يعد القرآن الكريم كتاباً مقدساً يتجلى فيه الجمال الإلهي بأبهى صوره، إذ ينسج آياته بلغة فصيحة وأسلوب بديع يلامس القلوب ويشبع العقول، والقرآن الكريم ليس مجرد كتاب ديني، بل هو معجزة بيانية تتجسد في كل حرف وكل كلمة وكل آية، يجمع بين الجمال اللغوي والحكمة الإلهية التي ترشد الإنسان إلى سواء السبيل، وفي كل آية، نجد رسالة تحمل معاني عميقة وأسراراً عظيمة تُظهِر قدرة الله تبارك وتعالى وحكمته في خلق الكون وإدارة شؤون الخلق.
ومن الأمثلة التي تبرز جمال القرآن الكريم وحكمته قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، ففي هذه الآية نجد تصويراً بديعاً لنعمة الزواج وكيف جعل الله بين الأزواج مودة ورحمة، مما ينعكس إيجابياً على استقرار المجتمع وسعادته، ومثال آخر على الحكم الإلهية، قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90)، حيث تضمنت هذه الآية توجيهات إلهية جامعة لمكارم الأخلاق والمعاملات الحسنة.
بالتالي، إن التفسير الصحيح للقرآن الكريم هو السبيل لفهم معانيه واستنباط أحكامه بشكل سليم، ولذا من الضروري الرجوع إلى المصادر الموثوقة في علوم التفسير والحديث، والابتعاد عن الروايات غير المسندة التي قد تضلل الباحثين عن الحق، فالاعتماد على الأحاديث الصحيحة والمأثورات الموثوقة يسهم في بناء فهم متكامل وسليم للنصوص القرآنية، ويحقق الغاية من التدبر والتأمل في كتاب الله، ليكون القرآن هادياً ونوراً للمؤمنين في حياتهم ودنياهم وآخرتهم، واستكمالاً لتفسير سورة النمل نستعرض الآيات المباركة وفق أهم علماء الدين الإسلامي.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ.
تقدم هذه الآيات الكريمة من سورة النمل قصة ملكة سبأ وكيفية تعاملها مع رسالة النبي سليمان عليه السلام، يجمع التفسير بين فهم العلماء القدامى والمعاصرين لنعطي نظرة شاملة ومتعمقة.
تفسير الآيات وفق الطبري: يشرح الطبري الآية (31) بأن سليمان عليه السلام يأمر ملكة سبأ وقومها بألا يستعلوا عليه بالكفر والرفض، بل يأتوه خاضعين ومستسلمين لأمر الله، وفي الآية (32)، ترد ملكة سبأ بجمع أشراف قومها وتطلب منهم المشورة بشأن الرسالة لأنها لا تتخذ قراراً بمفردها. في الآية (33)، يرد أشراف قومها بأنهم أهل قوة وبأس، ولكنهم يعيدون القرار النهائي إليها، وفي الآية (34)، تبدي ملكة سبأ رأيها بأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، مشيرة إلى أنهم يفعلون كذلك دائماً، ثم تقرر في الآية (35) أن ترسل إلى سليمان هدية لترى رد فعله. وفي الآية (36)، يرفض سليمان الهدية قائلاً إن ما آتاه الله خير مما آتاهم وأنهم يفرحون بهديتهم بينما هو يفضل ما أعطاه الله من النبوة والحكمة.
تفسير الزمخشري: يفسر الزمخشري الآية (31) بالتأكيد على أن سليمان يأمرهم بعدم التكبر والطغيان، ويحثهم على الإيمان والخضوع، وفي الآية (32)، تظهر حكمة ملكة سبأ في طلب المشورة من قادتها، مشيرة إلى أنها لا تريد اتخاذ قرار فردي، وفي الآية (33)، يظهر القادة استعدادهم للقتال ولكنهم يتركون القرار النهائي لها، الزمخشري يبرز في الآية (34) فطنة الملكة في معرفة طبيعة الملوك واستراتيجيتهم في غزو البلدان، وفي الآية (35)، تبرز دبلوماسية الملكة بإرسال هدية كاختبار، أما في الآية (36)، فيوضح الزمخشري موقف سليمان من رفض الهدية وتفضيله هبة الله على الماديات.
تفسير الجلالين: يقدم تفسير الجلالين شرحاً مختصراً، حيث يوضح أن سليمان يطلب من ملكة سبأ عدم الاستعلاء عليه ويطلب منها الإسلام، في الآية (32)، تطلب الملكة المشورة من رجال دولتها، وفي الآية (33)، يوضحون أنهم أقوياء ويتركون القرار لها، وفي الآية (34)، تشير الملكة إلى أن الملوك عند غزوهم يفسدون البلاد ويذلون أعز أهلها، وتقرر في الآية (35) إرسال هدية لاختبار سليمان، وعندما يصل الرسول بالهدية، يرفضها سليمان في الآية (36)، ويبين أن ما عند الله خير مما عندهم.
تفسير المفسرين المعاصرين: يفسر المفسرون المعاصرون الآيات بأن سليمان عليه السلام كان يوجه رسالة لملكة سبأ يدعوها للإسلام، ويبين أن طلب المشورة من قبل ملكة سبأ يظهر حكمتها ورغبتها في اتخاذ قرار جماعي، حيث تبرز الآيات أيضاً حكمة الملكة في معرفة طبائع الملوك وسياساتهم، يظهر رفض سليمان للهدية مدى قوته وثقته بنعم الله عليه، وأنه ليس بحاجة إلى الماديات بل يسعى لتحقيق دعوة الحق.
بالتالي، توضح هذه الآيات مشهداً من الحكمة والدبلوماسية في التعامل بين النبي سليمان وملكة سبأ، سليمان عليه السلام يدعو للإسلام ويظهر عدم اهتمامه بالماديات مقابل النعم الإلهية، بينما تسعى ملكة سبأ لاختبار نوايا سليمان بحكمة وتدبر، كما تبرز الآيات أهمية الشورى واتخاذ القرارات الجماعية، والحكمة في التعامل مع القوى المختلفة.
الدلالات اللغوية في الآيات الكريمة
“أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” (النمل: 31)، “تعلوا”: تعني التكبر والتعالي، هنا يأمر سليمان عليه السلام ملكة سبأ بعدم التكبر عليه والطغيان، “مسلمين”: تشير إلى الاستسلام والانقياد لأمر الله وسليمان عليه السلام، “وقَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” (النمل: 32)، “الملأ”: تعني الأشراف والقادة، والملأ هم كبار قومها، “أفتوني”: تعني أطلب رأيكم ونصيحتكم، “قاطعة أمراً”: تعني اتخاذ قرارٍ نهائي، هنا تشير إلى أنها لا تتخذ قرارات فردية دون مشورة قادتها، “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ” (النمل: 33)، “أولو قوة”: تعني نحن أهل قوة وبأس، “الأمر إليك”: يعيدون القرار النهائي إليها، مما يبرز احترامهم لحكمتها ورأيها، “قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ” (النمل: 34)، “الملوك”: تشير إلى الحكام أو الزعماء، “أفسدوها”: تعني التخريب والإفساد، “أعزة أهلها أذلة”: تحويل أعزة أهل القرية إلى أذلة، مما يعني أنهم يغيرون الوضع الاجتماعي في البلدان التي يغزونها، “وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ” (النمل: 35).
بالإضافة إلى ما سبق، “مرسلة”: تعني إرسال شيء أو شخص، “هدية”: تشير إلى الهبة أو العطاء، هنا تستخدم كاختبار لنوايا سليمان عليه السلام، “ناظرة”: تعني مترقبة أو منتظرة.، “يرجع المرسلون”: أي يعود الرسل بما يحصلون عليه من رد فعل سليمان، “فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ” (النمل: 36)، “تمدونن بمال”: تعني تعرضون عليّ مالاً، “آتاني الله”: تشير إلى النعم والهبات الإلهية، “خير مما آتاكم”: تعني أن نعم الله عليه أفضل مما لديهم من مال وممتلكات، “تهديتكم تفرحون”: تعني أنتم تفرحون بالهدايا المادية بينما هو يفرح بما آتاه الله تبارك وتعالى.
آراء علماء الدين واللغة
الزمخشري: يبرز دلالات التواضع والخضوع في أمر سليمان عليه السلام بعدم التعالي، في قوله تعالى “أفتوني في أمري” يوضح حكمة ملكة سبأ في طلب المشورة، بينما في رد القادة يظهر القوة والبأس مع إعادة القرار النهائي للملكة.
الطبري: يشير إلى أن سليمان عليه السلام يطلب منهم الاستسلام لله، ويشرح أن طلب المشورة من الملأ يظهر عدم اتخاذ الملكة لقرارات فردية، وفي رفض سليمان للهدية، يبرز تفوق الهبة الإلهية على الماديات.
الجلالين: يقدم تفسيراً مختصراً يوضح فيه معاني التعالي والاستسلام، وطلب المشورة من القادة واحترام آرائهم.
المفسرون المعاصرون: يشيرون إلى الحكمة السياسية والدبلوماسية في تعامل الملكة وسليمان، يبرزون أن رفض سليمان عليه السلام للهدية يعكس استغناءه بالله وثقته بنعمه.
من هنا، تتجلى في هذه الآيات الكريمة العديد من الدلالات اللغوية التي تعكس التواضع والحكمة والدبلوماسية، نبي الله سليمان عليه السلام يدعو ملكة سبأ للإسلام والتواضع، والملكة تستشير قادتها في قرار جماعي يعكس الحكم الجماعي وحكمة القيادة. تظهر القوة والبأس في ردود القادة، بينما تكشف الآيات عن فهم عميق لطبيعة الملوك وسياساتهم في الغزو، كما تبرز كذلك الفطنة والدبلوماسية في إرسال الهدية كاختبار، بينما يوضح رفض سليمان للهدية أن القيمة الحقيقية تكمن في نعم الله عز وجل وليس في الماديات.
وفي ختام هذا الموضوع، يتجلى من خلال استعراض الآيات الكريمة وتفاسيرها العميقة جمال القرآن الكريم وحكمته الإلهية التي ترشد الإنسان إلى الصراط المستقيم، إن القرآن ليس مجرد كتاب ديني، بل هو معجزة بيانية وحكمية تتجسد في كل حرف وكل كلمة، مما يجعل فهمه وتدبره ضرورة لكل مسلم. إن دراسة التفاسير وعلوم القرآن تساعد على استيعاب معانيه بشكل صحيح، مما يبعدنا عن الروايات غير المسندة التي قد تضللنا.
كما رأينا في تفسير هذه الآيات، تظهر الحكمة والدبلوماسية في تعامل النبي سليمان عليه السلام وملكة سبأ، مما يعكس أهمية الاستفادة من القصص القرآني في حياتنا اليومية، إن التفسير الصحيح للقرآن الكريم، المبني على الأحاديث الصحيحة والمصادر الموثوقة، يمكّننا من استنباط الأحكام والفوائد، ويحقق لنا الفهم العميق لرسالة الله إلى البشرية، ولنا في رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة في تطبيق تعاليم القرآن والعمل بها في كل جوانب حياتنا. فهو القدوة المثلى في اتباع القرآن الكريم والتمسك بتعاليمه، مما يوجب علينا السير على خطاه والعمل بسنته الكريمة، إن القرآن الكريم هو نور وهدى للمؤمنين، وبالتمسك به وبعلومه نضمن لأنفسنا سعادة الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يوفقنا لفهم كتابه والعمل بما جاء فيه، وأن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وأن يلهمنا الحكمة والبصيرة في اتباع نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لنكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.