رحل عام 1445 وقد ترك معه مواجع عظيمة، فغزة العزة والشموخ والنصر ما زالت تنزف جراحها، بفعل تآمر الأمة، عليها وتواطئ حكامها وحكوماتها مع اليهود المغتصبين والصهاينة المحتلين والأمريكان المجرمين، وقد اقترب زمن هذه الحرب العبثية والعدوان الظالم من إكمال العام، دون أنيلوح في الآفق مؤشر نهايتها، مع استمرار أيدي وآلة القتل الصهيونية بارتكاب وحشيتها ونذالتها وغطرستها، في قتل الأطفال والنساء والشيوخ وتشريد أهل غزة وتدمير البلاد وتهجير العباد، وتجويعهم ، ولقد أفصح واقع الإجرامالصهيوني الأمريكي العالمي على غزة عن نزول المجتمع الدولي إلى دركات القبح والجهالة، والبغي والظلم، وسدل الستار على كل ذرة إنسانية أو ضمير حي أو شعور بالإنسانية أو أخلاق الإنسان، في ظل عالم هانت عليه هذه المشاهد الوحشية الإجرامية التي لحقت بأطفال فلسطين وحرائرها ، والغطاء الذي أحاطه به الغرب والشرق لشرعنه الاحتلال الصهيوني وتماديه في غيه وظلمه وانحرافه في مواجهه أطفال رضع، وأيتام وأرامل، وصغار وكبار سن، في خروج عن كل مبدأ وفضيلة وإنسانية، لتطغى عليها جبروت النفس وحقد القلب وغلظته وقسوته.
ولعل ما هو أدهى وأمر، ونحن نعيش ذكرى الهجرة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، حالة الأمة وما تعيشه من ضعف وهوان وخنوع وخضوع ، وما تعيشه من حالة التمزق والتشرذم والاختلاف، وغياب البعد الحضاري نحو قضاياها المصيرية وأولوياتها ، ما يعكسه هذا السلوك ومسار التطبيع المشين مع العدو الصهيوني المحتل الذي باتت تنتهجه بلا وعي ولا مسؤولية، في تغييب لأهدافها السامية، وتضييع لثوابتها التاريخية وارتماء في أحضان الصهيونية الأمريكية دون ذرة حياة أو ضمير حي، بل أنها اتخذت بممارساتها ما يؤكد على سعيها المتواصل نحو تغييب فلسطين والقضية الفلسطينيةودعوتها لاستمرار هذا الإجرام حتى يهنأ العرب بالقضاء على حماس رمز المقاومة والشموخ والعزة و الانتصار والحق ليتواطآ العرب حكاما وحكومات على غزة في مد الصهاينة بالسلاح والمال ، وفتح المجال الجوي للعدوان على كل من أراد إنهاء هذه الحرب وأعلن مقاطعته لهذا الإجرام ، فأي حال أشد خنوعا وضعفا من هذا الحال ، وبما تركه هذا الخذلان من إعلان حرب على غزة وأهلها وشرعنته والتخاذل الكلي عن نصرة المستضعفين من أهل غزة .
إن هذا التباين والتقاطع والانحراف الذي تعيشه الأمةاليوم يتجافى كليا مع أهداف الهجرة النبوية المطهرة، وغاياتها السامية التي تجلت فيها الحقيقة وإظهار الحق وإبطال الباطل، هجرة أريد لها أن تصنع التغيير وأن تؤسس لمرحلة جديدة في بناء الأمة الإسلامية وعبر بدء بناء الدولة الإسلامية على يد رسول الله صلة الله عليه وسلم في المدينة المنورة، إنها محطات لصناعة القوة، وانتهاج مسار العزة والكرامة، فيحسب لهذه الدولة ألف ألف حساب، لقد أسست الهجرة النبوية في مبادئها القائمة على الحق والعدل والمساواة والإنسانية والعيش الكريم، مرتكزات النصر والعزة والقوة والبناء ، وهي مرتكزات قائمة على تعظيم شأن البيت الداخلي ، وتمكين روح التغيير من أن تسري في حياة كل مسلم إيذانا بمرحلة جديدة تتجه فيها الأمة إلى الأخذ بكل أسباب النصر والتمكين، والتعاطي الجاد مع كب الظروف والمتغيرات بتقوية اللحمة الإيمانية، وتعظيم شرع الله وحرماته، والوقوف عند حدود الله، ورفع سقف الأخوة والتكامل والتعاون والتعاضد ووحده الهدف والعمل المشترك، وتوجيه الأمة إلى الاعتماد على النفس وإدارة معطيات الواقع بكل مهنية ، واستشراف المستقبل ، وتعظيم الإنتاجية، ورفع مشتركات الأمة في كل ما يعزز من موقعها الحضاري، فحقق الله على أيدي رسول الله وصحابته الكرام هذه الغايات السامية، والأهداف الإيمانية الحقة، كتب الله لهذه الأمة فيها النصر والغلبة والقوة والتمكين.
ويبقى الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وازكى التسليم ، محطات لمراجعة ضمير المسؤولية وعمق الإنسانية وموقع هذه الأمة بين أمم الأرض، محطات تضع الأمة اليوم أمام إعادة قراءة هذا المسار وتصحيحه وتوجيه بوصلته لصالح استدراك فرص التغيير وقراءة أساسيات ومعطيات التحول في السلوك، وإعادة قراءة حال الأمة وأحوالها في ثوب جديد، إيذان بتغير الحال وفرصة لإعادة النظر في المسار، ونصرة غزة وأرض الأقصى وبناء القوة التي تسقط كل الفرضيات التي أثبتت الأشهر التسعة المنصرمة فشلها ، وأكدت على أن القوة والعزة والنصر للمؤمنين المرابطين، تصنعها القوة والثبات وعدم التنازل عن الحقوق والواجبات، يصنعا الجهاد والتضحية بالمال والنفس، يصنعها الصبر والوفاء للإنسان، والقيم والأخلاق ، يصنعها الثبات على المبدأ والعقيدة والصبر على البلاء، مهما تواطئ الأقرباء والأرحاموالأصدقاء مع المجرم المحتل ، وأنه لولا خذلان هذه الأمةلأهل غزة لكان أن حسم النصر وتحقق الأمر وجفت الأقلامورفعت الصحف لصالح نهضة هذه الأمة ورجوع فلسطين إلى أهلها، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته وعاصمتها القدس، إنها محطة اختبار في كيف يمكن لهذه الأمة أن تلملم شتاتها وتضبط أحوالها وتعيد ترتيب أولوياتها ، وتنهض من سباتها وسقوطها المدوي في وحل الإجرام بمشاركتها في حصار غزة وعدم فتح المعابر لدخول الطعام والشراب والدواء إلى غزة ، مواقف وأحداثتمثل اختبارات لهذه الأمة وكيف لها أن تقرأ هذا الحال، لتضع عقلاء الأمة وقياداتها أمام مسؤوليتهم في إعادة قراءة هذه الصورة من جديد، بفتح كل السبل للمقاومة والجهاد والتضحية، ومد المقاومة الشهمة بالعتاد والسلاح والمال، والوقوف معها بالكلمة والنصر والفعل والممارسة، وطي صفحات التمزق والخنوع التي أسدلت ستارها على مستقبل هذه الأمة في ضياع هيبتها وغياب ريحها وانحطاط مستواها وسقوطها الأخلاقي.
وما أحوج الأمة اليوم وهي تحتفل بهذه الذكرىالعظيمة التي غيرت وجه الأرض ، وأعادت إنتاج التاريخ الإنساني، وأسدلت الستار على حياة الظلم والبؤس والجاهلية والسادية و الانحراف الفكري الاختلال في موازين الحياة، وأنتجت بناء الدولة الإسلامية وعززت من مكانة المسلمين ورسمت الطريق لموقع الأمة في هذا العالم، ولتعطي للحياة دروسا متعلمة بأن القوة والنصر والغلبة والعزة لا تأتي بالخذلان ولا بالانسحاب من ميدان المنافسة والتضحية، ولا بالتواطؤ مع العدول أو التطبيع- الذي لم يقدم لهذه الأمة سوى ويلات من الانكسار والخنوع والخضوع، وسنوات من التخلف وغياب التنمية ، ونشر الفساد الأخلاقي وتضييع الهوية وتمييع الشعوب ودعوتها إلى الانحراف والانحطاط، فكانت النسوية والإلحاد والشذوذ الجنسي والدعارة وغيرها عناوين أساسية للمدنية المعاصرة المقيتة، يراد منها إشغال أبناء الأمة بقضايا الجنس والمخدرات والمرأة والمذهبية والمناطقية والقبلية وغيرها، محطات تعيد فيها الأمة صياغة أهدافها وبناء مسيرتها، وتنقية سيرتها وتحسين صورتها أمام أجيالها، في مواجهة حالة التشويه التي باتت تلقي بظلالها على المنظور الحضاري للتعايش والتكامل الذي جاء به الإسلام .
أخيرا عسى أن يكون عام 1446هـ مرحلة جديدة ونقطة تحول نوعية تعيد فيها الأمة تصحيح المسار وتوجيه بوصلة العمل، فتقف على أسباب نكباتها، فإن مسؤولية الأمة اليوم في امتلاكها مشروعا حضاريا متكاملا، ينطلق من صمود غزة وأهلها الذي أعجز الدنيا تفسيره وأصبح العالم أجمع منبهر بثباته ، ليبحث عن السر وراء هذه القوة الإيمانية التي واجهت أعتى واشد آليات الحرب والفتك وأقسى جيوش العالم إجراما ، ويؤسس لمرحلة جديدة من العمل على تنقية أجواء البيت الداخلي لهذه الأمة ، تقوم على مبدأ الاستعداد والجاهزية، والوحدة والعمل المشترك وترك النزاعات والمشوهات وإقصاء كل أسباب الفرقة والاختلاف، والصدق في بناء محطات الأخوة والاحتواء والتكامل والتعاون والتعاضد والشعور الجمعي، لتحقيق انتصارات ستدوي الأرض بها، وتقلب الحقائق، لتعيد للامة هيبتها ونهضتها واستحقاقاتها، سلام مستدام، ونهج اتصال وتواصل يتناغم مع سقف التوقعات المطلوب أن تكون عليها هذه الأمة في وسطيتها وشهادتها على أمم الأرض ، وإعادة هيكلة واقعها السياسي والاقتصادي والفكري والأمني من جديد وموقعها في منظومة بناء حاضر الأمةومستقبلها وإسهاماتها في الرصيد التنموي والأخلاقي والقيمي والفكري. لتبدأ مع العام الهجري الجديد 1446هـ ، صفحة جديدة عنوانها غزة العزة والنصرة والشموخ والقوة والجهاد والتضحية والإيمان، والتفاؤل والسلام لبناء مرحلة جديدة تحمل معها طموحات أبناء هذه الأمة وأحلامهم وآمالهم، نافذة أمل تشرق لتغير وجه الأرض السلبي وتوجيهها إلى إصلاح ذات إنسانها، نصر من الله وفتح قريب .
د. رجب بن علي العويسي