَّة الصَّابرة الصَّامدة طوال تسعة أشْهُر، وهناك (22) دَولةً سياديَّة عربيَّة ومظلَّة نظام عربي وهمي أثبتَ أمام هذه التجربة أنَّه عاجزُ تمامًا عن نصرة الأشقَّاء في فلسطين. والحقيقة الأجْلَى والأدقُّ أنَّ هناك مَن يقف على صدارة هذا النِّظام العربي متخاذلًا يُحبط أيَّ إجراء جماعي قد يصدر من قِبل هذا النِّظام البائس الَّذي لا يملك إلَّا فلسفة الكلام طوال تسعة أشْهُر من العدوان، ولم يقُمْ بأيِّ إجراء عملي يرفع عن كاهل هؤلاء الأبرياء شيئًا من المأساة والمعاناة، بل لا يرغب ـ للأسف ـ هذا النِّظام العربي الَّذي يتولَّى مسؤوليَّة هذه الأُمَّة أن يُعبِّرَ عن ذاته وينتصرَ لِنَفْسِه من الذُّل والهَوان لِيعبِّرَ للشَّارع العربي والأُمَّة العربيَّة أنَّنا نقوم بالإجراءات التَّالية وذلك حسب الإمكانيَّة والمساحة المتاحة له سياسيًّا واقتصاديًّا على أقلِّ تقدير، وقد يعذر من الإجراء الدِّفاعي مع أنَّنا كتبنا منذُ أوَّل وهلةٍ للعدوان أنَّ كيان الاحتلال المُجرِم لا يردعه إلَّا جموع من الفدائيِّين يُطلَق لها العنان ويُفسح لها المجال، ولا تُحجَب عَنْها كرامتها وإرادتها بالدِّفاع عن قضيَّتها الأولى والأخيرة والمحوريَّة لتقدِّمَ نَفْسها فداءً لسُموِّ هذه القضيَّة وقداستها وشرعيَّتها الإنسانيَّة والدينيَّة والأخلاقيَّة، بل إنَّ كُلَّ الشعوب بالعالَم انتفضت في الشوارع والميادين. وللأسف هناك شعوب عربيَّة أرادت التعبير عن نَفْسها فوُضِعت خلْفَ القضبان؛ لأنَّها وقفتْ وقفةً سلميَّة داعمة ومناصِرة للقضيَّة الفلسطينيَّة، وقضيَّة الشَّرف والكرامة العربيَّة الَّتي تُداس يوميًّا بأقدام بني صهيون؛ ذلك الكيان الهزيل الَّذي يقف عاجزًا أمام ثلَّة من الأبطال المقاوِمِين في قِطاع صغير لا يتجاوز (265) كيلومترًا مربَّعًا. فأين الجيش الَّذي لا يُقهَر؟! والله إنَّه لأوهنُ من بيتِ العنكبوت لو انتفضت تلك الشعوب وقدَّمت نَفْسها فداءً للكرامةِ العربيَّة، وفداءً للإنسانيَّة الَّتي تُنتهك يوميًّا على أيدٍ غادرة جبانة لم تجدْ إلَّا جموع النَّازحين ومئات الآلاف من المهجَّرين الأبرياء العُزَّل المحاصَرين الَّذين لا يجدون قُوتَ يومِهم لتصبَّ عَلَيْهم وابلَ إجرامِها اليومي بالصواريخ والطَّائرات وقذائف المدفعيَّة تحصد الآلاف، ليصلَ العدد اليوم إلى (38) ألفَ شهيدٍ مسجَّلِين غير آلاف المفقودين الَّذين ما زالوا تحت الرُّكام، وما يناهز الـ(90) ألفَ مُصابٍ.. فأين الكرامة العربيَّة؟ وأين النَّخوة العربيَّة؟!
لا شكَّ مَن يتنازل عن كرامته ويصطفُّ مع الصهاينة، ويجتمع وينسِّق معهم لا يُرتجَى مِنْه أمَل في نُصرة الحقِّ والشَّرف والكرامة؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه. لكن أين البقيَّة الباقية من الدوَل العربيَّة الَّتي نُعوِّل عَلَيْها في تخفيفِ المعاناة عن الأشقَّاء في غزَّة الصَّابرة الصَّامدة؟ هل تلاشت كُلُّ الأوراق؟ لا، بل هناك أوراق يستطيع بقيَّة العرب والدوَل العربيَّة تشكيل موقف عربي لا يُشترط أن يكُونَ جماعيًّا، بل تكتُّل موَحَّد من دوَل عربيَّة لا يُمكِن أن يُعفيَها أيُّ عذرٍ عن مناصَرة الأشقَّاء في فلسطين. لذا فإنَّ المسؤوليَّة الإنسانيَّة والشرعيَّة تُحتِّم عَلَيْهم عدم الانتظار واستخدام لُغة الكلام، بل تشكيل موقف عربي من عدَّة دوَل عربيَّة داعمة للحقِّ الفلسطيني والتحرُّك دوليًّا بقدر ما يُمكِن لتخفيفِ المعاناة وإيصال المساعدات، واستخدام كُلِّ الأوراق الممكنة لنصرةِ الأشقَّاء والدِّفاع عن القضيَّة؛ لكَيْ ترفعَ عن نَفْسِها المسؤوليَّة المُلقاة على عاتقها إلى يوم الدِّين، فهل نجد تحرُّكًا عربيًّا يُمثِّل النَّخوة والكرامة من البقيَّة الباقية العربيَّة؟!
لم يَعُدْ هناك مجال للانفلات من العقوبة الإلهيَّة على أيِّ بلد عربي ظلَّ صامتًا أو مراقبًا للأوضاع منتظرًا القوى الدوليَّة وما يُسمَّى الشرعيَّة الدوليَّة بعد تسعة أشْهُر من العدوان الهمجي والعربدة الصهيونيَّة، الَّتي لم تُبقِ شجرًا ولا حجرًا ولا بَشرًا في هذا القِطاع الجغرافي الضيِّق، وتجاوزت كُلَّ الحدود الإنسانيَّة. فهناك مجاعة شديدة تُضاعف حجْمَ المعاناة والكارثة الإنسانيَّة في قِطاع غزَّة؛ ولم تستثنِ شيئًا حتَّى مدينة رفح المأهولة طالَتْها يَدُ الإجرام الصهيوني أمام أعْيُن العالَم. فهل يستجيب البقيَّة الباقية من العرب في تشكيل موقفٍ موَحَّد لا نريدُه جماعيًّا على الإطلاق؛ لأنَّ هذه المفردة ظلَّت جامدةً طوال (5) عقود، بل نريدُه موقفًا وتكتُّلًا عربيًّا من الدوَل الدَّاعمة يحمل الكرامة والإنسانيَّة للإيفاء بالمسؤوليَّة الأخلاقيَّة تجاه الأشقَّاء في فلسطين، فإن لم يتمَّ اغتنام هذه اللحظة التاريخيَّة للقيامِ بالجهدِ والإجراء الممكن عربيًّا لرفعِ العتَب فإنَّ الجميع سواء! والتاريخ سيضع السَّواد على هذه الصفحات من التاريخ العربي، والله ـ جلَّ وعلَا ـ سوف يسأل الجميع عن ماذا قدَّموا للأبرياء في غزَّة يوم الحساب؟ ولا حَوْلَ ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
خميس بن عبيد القطيطي