تتطلب الجرائم الدولية المتعلقة بالإبادة الجماعية والتحريض عليها اهتماماً خاصاً من المجتمع الدولي نظراً لخطورتها البالغة وتأثيرها العميق على الإنسانية، حيث يتعين على الدول أن تلتزم بالمعايير القانونية الدولية التي تحظر مثل هذه الأفعال، بموجب العديد من الصكوك القانونية الدولية التي تكرس حقوق الإنسان وتدعو إلى حمايتها، واحدة من أبرز هذه الصكوك هي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، التي تُلزم الدول بمنع ومعاقبة الأعمال التي تستهدف تدمير جماعات قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية.
في هذا السياق، تسلط الأدلة المتاحة الضوء على سلسلة من التصريحات والخطابات الصادرة عن كبار المسؤولين الصهاينة، والتي تحمل في طياتها دعوات صريحة للعنف ضد الفلسطينيين، هذه التصريحات ليست مجرد تعبير عن الرأي السياسي، بل تمثل، وفقاً للمادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تحريضاً مباشراً على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، تنص المادة 25 على مسؤولية الأفراد الذين يحرضون على ارتكاب الجرائم الدولية ويشاركون فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
إضافة إلى ذلك، تشير المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى أن أي فعل يتم ارتكابه بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، كلياً أو جزئياً، يُعد جريمة إبادة جماعية، وهذا يشمل الأفعال التي تهدف إلى التسبب في أذى جسدي أو نفسي جسيم لأفراد الجماعة، وكذلك فرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرها بشكل جزئي أو كلي.
كما أن التحريض على الإبادة الجماعية، كما يظهر من خطابات وتصريحات القادة الصهاينة، يُعد انتهاكاً صارخاً لهذه المعايير القانونية، وتُظهر هذه التصريحات نمطاً مقلقاً من الخطاب الذي يسعى إلى شرعنة العنف والتحريض ضد الفلسطينيين، ما يخلق بيئة خصبة لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، بناءً على ذلك، يتوجب على المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات صارمة وفورية لمحاسبة المسؤولين عن هذه التصريحات ومنع استمرار هذه الجرائم، بما يتوافق مع الالتزامات الدولية بحماية حقوق الإنسان ومنع الجرائم ضد الإنسانية.
كما يُظهر تطبيق الوقائع أن اعتداء الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في غزة يشكل انتهاكاً للمادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي تحظر الأفعال التي ترتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية.
أما عند تحليل الأفعال المرتكبة، يمكن القول بأن الكيان الصهيوني ارتكب عملاً من أعمال التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، في انتهاك للمادة الثالثة (ج) من اتفاقية الإبادة الجماعية، هذه المادة تنص على تجريم التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، ويعتبر خطاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتاريخ 28 أكتوبر 2023 دليلاً واضحاً على هذا التحريض، ففي هذا الخطاب، أشار نتنياهو إلى النصوص الدينية قائلاً: “يجب أن تتذكر ما فعله بك عماليق، كما يقول كتابنا المقدس (التوراة) ونحن نتذكر.” وهذه العبارة تحمل في طياتها دعوة واضحة للعنف والإبادة.
وفي تأكيد على هذا التحريض، أعاد مكتب رئيس الوزراء نشر هذه العبارة في منشور بتاريخ 3 نوفمبر 2023، مما يعزز من دلالة التحريض المباشر والعلني، هذا المقطع الكتابي الذي أشار إليه نتنياهو ينص على: “الآن اذهب، هاجم عماليق، وحرم كل ما له، لا تعفوا عن أحد، بل اقتلوا الرجال والنساء على حد سواء، الأطفال والرضع، الثيران والأغنام، الجمال والحمير.” هذه الدعوة الواضحة لإبادة كاملة وشاملة لجماعة معينة تعزز من الاتهامات بارتكاب التحريض على الإبادة الجماعية.
إضافة إلى ذلك، فإن الأفعال المادية التي ترتكبها القوات الصهيونية في غزة، والتي تشمل الهجمات العشوائية على المناطق المدنية، وتدمير البنية التحتية الحيوية، وقتل المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال، كلها تشكل أدلة دامغة على نية الإبادة الجماعية، هذه الأفعال ليست مجرد تجاوزات أو أخطاء عسكرية، بل هي جزء من سياسة ممنهجة تستهدف تدمير مجتمع بأكمله أو جزء كبير منه، وتستند هذه الاتهامات إلى سوابق قانونية في المحاكم الدولية، حيث أن التحريض العلني والمباشر على الإبادة الجماعية يُعتبر من أخطر الجرائم الدولية، بالإضافة إلى ذلك، إن المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، قد تناولت مثل هذه القضايا وأصدرت أحكاماً تعتبر التحريض المباشر على الإبادة الجماعية جريمة تستوجب العقاب الشديد.
وبناءً على ما تقدم، يمكن القول بأن أفعال الكيان الصهيوني في غزة تتضمن عناصر واضحة لجريمة الإبادة الجماعية، سواء من خلال التحريض العلني والمباشر أو من خلال الأفعال المادية التي ترتكبها قواتها على الأرض، وتستدعي هذه الوقائع تدخل المجتمع الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة المسؤولين ومنع استمرار هذه الجرائم.
وفي قضية ناهيمانا على سبيل المثال، رأت دائرة الاستئناف أن التشجيع على قتل التوتسي حتى يختفي سكانهم عبر الأجيال يشكل تحريضًا على الإبادة الجماعية، وبالمثل، فإن مقارنة العدو بعماليق، وفي ضوء السياق الذي توفره الفقرة الكتابية ذات الصلة – وخاصة الدعوة لقتل الأطفال – يُفسر كتحريض على الإبادة الجماعية، في خطاب ألقاه رئيس الوزراء نتنياهو، دعا بشكل غير مباشر إلى تدمير الفلسطينيين كمجموعة، مستنداً إلى النصوص الدينية التي تدعو للإبادة الكاملة، إن رئيس الوزراء، الذي تُنسب تصريحاته إلى ما تسمى “دولة إسرائيل”، قد حرض علانية ومباشرة على الإبادة الجماعية.
بالإضافة إلى ذلك، في تصريح آخر، قال الرئيس هرتسوغ في مؤتمر صحفي: “إنها أمة بأكملها هي المسؤولة، ليس صحيحاً هذا الخطاب عن المدنيين الذين لا يعرفون، هذا ليس صحيحاً على الإطلاق… سنقاتل حتى نكسر عمودهم الفقري”، بالتالي إن هذه التصريحات تذكرنا بحكم دائرة المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضية أكايسو، حيث وُجد أن المدعى عليه “حث السكان على الاتحاد من أجل القضاء على العدو الوحيد” – وهو مجموعة التوتسي العرقية بأكملها – وبالتالي كان مذنباً بالتحريض على الإبادة الجماعية، أما في قضية ناهيمانا، اعتبرت التصريحات التنبؤية التي تستخدم كلمة “إرادة” بمثابة دعوة ضمنية للعمل، وبالمثل، فإن تحميل الأمة الفلسطينية بأكملها مسؤولية هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، متبوعاً بإعلان أن الدولة “ستكسر عمودها الفقري”، يشكل تحريضاً على الإبادة الجماعية.
بالتالي، يتضح من هذه الوقائع أن تصريحات القيادة الصهيونية تتجاوز مجرد الرد السياسي أو العسكري على الهجمات، لتصل إلى مستوى التحريض المباشر على العنف والإبادة، هذه التصريحات، التي تُنسب إلى ما تسمى “إسرائيل” وتأتي من أعلى مستويات القيادة، تسعى لتبرير واستمرار سياسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، إضافة إلى ذلك، فإن الأفعال المادية التي ترتكبها القوات الصهيونية في غزة، والتي تشمل الهجمات العشوائية على المناطق المدنية وتدمير البنية التحتية الحيوية، تعزز من هذه الاتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية.
وهناك دليل قوي على أن مستمعي هذه الخطب فهموا المغزى على الفور، ففي 7 ديسمبر 2023، ظهر مقطع فيديو يظهر جنوداً صهاينة في الخدمة الفعلية وهم يرددون عبارات تشمل: “أنا متمسك بواحدة [أمر إلهي]، لأمحو نسل عماليق”، مما يدل على دعوتهم المباشرة لقتل الفلسطينيين وأبنائهم، مستندين إلى المرجع التوراتي الذي استخدمه رئيس الوزراء نتنياهو، كما هتف الجنود بعبارات مثل: “تركت منزلي خلفي، ولن أعود إلا بعد النصر. نحن نعرف شعارنا: لا يوجد مدنيون غير متورطين”، بالتالي يشير هذا الشعار، المدعوم بتصريحات الرئيس هرتسوغ التي تبرر غياب “المدنيين غير المتورطين”، إلى نية واضحة لممارسة العنف ضد مجموعة عرقية بأكملها دون التمييز بين المقاتلين والمدنيين، مما يعد تحريضاً على الإبادة الجماعية.
وفي 30 يناير 2024، ظهر مقطع فيديو آخر يظهر فيه الجندي الصهيوني تشاي بن حمو في أنقاض خان يونس، حيث قال: “لقد دمرنا منطقة شاسعة، وقتلنا الآلاف من [العمالقة]… والباقي سيتحقق عندما نفهم أخلاقيا أن كل عربي هو كيان مشبوه… أن تكون أخلاقياً يعني احتلال جميع أجزاء أرض “إسرائيل” وتسويتها بالأرض.” كما هو الحال مع مقطع الفيديو السابق، تشير الإشارة إلى عماليق إلى وجود شكوك تجاه مجموعة عرقية بأكملها والدعوة إلى التدمير العسكري، مما يدل على نية الإبادة الجماعية، هذا الخطاب، الذي يتبناه الجنود والقادة على حد سواء، يعزز من الأدلة على التحريض العلني والمباشر على الإبادة الجماعية. تشير هذه الأدلة إلى أن القيادة الصهيونية، من خلال تصريحاتها وأفعالها، تسعى لتبرير واستمرار سياسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، ووفقاً للقانون الدولي، يعتبر التحريض على الإبادة الجماعية جريمة خطيرة، تستوجب المحاسبة الشديدة.
وفي ضوء هذه الأدلة، يمكن القول بأن أفعال وتصريحات القيادة الإسرائيلية تشكل جريمة الإبادة الجماعية، سواء من خلال التحريض العلني والمباشر أو من خلال الأفعال المادية التي تنفذها القوات على الأرض، ومن الضروري أن يقوم المجتمع الدولي باتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة المسؤولين ومنع استمرار هذه الجرائم، وفقاً لما تمليه القوانين والمعاهدات الدولية.
بالإضافة إلى ذلك، انتشرت الإشارات إلى عماليق بشكل واسع في المجتمع الصهيوني، ففي يناير وفبراير 2024، ظهرت صور على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل عبارات مثل “امحوا ذكرى عماليق لا تنسوا” و”امحوا ذكرى عماليق لن تنسوا”، وعُرضت هذه العبارات على جوانب الحافلات وسيارات الأجرة في مدن مثل حيفا وتل أبيب، كما أن “حربو دربو”، نشيد حرب الهيب هوب، تصدّر المخططات داخل ذلك المجتمع المحتل بأكثر من 21 مليون مشاهدة على يوتيوب، ويصف أولئك الذين يصرخون “فلسطين حرة” بأنهم “أبناء عماليق”.
تشير مقاطع الفيديو والصور إلى أن التصريحات التي أدلى بها القادة الصهاينة ساهمت في خلق “الحالة الذهنية اللازمة لارتكاب مثل هذه الجريمة في أذهان الشخص (الأشخاص) الذي يتورط فيه”. إن الكيان الصهيوني من خلال خطابات قادتها، قد ارتكبت فعل التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، في انتهاك للمادة الثالثة (ج) من اتفاقية الإبادة الجماعية. هذه التصريحات لم تكن مجرد تعبيرات عن الرأي السياسي أو العسكري، بل كانت تحريضاً واضحاً على العنف ضد مجموعة عرقية محددة، ما يثير مخاوف جدية بشأن النية لتدمير الفلسطينيين كجماعة.
بالتالي، تظهر هذه الأدلة أن التحريض على الإبادة الجماعية ليس فعلاً فردياً أو حادثاً معزولاً، بل هو جزء من خطاب عام يهدف إلى تحفيز العنف ضد الفلسطينيين، وتشير الأدلة إلى أن هذا التحريض قد تم تلقيه وتنفيذه من قبل الجنود والمواطنين على حد سواء، مما يشير إلى تأثير واسع النطاق وخطير لهذا الخطاب.
وفي ضوء هذه الوقائع المؤلمة، تؤكد الأمة العربية والإسلامية وقوفها التام مع غزة ومع الشعب الفلسطيني في وجه العدوان والانتهاكات المستمرة، إن التضامن العربي والإسلامي مع غزة ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو تجسيد للالتزام بالعدالة والحق في مواجهة الظلم والقمع، وإن المشاهد التي تتوالى من غزة، والتي تظهر معاناة المدنيين الأبرياء وتدمير المنازل والبنية التحتية، تدعو إلى تحرك عاجل وفعال لوقف هذه المجازر، من هذا المنطلق، نناشد المجتمع الدولي بكافة مؤسساته ومنظماته الحقوقية إلى تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، يجب على الدول الكبرى والأمم المتحدة التدخل الفوري لوقف هذه الاعتداءات الوحشية، وضمان حماية المدنيين، وتقديم المسؤولين عن هذه الجرائم إلى العدالة، إن استمرار الصمت الدولي يعكس تواطؤاً غير مقبول، ويزيد من معاناة الشعب الفلسطيني.
لقد آن الأوان للمجتمع الدولي أن يتحرك بجدية لفرض قرارات الشرعية الدولية وحماية حقوق الإنسان، إن حماية الأبرياء ووقف الإبادة الجماعية هي مسؤولية جماعية لا يمكن التهرب منها، الشعب الفلسطيني في غزة يستحق العيش بكرامة وأمان، بعيداً عن العنف والاضطهاد. لذا، ندعو إلى تضامن عالمي واسع ومؤثر للضغط على المعتدين ووقف هذه الجرائم فوراً، لنحقق العدالة والسلام المنشودة في هذه المنطقة المنكوبة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.