في إطار القانون الدولي، تعد حماية حقوق الإنسان والحفاظ على السلم والأمن الدوليين من الأهداف الأساسية للمجتمع الدولي، إذ تتضمن هذه الأهداف مكافحة التحريض على العنف والقتل العمد وحماية حق المدنيين في العيش بكرامة وأمان، وتنص المواد القانونية الدولية على حظر التحريض على الكراهية والعنف، وتؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها، كما تعد هذه المبادئ أساسية لضمان احترام حقوق الإنسان وتجنب النزاعات المسلحة.
وفيما يلي، سنستعرض بعض المواد القانونية الدولية ذات الصلة ونعمل على مطابقتها مع الأحداث الأخيرة في غزة.
تتضمن المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حظر أي دعاية للحرب وأي دعوة للكراهية القومية أو العرقية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف، هذا الحظر يشمل كافة أنواع الخطاب العام الذي يدعو إلى العنف ضد مجموعات معينة من الناس، وفي هذا السياق، التصريحات الأخيرة لبعض الشخصيات العامة “صهيونية”، والتي تدعو إلى العنف ضد سكان غزة، تعتبر انتهاكاً صارخاً لهذه المادة.
بالإضافة إلى ذلك، يحظر القانون الدولي الإنساني القتل العمد للمدنيين، إذ تنص المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف على ضرورة حماية الأشخاص الذين لا يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائية، بما في ذلك المدنيين، وتجنب تعريضهم للقتل أو التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، كما يتعين على الدول الأطراف في النزاعات المسلحة اتخاذ جميع التدابير الممكنة لحماية المدنيين وتجنب استهدافهم، بالتالي التصريحات التي تدعو إلى العنف ضد سكان غزة تتعارض مع هذا المبدأ الأساسي من القانون الدولي الإنساني.
وجدير بالذكر أن حق تقرير المصير هو حق معترف به عالمياً بموجب المادة 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ينص هذا الحق على أن جميع الشعوب لها الحق في تقرير مصيرها بحرية، بما في ذلك الحق في تحديد وضعها السياسي والسعي لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالتالي يُعد سكان غزة جزءاً من الشعب الفلسطيني الذي يسعى منذ عقود للحصول على الاعتراف بحقوقه المشروعة، بما في ذلك حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وإن التصريحات التي تحرض على العنف ضد سكان غزة تتعارض مع هذا الحق الأساسي وتزيد من تعقيد الأوضاع الإنسانية والسياسية في المنطقة.
من هنا، وفي ظل هذه المواد القانونية الدولية، يتعين على المجتمع الدولي أن يضمن مساءلة الأفراد الذين يحرضون على العنف والقتل العمد، وأن يعمل على حماية حق المدنيين في غزة للعيش بكرامة وأمان، كما من الضروري أن تتخذ السلطات الصهيونية خطوات جادة للتحقيق في التصريحات التحريضية واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة ضد من يروجون للكراهية والعنف، بالتالي يجب أن يكون الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان وتعزيز السلام في المنطقة.
وفي صلب الموضوع الرئيسي حول التحريض واستكمالاً لمقال الامس، في برنامج “12 إسرائيل اليوم”، أدلى شليزنجر بتصريحات مثيرة للجدل حول الوضع في غزة، حيث قال إن “أولئك الناس هناك [في غزة] يستحقون الموت، موتاً قاسياً، موتاً مؤلماً، لا يوجد أشخاص أبرياء هناك، إنهم يستمتعون الآن على الشاطئ، بدلًا من الجوع، بدلاً من العذاب الشديد، بدلاً من الاختباء من القصف، كان ينبغي لنا أن نرى هناك المزيد من الانتقام، والمزيد من أنهار دماء الغزيين”، هذه التصريحات تأتي في سياق التوترات المستمرة بين الكيان الصهيوني وقطاع غزة، والتي تتسم بالعنف المتبادل والهجمات المتكررة.
وفي سياق متصل، دعا الصحفي والمذيع الإذاعي “الإسرائيلي” البارز ديفيد مزراحي فيرثايم إلى تحويل غزة “إلى مسلخ”، فيرثايم، الذي لا يزال نشطاً في الكتابة والظهور على الراديو والتعليق على وسائل التواصل الاجتماعي حتى أبريل/نيسان، قد دافع عن منشوره الأصلي بشكل علني، مما أثار جدلاً واسعاً حول حدود حرية التعبير والتحريض على العنف.
إضافة إلى ذلك، قام هاليل بيتون روزين، وهو صحفي في محطة “الأخبار الإسرائيلية” القناة 14، بنشر تغريدة بالعبرية تقول: “كما هو مكتوب – ‘محو ذكرى عماليق’، في إشارة إلى الوصية الكتابية بإبادة عماليق”، هذه العبارة تستخدم بانتظام كصرخة حاشدة في الهجوم الصهيوني على غزة، مما يزيد من التوترات ويعزز من دعوات الانتقام والعنف، رغم الجدل الذي أثارته تصريحاته، لا يزال بيتون روزين يظهر في بث القناة 14 اعتباراً من 24 أبريل 2024.
بالتالي، تأتي هذه التصريحات في ظل تصاعد العنف والتوترات في المنطقة، حيث يواصل الكيان الصهيوني حتى اللحظة شن عمليات عسكرية ضد غزة بحجة الدفاع عن النفس وردع الهجمات الصاروخية التي تطلقها الفصائل الفلسطينية، وفي المقابل، يعاني سكان غزة من أوضاع إنسانية كارثية نتيجة للحصار الإسرائيلي المستمر ونقص الإمدادات الأساسية.
من الناحية القانونية، تثير هذه التصريحات تساؤلات حول حدود حرية التعبير والتحريض على الكراهية والعنف، فبينما تكفل القوانين الدولية حرية التعبير كحق أساسي، إلا أنها تضع قيوداً صارمة على الخطاب الذي يحرض على العنف أو الكراهية ضد مجموعات معينة، ووفقاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، يمكن اعتبار التصريحات التي تدعو إلى العنف ضد مجموعة معينة من الناس انتهاكاً خطيراً يتطلب المساءلة والمحاسبة.
وفي هذا السياق، قد يكون من الضروري مراجعة الإطار القانوني الصهيوني المتعلق بخطاب الكراهية والتحريض على العنف لضمان عدم استغلال حرية التعبير في تعزيز العنف والكراهية، كما يمكن أن تتضمن هذه المراجعة تعزيز التدابير القانونية لمحاسبة الأفراد الذين يستخدمون منابرهم الإعلامية للدعوة إلى العنف، وضمان أن تكون هناك عواقب قانونية واضحة لمن يتجاوزون حدود الخطاب المسؤول.
وتجدر الإشارة إلى أن المجتمع الدولي يدعو إلى تهدئة الأوضاع والبحث عن حلول سلمية للنزاع الصهيوني الفلسطيني، وقد أكد مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة مراراً على ضرورة الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين في جميع الظروف، لذلك، ينبغي على جميع الأطراف المعنية التحلي بضبط النفس والعمل نحو تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة.
وفي أواخر ديسمبر 2023، تقدمت مجموعة من المحامين الصهاينة برسالة إلى السلطات القضائية في البلاد، زاعمة أن المدعي العام والمدعين العامين يتجاهلون التحريض على الإبادة الجماعية في المجتمع “الإسرائيلي”، وذكر المحامون في رسالتهم أن الدعوات الصريحة لارتكاب جرائم فظيعة ضد ملايين المدنيين أصبحت جزءاً مشروعاً ومنتظماً من الخطاب “الإسرائيلي”، مما يشير إلى تحول خطير في كيفية التعامل مع مثل هذه الدعوات.
وفي 9 يناير 2024، أصدر مكتب المدعي العام “الإسرائيلي” بياناً أعلن فيه عن إمكانية دراسة حالات التحريض المحتمل على إيذاء المدنيين، ورغم هذا الإعلان، ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في أواخر فبراير أن مكتب النائب العام لم يصدر أي تحديثات حول التقدم المحرز في ملاحقة التحريض قضائياً، وأشارت الصحيفة إلى أن “التحقيقات” المعلنة ليست تحقيقات كاملة بل هي إجراءات أولية لتقييم ما إذا كان التحقيق ضرورياً.
في هذا السياق، أبدت لجنة الحقوقيين الدولية قلقها في رسالة تتعلق بامتثال “إسرائيل” للتدابير المؤقتة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية، وأشارت اللجنة إلى أن “إسرائيل” فشلت حتى الآن في بدء تحقيقات جنائية كاملة في مزاعم التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية، مما يثير تساؤلات حول التزامها بالمعايير الدولية.
أما في 8 أبريل 2024، قدم “عدالة”، المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في “إسرائيل”، رسالة إلى المدعي العام “الإسرائيلي” والنائب العام ومفوض الشرطة ووزير العدل، مطالباً بإجراء تحقيق فوري في حوادث التحريض على الإبادة الجماعية التي ارتكبها مختلف الشخصيات العامة منذ 7 أكتوبر 2023، وأعرب عن استنكاره لعدم إجراء أي تحقيق رسمي في هذه الحوادث حتى الآن، مما يعكس تقاعساً واضحاً في التعامل مع هذه القضايا الخطيرة.
ومن الناحية القانونية، فإن التحريض على الإبادة الجماعية يعتبر جريمة خطيرة بموجب القانون الدولي، ويستلزم اتخاذ إجراءات صارمة لضمان المحاسبة ومنع تكرار مثل هذه الدعوات. تتطلب الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من الدول الأعضاء اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية.
وفي ضوء هذه التطورات، يتعين على السلطات الصهيونية تكثيف جهودها في التحقيق في مزاعم التحريض على الإبادة الجماعية وضمان تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، كما يجب أن تتضمن هذه الجهود تعزيز الإطار القانوني الذي يجرم التحريض على العنف والكراهية، وضمان تطبيق القوانين بحزم على جميع الأفراد بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو السياسية.
كما من الضروري أيضاً أن تعمل السلطات على توعية الجمهور حول مخاطر وخطورة التحريض على العنف والإبادة الجماعية، وتشجيع الحوار السلمي والاحترام المتبادل بين جميع فئات المجتمع، وكذلك تعزيز الوعي القانوني والالتزام بالقيم الإنسانية يمكن أن يساهم في الحد من التصعيد والتحريض، ويدعم جهود تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
بالتالي، ينبغي على المجتمع الدولي مراقبة الوضع في “إسرائيل” عن كثب وضمان التزامها بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، كما يمكن أن تلعب المنظمات الدولية والمحاكم دوراً حاسماً في محاسبة الأفراد المتورطين في التحريض على الإبادة الجماعية، وضمان تحقيق العدالة للضحايا ومنع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.
من هنا، إن عدم مواجهة أي من الأفراد المذكورين أعلاه لعواقب قانونية على تحريضهم حتى تاريخ هذه الصياغة يشير بوضوح إلى أن الكيان الصهيوني لم يلتزم بالتزاماته بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وكذلك التدابير المؤقتة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية لمنع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، بالتالي يعكس هذا الوضع تهاونًا في تطبيق القوانين الدولية المتعلقة بمكافحة التحريض على العنف والكراهية، مما يثير القلق حول جدية الكيان الصهيوني في الالتزام بالمعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان ومنع الجرائم ضد الإنسانية.
وفي ختام هذا المقال حول الانتهاكات القانونية والدعوات التحريضية ضد سكان غزة، يتضح بجلاء أن الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان يمثل ضرورة ملحة لتحقيق السلام والاستقرار، وإن حماية المدنيين ومنع التحريض على العنف والقتل العمد، إضافة إلى الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، هي مبادئ أساسية يجب أن تلتزم بها جميع الدول والأطراف المعنية، وفي هذا السياق، نوجه رسالة تضامن ودعم إلى شعب غزة، ونقول لهم: نحن نقف معكم في نضالكم المشروع من أجل حقوقكم الأساسية وحقكم في العيش بكرامة وسلام، وإن المجتمع الدولي مطالب باتخاذ خطوات جادة وملموسة لحماية حقوقكم والضغط على الجهات المعنية لوقف التصريحات التحريضية والعنف ضدكم، ولن يتحقق السلام إلا عندما تُحترم حقوق الإنسان وتُضمن العدالة لجميع الشعوب.
نحن نتضامن معكم، وندعو جميع الأطراف إلى الحوار البناء والعمل على إيجاد حلول سلمية وعادلة تحقق الأمن والاستقرار لجميع سكان المنطقة، فلن يتحقق المستقبل الذي نسعى إليه إلا من خلال احترام القانون الدولي وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.