تشكل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، الموقعة عام 1948، حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني، حيث تفرض على الدول الأطراف التزامات جوهرية لضمان منع ومعاقبة هذه الجرائم البشعة، وتُعتبر هذه الاتفاقية أول وثيقة قانونية دولية تُعرِّف الإبادة الجماعية وتضع إطاراً قانونياً لمكافحتها، مما يعزز الالتزام الجماعي للدول بحماية حقوق الإنسان الأساسية ومنع الانتهاكات الجسيمة، وتنص المادة الأولى من الاتفاقية على التزام الدول الأطراف بمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، مؤكدة على أن هذه الالتزامات ليست مقتصرة على الأفعال التي ترتكب داخل أراضي الدولة نفسها، بل تشمل أيضاً اتخاذ التدابير المناسبة لمنع ارتكابها في أي مكان.
كما تعزز الاتفاقية من خلال المادة الثالثة (هـ) هذا الالتزام بمنع التواطؤ في الإبادة الجماعية، مما يُلزم الدول بالامتناع عن تقديم أي دعم أو مساعدة قد تسهم في ارتكاب هذه الجرائم، هذا الالتزام الجماعي يمنح الدول الأطراف مصلحة مشروعة في ضمان امتثال الجميع لأحكام الاتفاقية، كما أيدته محكمة العدل الدولية في قضية غامبيا ضد ميانمار، مؤكدة على أن منع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها هو واجب جماعي يهدف إلى حماية الإنسانية جمعاء.
وتتجلى أهمية هذا الإطار القانوني من خلال السوابق القضائية التي حددتها محكمة العدل الدولية، والتي تؤكد أن الدول ملزمة باتخاذ جميع التدابير المعقولة والمتاحة لها لمنع حدوث الإبادة الجماعية، بما في ذلك التعاون مع الهيئات الدولية والمحاكم لضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وبالنظر إلى هذه الالتزامات القانونية، يصبح من الواضح أن التعاون الدولي الفعال وتنفيذ هذه الالتزامات بجدية يُعتبران أساسيين في مكافحة الإبادة الجماعية وضمان العدالة الدولية.
من هنا، إن حظر الإبادة الجماعية يمثل قاعدة آمرة في القانون الدولي، وتؤدي الانتهاكات الجسيمة لها إلى وجوب التعاون الإيجابي من جميع الدول الأخرى لوضع حد لهذه الانتهاكات باستخدام الوسائل المشروعة، هذا الالتزام يفرض على الدول اتخاذ مجموعة واسعة من التدابير التعاونية، سواء من خلال الآليات المؤسسية مثل الأمم المتحدة أو من خلال الآليات غير المؤسسية، لإنهاء الانتهاك الجسيم، وإن واجب التعاون هذا هو التزام عالمي، أي أنه ينطبق على جميع الدول، بغض النظر عما إذا كانت متأثرة بشكل مباشر بالانتهاك أم لا، وفي حال حدوث انتهاك، يمكن لأي دولة اتخاذ تدابير قانونية ضد دولة أخرى لضمان وقف الانتهاك وجبر الضرر للدولة المتضررة.
وفي حالة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة، يتخذ واجب التعاون لوضع حد لهذه الأعمال أشكالاً متعددة، بما في ذلك التعاون المؤسسي من خلال الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية، على سبيل المثال، في سياق الإجراءات الحكومية المنسقة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات تدعو إلى إنهاء التبادلات الثقافية والتعليمية والرياضية، ووقف إمدادات النفط والأسلحة إلى جنوب أفريقيا، وبالمثل، أصدر مجلس الأمن قرارات تدعو الدول إلى وقف شحن المواد العسكرية وعدم الاعتراف بالانتخابات غير الشرعية وإعلان بطلان دستور الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لأنه يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
كما يمكن للدول أيضاً التعاون خارج نطاق الأمم المتحدة باستخدام مجموعة من الوسائل القانونية لوقف الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، والتي قد تشمل فرض عقوبات اقتصادية، أو حجب المساعدة العسكرية، أو حظر السفر، أو غيرها من التدابير التي تهدف إلى منع مواطنيها والشركات التابعة لها من المشاركة في الحملة العسكرية الصهيونية في غزة، وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة العمل معاً لإصدار قرار يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، مما يعكس التزامها بإنهاء الإبادة الجماعية والتأكيد على أهمية التعاون الدولي في مواجهة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
والتعاون الإيجابي من الدول لمواجهة الإبادة الجماعية هو ضرورة قانونية وأخلاقية، حيث يتعين على المجتمع الدولي استخدام كافة الوسائل المشروعة لوقف الانتهاكات وحماية المدنيين، وتشمل هذه الوسائل، على سبيل المثال، تقديم الدعم القانوني للدول المتضررة، وتعزيز الإجراءات القضائية الدولية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وزيادة الوعي الدولي حول الأوضاع الإنسانية في المناطق المتضررة، ومن خلال هذه الجهود المشتركة، يمكن للدول تحقيق العدالة والسلام، وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات الجسيمة في المستقبل.
بالتالي، إن مسألة جواز فرض الدول لعقوبات اقتصادية كتدابير مضادة لأطراف أخرى هي مسألة تركتها لجنة القانون الدولي لمزيد من التطوير في القانون الدولي، على الرغم من ذلك، فإن ممارسات الدول في فرض عقوبات أحادية ضد الدول والأفراد الذين يرتكبون انتهاكات جسيمة للقانون الدولي قد انتشرت بشكل واسع، فعلى سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجميد أصول ضد مسؤولين رفيعي المستوى في ميانمار رداً على انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد الروهينغا في عام 2018. ومؤخراً، قامت دول مختلفة بفرض عقوبات ضد الاتحاد الروسي بسبب غزوه لأوكرانيا، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشكل فردي) وأستراليا واليابان ونيوزيلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وسويسرا.
هذه الممارسات تعكس تصاعد استخدام العقوبات كوسيلة للضغط السياسي والدبلوماسي، سعياً لتحقيق أهداف القانون الدولي الإنساني وحماية حقوق الإنسان، كما أن العقوبات الاقتصادية تتنوع بين تجميد الأصول، وفرض حظر على السفر، وقيود على التجارة، والتي تهدف إلى معاقبة الأطراف المنتهكة ومنع تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل، وتعتبر هذه الإجراءات جزءاً من الأدوات القانونية المتاحة للدول لتحقيق العدالة الدولية وضمان الامتثال للقوانين والمعاهدات الدولية.
بالتالي، إن استخدام العقوبات الاقتصادية يجب أن يتم في إطار القانون الدولي وبما يتوافق مع مبادئ الأمم المتحدة، حيث تسعى الدول من خلال هذه التدابير إلى تعزيز السلم والأمن الدوليين، وحماية حقوق الإنسان، ومنع الجرائم ضد الإنسانية، كما أن العقوبات التي فرضت على ميانمار وروسيا توضح كيفية استخدام المجتمع الدولي لهذه الأدوات في سياق الأحداث الجارية لتحقيق تأثير ملموس على الدول المنتهكة.
بالإضافة إلى العقوبات، يمكن للدول اللجوء إلى آليات أخرى للتعاون الدولي لمواجهة الانتهاكات الجسيمة، مثل التعاون القضائي، والدعم الفني، وبناء القدرات، والمساعدات الإنسانية، هذه الجهود التعاونية تعزز من قدرة المجتمع الدولي على التصدي للتحديات المعقدة وضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، على سبيل المثال، يمكن للدول دعم جهود المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق ومعاقبة المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية، مما يعزز من سيادة القانون والعدالة الدولية.
وفي ظل تنامي التحديات الدولية، يتعين على الدول تعزيز التعاون المشترك والالتزام بالمعايير الدولية لضمان احترام حقوق الإنسان ومنع الانتهاكات الجسيمة، ومن خلال العمل الجماعي وتطبيق التدابير القانونية المناسبة، يمكن تحقيق الأهداف المشتركة للمجتمع الدولي في بناء عالم أكثر عدلاً وأماناً.
كما تعد اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، المعروفة باتفاقية الإبادة الجماعية، من الأدوات القانونية الدولية الأساسية التي تُحمل الدول مسؤوليات كبيرة تجاه منع ومعاقبة أعمال الإبادة الجماعية، حيث توفر هذه الاتفاقية أساساً إضافياً يحدد واجبات والتزامات الدول الأطراف بشكل واضح، مؤكدة على أن هذه الواجبات لها طابع تجاه الكافة، بمعنى أن جميع الدول الأطراف في الاتفاقية لها مصلحة مشروعة في ضمان امتثال الدول الأطراف الأخرى لأحكام الاتفاقية، وقد أكدت محكمة العدل الدولية هذه المصلحة المشتركة في حكمها الصادر في قضية غامبيا ضد ميانمار، حيث اعتبرت أن الدول الأطراف لديها “مصلحة مشتركة في ضمان منع أعمال الإبادة الجماعية، وفي حالة وقوعها، ضمان عدم إفلات مرتكبيها من العقاب”.
أيضاً تنص الاتفاقية على واجبين أساسيين يقعان على عاتق الدول الأطراف. أولاً، تُلزم المادة الأولى من الاتفاقية جميع الدول بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. هذا الواجب يتطلب من الدول اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع حدوث جرائم الإبادة الجماعية على أراضيها، وكذلك معاقبة الأفراد أو الجماعات المتورطين في هذه الجرائم. يتضمن ذلك تعزيز التشريعات الوطنية وضمان فعالية النظام القضائي في التعامل مع مثل هذه الجرائم.
وثانياً، تُلزم المادة الثالثة (هـ) من الاتفاقية الدول الأطراف بالامتناع عن التواطؤ في الإبادة الجماعية، هذا الالتزام يعني أن الدول يجب أن تتجنب أي شكل من أشكال التعاون أو المساعدة التي قد تسهم في ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى ذلك، يتعين على الدول التعاون فيما بينها ومع الهيئات الدولية لضمان محاسبة مرتكبي هذه الجرائم وتقديمهم للعدالة.
في هذا السياق، يمكن الاستفادة من الأحكام السابقة لمحكمة العدل الدولية لتعزيز الفهم القانوني لهذه الالتزامات، على سبيل المثال، في قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، أكدت المحكمة على أن واجب منع الإبادة الجماعية يتطلب من الدول اتخاذ جميع التدابير المعقولة والمتاحة لها لمنع حدوث مثل هذه الجرائم، مشيرة إلى أن هذه التدابير يجب أن تكون فعالة وملائمة للسياق المحدد.
بالتالي، تؤكد هذه السوابق القضائية على أهمية الالتزام الجاد من قبل الدول الأطراف في الاتفاقية، ومن هنا، ينبغي على الدول تعزيز التعاون الدولي لضمان تطبيق هذه الالتزامات بشكل فعال، حيث يتضمن ذلك تبادل المعلومات، وتقديم الدعم الفني والقانوني، وتنسيق الجهود الدولية لمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها.
كما تُعد هذه الالتزامات جزءاً من الجهود الأوسع للمجتمع الدولي لضمان حماية حقوق الإنسان ومنع الجرائم الفظيعة، ومن خلال تعزيز التعاون والتضامن الدولي، يمكن للدول تحقيق تقدم ملموس في مكافحة الإبادة الجماعية وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل. إن التزام الدول بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية يعكس الالتزام العالمي بالعدالة والإنسانية، ويعزز من قدرة المجتمع الدولي على التصدي للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.
في الختام، يُشكل الواجب الإيجابي للتعاون الدولي في منع ومعاقبة جرائم الإبادة الجماعية إطاراً قانونياً وإنسانياً لا يمكن تجاهله، خاصة في ضوء الوضع الراهن في غزة. إن التزام الدول الأطراف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها يتطلب اتخاذ تدابير فعالة وفورية لضمان وقف أي انتهاكات قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ولضمان محاسبة المسؤولين عنها، حيث يجب على المجتمع الدولي التحرك بشكل حاسم ضمن إطار القانون الدولي، حيث تنص المادة الأولى من اتفاقية الإبادة الجماعية على ضرورة منع ومعاقبة هذه الجرائم، وتلزم المادة الثالثة (هـ) الدول بالامتناع عن التواطؤ فيها، وإن دعم الجهود الدولية في غزة يتطلب تنفيذ هذه الالتزامات بشكل عملي وفعال، من خلال تقديم الدعم القانوني والفني، وفرض العقوبات المناسبة على الأفراد والكيانات المتورطة، وتقديم المسؤولين إلى العدالة.
بالتالي، إن التضامن القانوني مع غزة ليس فقط واجباً أخلاقياً كما أشرنا آنفاً، بل هو التزام قانوني يستند إلى مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، إذ يجب أن تتضافر جهود الدول والمنظمات الدولية لضمان حماية المدنيين في غزة ووضع حد للانتهاكات الجسيمة التي يتعرضون لها، ومن خلال تفعيل التعاون الدولي والالتزام بالمعايير القانونية، يمكن تحقيق العدالة والسلام، وضمان عدم تكرار مثل هذه الفظائع في المستقبل.
من هنا، وبتطبيق هذه الالتزامات، نؤكد على مسؤوليتنا الجماعية في حماية حقوق الإنسان وتعزيز السلم والأمن الدوليين، وإن الدعم القانوني والتضامن مع غزة يمثلان خطوة حاسمة نحو تحقيق هذه الأهداف الإنسانية النبيلة، وضمان أن المجتمع الدولي يقف متحدًا ضد الإبادة الجماعية وجميع أشكال الجرائم ضد الإنسانية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.