الحوار/ نيوز
تنازُلات تكتيكيّة اليوم ،بين الدول المجاورة المذكورة ،من اجل تفاهمات استراتيجية للغد . تفاهمات حُبلى بأهداف سياسية واقتصادية و امنية موعودة وجادة . وقبل ان تُتّوج هذه التفاهمات باتفاقيات مشتركة ، استشعرَ بأهميتها وبعدها الاستراتيجي ، الكُرد في سوريّة والعراق . و زيارة السيد مسعود برزاني إلى بغداد جاءت في الوقت المناسب ،في ظل تحركّات وتفاهمات سياسية وأمنية وعسكرية تركية عراقية سوريّة .
الراعي لما يجري بين الدول المذكورة هما إيران و روسيا ولا ثالث لهما . و المتربص لما يجري و المتخوّف من نتائج مما يجري، إمريكا وحلفاؤها ( اسرائيل و اوربا والناتو ) .
بين الدول الثلاث ( العراق ،سوريّة ،تركيا ) مصالح مشتركة ومشاكل مشتركة ،ولكن يفرقهما ارتباطهما الدولي . تركيا عضو مهم في الناتو وحليف مشاكس لأمريكا ، وسوريّة في الاتجاه المُعاكس ،والعراق ما بَينَ بَينْ .
والعراق ، الذي هو ” مابَين بين ” و بوسطيته ، أصبحَ مفصلاً ونقطة ارتكاز لهذه التفاهمات المشتركة ، همّهُ ان ينعم و تنعم المنطقة ،او على الاقل دول جواره بالامن والاستقرار . لم يعدْ العراق دولة تُبشر بالحروب ،وانما دولة تحول دون الحروب ، ولم يكْ العراق دولة تمارس “تجارة وسمسرة الحروب ” . دور العراق في أمن واستقرار المنطقة يُزعج ارباب و تجّار الحروب ،وفي مقدمتهم امريكا واسرائيل .
العراق مؤهل ،و اكثر من غيره ولعدة اسباب ، في امن واستقرار المنطقة . وبيّنا ذلك وبإسهاب ،في ندوة نظّمها مركزنا ( المركز العربي الأوروبي للسياسات و تعزيز القدرات في بروكسل ) ، بالتعاون مع سفارة العراق في بروكسل ،بتاريخ 2023/5/25، وبعنوان ” دور العراق في المسار الاستراتيجي للمنطقة نحو السلام و الاستقرار ” ، وحضرها مستشارون من رئاسة الوزراء في العراق وسفراء عرب وأجانب وآخرون . اليوم يترسّخ هذا الدور وتظهر جلياً نتائجه ، و يبشّر بتحولات استراتيجية ومهمة للمنطقة ، بتصالح تركي سوري ،يقود إلى توافق على ملفّات مهمة ، سأذكرها بعد سطور ، وقد يتوسّع التوافق او الاتفاق ليضم ايران والعراق وسوريّة و تركيا ،ويأخذ دوره وبعده الاقليمي والدولي ، ويصبح تجمعا واعدا وعابرا للطائفية والقومية ، وذا اهداف اقتصادية وتنمويّة .ولكن الحذر والخوف من ردود الفعل الأمريكية والاسرائيلية ،و كلاهما يعتاشان على الفتن القوميّة والطائفية ، وضد اي تجمّع اقليمي او مناطقي ، لروسيا او لإيران يدٌ في بلورته او صناعته .
لم تكْ جهود العراق ،ومن اعلى المستويات ، في بلورة هذه التفاهمات ، وليدة اليوم ،فهي بدأت منذ عام ، ولم يتوقع الأمريكان تطورها ( واقصد الجهود ) و نضوجها ، وما أنْ ادركت امريكا نجاح الجهود وقُرب التوافق السوري التركي ،حتى بدأت بمشاكسة وازعاج العراق ، من خلال تصريحات ومواقف غير وديّة تجاه السلطات القضائية في العراق ،تبناها الكونغرس الأمريكي ،وأخرى تبنتها المرشحة للعمل كسفيرة في العراق . لا نحتاج إلى كثير من الشواهد و الادلة للقول بأن تعاونا عراقيا سوريا إيرانيا تركيا غير مُرّحب به من قبل الادارة الصهيونية في واشنطن وتل ابيب .و لا نظلمُ الادارة الأمريكية حين نصفها بالإدارة الصهيونية ، فالرئيس بايدن يفتخر بصهيونيتة حين يقول ” لا احتاج ان أصبح يهودياً كي أكون صهيونيا ” .
ولكن ما علاقة زيارة الرئيس برزاني إلى بغداد ، ولقاؤه جميع قادة السلطات الدستورية و السياسين بموسم التفاهمات بين العراق وسوريّة و تركيا ؟
ملف الكُرد له بُعده العراقي والاقليمي و الدولي ، وقد يكون اسهل ما فيه هو ما يَكثُر عنه الكلام والحديث في الشارع وفي وسائل الاعلام وغيرها ، و اقصد الرواتب والموازنة و التخصيصات الخ … لأنَّ الحلول او انصاف الحلول لهذه المشاكل هي عراقيّة ويمكن الوصول اليها .
ولكن المُعضلة حين يكون لأمريكا أو لإسرائيل يد في الملف ذي البعد العراقي والاقليمي والدولي .
اليوم ،تقوم تركيا بعمليات عسكرية متقدمة في شمال العراق وفي اقليم كردستان ، والهدف ،كما تصرّح تركيا هو محاربة الإرهاب وحزب العمال الكردستاني، و تجري هذه العمليات العسكرية في وقت الوساطة العراقية الفاعلة بين سوريّة و تركيا .
اليوم ايضاً ،تقوم تركيا بترتيب حساباتها مع الوجود التركي في شمال سوريّة ، وخاصة ” قسد “، وهي القوات المدعومة من امريكا ، والتي تسعى إلى انفصال او حكم ذاتي في شمال سوريا ،وهذا ما لا تريده تركياً اطلاقاً ، وهذا ايضاً قاسم مشترك بين سوريّة و تركيا وحتى ايران .
سيجمع العراق وسوريّة وتركيا و ايران هدف كبير ومشترك ،ألا وهو محاربة الإرهاب ، ولكن لكل طرف تعريفه الضيق او الواسع للارهاب .تركيا تحارب حزب العمال الكردستاني في سوريّة والعراق باعتباره منظمة ارهابية ، والعراق يتضامن ويتفاعل مع تركيا في هذا الأمر ، ويعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة في العراق ويتعارض وجودها مع الدستور العراقي ، وهذا هو موقف أربيل ايضاً . لكن تركيا دعمت ، وفي طريقها إلى التخلي عن جبهة النصرة وفصائل مسلحة في شمال سوريّة ، والتي تراها سوريّة وكذلك العراق و إيران مجاميع ارهابية ،لا تختلف عن داعش .
الرئيس البرزاني ،ادركَ ،بلا شك ، التحولات السياسية الاستراتيجية القادمة في المنطقة و برعاية روسيّة ايرانية ، والتي تنّمُ ( واقصد التحولات ) عن ارادة تركيّة وسوريّة وعراقية صادقة ، وستكون مؤثرّة ومتحرّرة من الاملاءات الأمريكية . أرادَ الرجلُ ، وهو مُحق بذلك ،الا يكون بعيداً عما يدور ، و ان يساهم ،بطريقة او بأخرى في بلورة هذه التفاهمات ،والتي ستقود إلى امن واستقرار وازدهار اقتصادي لهذه الدول وفي المنطقة .
الرئيس البرزاني مُدرك تماماً بأنَّ امريكا لا تستطيع ثني الرئيس اوردغان من المضي في مسار الصلح والاتفاق مع سوريّة ، وتوسيع هذا الاتفاق ليضم العراق و ايران ، و مُدرك ( و اقصد الرئيس برزاني ) بأنَّ مستقبل هذه الدول او المنطقة اصبح بيد اللاعبين الإقليميين الكبار والعراق وسوريّة ، وبيد حركات المقاومة المناهضة لإسرائيل وللارهاب .
الرئيس البرزاني يرى ويدرك بأنَّ تركيا ،التي هي عضو مهم في حلف الناتو وشريك مهم لأمريكا ،لم تنقذها امريكا ولم ينقذها الناتو من مشاكل هجرة السوريين اليها ، و لا من مشاكل حزب العمال الكردستاني، و لا من مشاكل قسد ( قوات سوريّة الديمقراطية ) والذين يطالبون بحكم ذاتي كردي في سوريّة ، فعادت تركيا ،من جديد ،إلى سوريّة والى العراق لاعانتهما في حل هذه المشاكل . وسنرى بأن عودة تركيا إلى حضنها الاقليمي ستكون عودة مُثمرة ،لانها عودة إلى الحضن الذي قفزت منه وحاولت تخريبه ولكن لم تنجح . ومثلما يقول المثل ” الضربة التي لا تميت او لا تُقتلْ ستقّوي ” .
د. جواد الهنداوي – سفير عراقي سابق.رئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل