في ظل الأوضاع الراهنة في غزة، تبرز أهمية الالتزام الدولي بمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية وفقاً للاتفاقيات والقوانين الدولية، إذ تُعد اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 إحدى الركائز الأساسية للقانون الدولي في هذا السياق، حيث تفرض على الدول الأطراف واجباً صارماً في اتخاذ التدابير اللازمة لمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها، يشمل هذا الواجب التعاون الدولي الذي يتجاوز الحدود الإقليمية، مما يفرض على المجتمع الدولي بأسره التزاماً جماعياً للوقوف ضد أي تهديد محتمل للإبادة الجماعية في أي منطقة من العالم.
وفي هذا السياق، يتعين استحضار المادة الأولى من اتفاقية الإبادة الجماعية التي تؤكد على أن “الإبادة الجماعية، سواء ارتُكبت في زمن السلم أو في زمن الحرب، هي جريمة بموجب القانون الدولي، وتتعهد الدول الأطراف بمنعها والمعاقبة عليها”. كما تفرض المادة الثامنة من الاتفاقية على الدول الأطراف أن تتخذ الإجراءات، بما في ذلك التدابير التشريعية اللازمة، لضمان تنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقية.
كما توضح قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود التي نظرتها محكمة العدل الدولية في عام 2007، أهمية هذه الالتزامات الدولية، وقد أكدت المحكمة في حكمها أن الدول ملزمة باتخاذ جميع الوسائل المتاحة لها بشكل معقول لمنع الإبادة الجماعية، وأن هذا الالتزام ينشأ بمجرد علم الدولة أو كان ينبغي لها أن تعلم بوجود خطر جدي من وقوع جريمة الإبادة الجماعية.
وفي ظل التوترات المستمرة والأعمال العسكرية في غزة، تزداد المخاوف الدولية من احتمال ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وقد أصدرت العديد من الجهات القانونية الدولية والمسؤولين الأمميين تحذيرات بشأن الخطر الجدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني في غزة، مما يفرض على الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية التزامات قانونية محددة للعمل الفوري والفعال لمنع وقوع هذه الجرائم، وتستلزم هذه الالتزامات التعاون الوثيق بين الدول، وتقديم الدعم للتحقيقات الدولية، واتخاذ التدابير القانونية اللازمة على المستوى الوطني لضمان عدم الإفلات من العقاب.
بالتالي، إن الأوضاع الحالية في غزة تستدعي تفعيل المادة الثامنة من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تسمح لأي دولة طرف بأن تطلب من أجهزة الأمم المتحدة المختصة اتخاذ الإجراءات التي تعتبرها ملائمة لمنع وقمع أفعال الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى ذلك، يتعين على الدول الأطراف تنفيذ المادة التاسعة من الاتفاقية، التي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للنظر في النزاعات الناشئة بين الأطراف حول تفسير أو تطبيق الاتفاقية.
ومن خلال الالتزام الصارم بهذه الأحكام القانونية الدولية، يمكن للمجتمع الدولي أن يعزز الجهود الرامية إلى منع تكرار الفظائع التي شهدتها البشرية في الماضي، وضمان حماية حقوق الإنسان والسلام والأمن الدوليين في غزة ومناطق النزاع الأخرى.
كما يقع على عاتق جميع الدول الأطراف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها واجب منع انتهاكات الاتفاقية والمعاقبة عليها. إن هذا الواجب بموجب المادة الأولى من الاتفاقية يفرض التزامات إيجابية على الدول الأطراف باتخاذ الإجراءات اللازمة أو بذل قصارى جهدها لضمان عدم وقوع مثل هذه الأفعال. وتعتبر الدولة منتهكة لهذا الالتزام إذا فشلت بشكل واضح في اتخاذ الإجراءات الضرورية التي كانت في حدود سلطتها والتي كان من الممكن أن تساهم في منع الإبادة الجماعية.
ففي قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، أوضحت محكمة العدل الدولية أن الالتزام بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ينشأ في اللحظة التي تعلم فيها الدولة، أو كان ينبغي لها عادة أن تعلم، بوجود خطر جدي من ارتكاب إبادة جماعية. وأكدت المحكمة أن الدول ملزمة باستخدام جميع الوسائل المتاحة لها بشكل معقول لمنع الإبادة الجماعية قدر الإمكان.
إن هذا الواجب لا يقتصر على اتخاذ إجراءات داخلية فحسب، بل يشمل أيضاً التعاون الدولي لضمان عدم حدوث الإبادة الجماعية في أي مكان. على الدول الأطراف أن تتخذ خطوات فعالة، تشمل التدابير القانونية والسياسية، لضمان منع ومعاقبة الأعمال التي قد تؤدي إلى الإبادة الجماعية. تتضمن هذه الخطوات تجريم الأفعال المرتبطة بالإبادة الجماعية في تشريعاتها الوطنية، وملاحقة ومعاقبة الأفراد المسؤولين عن ارتكابها.
وتتطلب الاتفاقية من الدول الأطراف أيضاً دعم الجهود الدولية لتحقيق العدالة في حالات الإبادة الجماعية، مثل التعاون مع المحاكم الدولية وتقديم المساعدة اللازمة للتحقيقات والملاحقات القضائية. وكذلك تعزيز الوعي والتثقيف حول مخاطر الإبادة الجماعية وأهمية منعها يعد أيضاً جزءاً من الالتزامات الواقعة على عاتق الدول الأطراف.
فمن خلال الامتثال لهذه الالتزامات، تساهم الدول في الحماية من جريمة الإبادة الجماعية وتعزيز الأمن والسلم الدوليين. يجب على المجتمع الدولي الاستمرار في مراقبة وتنفيذ هذه الالتزامات لضمان عدم تكرار فظائع الماضي وحماية حقوق الإنسان الأساسية.
بالتالي إن الالتزام بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ليس محدودًا بالإقليم الجغرافي، بل يقع على عاتق جميع الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية واجب منع ومعاقبة انتهاكات جميع الدول الأخرى لالتزاماتها بموجب الاتفاقية، الاتفاقية لا تفرض حدوداً إقليمية، بل تؤكد على أهمية التعاون الدولي “من أجل تحرير البشرية من هذه الآفة الشنيعة”، وقد أكدت محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود أن على الدول واجب منع الإبادة الجماعية، مشيرة إلى أن “الالتزام بمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية تفرضه اتفاقية الإبادة الجماعية على أي دولة طرف، في حالة معينة”، إذا كان لديها القدرة على المساهمة في كبح ارتكاب الإبادة الجماعية بأي درجة، وبهذه الطريقة، فإن “الجهود المتضافرة التي تبذلها عدة دول، وامتثال كل منها لالتزامها بالمنع”، يمكن أن تحول دون ارتكاب الإبادة الجماعية عندما تكون جهود دولة واحدة وحدها غير كافية.
حالياً، لدى الدول معرفة كافية بوجود خطر جدي بحدوث إبادة جماعية في غزة، مما يستدعي واجبها في منع الإبادة الجماعية، ويتم تفعيل واجب منع الإبادة الجماعية “في اللحظة التي تعلم فيها الدولة، أو كان ينبغي لها عادة أن تعلم، بوجود خطر جدي بارتكاب إبادة جماعية”، وكما رأت محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، فإن المعرفة الفعلية أو البناءة بخطر الإبادة الجماعية يمكن إثباتها من خلال الأدلة التي تفيد بأن مسؤولي الدولة كانوا على علم مباشر بخطر الإبادة الجماعية، وتصريحات مسؤولي الدولة التي تعترف بادعاءات الإبادة الجماعية، والقلق الدولي بشأن ما يبدو من المرجح أن يحدث في المنطقة ذات الصلة (بما في ذلك من خلال قرارات محكمة العدل الدولية نفسها)، أو معرفة وجود “مناخ من الكراهية العميقة الجذور” بين المجموعات العرقية المختلفة. وهذا من شأنه أن يثبت أن الدولة “لا يمكن أن تكون غير مدركة” لخطر احتمال حدوث إبادة جماعية.
إن معقولية الخطر الوشيك المتمثل في قيام إسرائيل بانتهاك حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من الإبادة الجماعية وغيرها من أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، والحاجة الملحة إلى اتخاذ تدابير لحماية هذه الحقوق، قد اعترفت بها محكمة العدل الدولية وأصدرت أوامر التدابير المؤقتة في القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا بشأن انتهاك إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية، منذ منتصف أكتوبر 2023، أصدر العديد من خبراء القانون الدولي الرسميين، والمقررين الخاصين وآليات الأمم المتحدة، وكبار مسؤولي الأمم المتحدة، وكبار الباحثين والممارسين في القانون الدولي ودراسات الإبادة الجماعية، ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان ذات المصداقية، تحذيرات وإعلانات متكررة لتنبيه المجتمع الدولي لخطر – أو التطور الفعلي – للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التصريحات الصادرة عن مسؤولي الدولة، مثل المسؤولين في الولايات المتحدة، تثبت أن الدول الثالثة قد تم إخطارها بشأن الشواغل المتعلقة بالإبادة الجماعية، وكما حكمت محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، فإن حقيقة أن المسؤولين كان بحوزتهم “معلومات، تعرب عن قلقهم البالغ”، تثبت المعرفة، حتى لو لم يكن هناك “يقين” بأن الإبادة الجماعية كانت على وشك ارتكابها أو أنها جارية، فإن وعيهم بالمخاطر الجسيمة يؤدي إلى تطبيق واجب منع الإبادة الجماعية.
وبالتالي، يمكن إثبات أنه في هذا الوقت، علمت جميع الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية، أو كان ينبغي لها أن تعلم، بالمخاطر الجسيمة التي ينتهكها الكيان الصهيوني، ولا يزال ينتهك التزاماته بموجب أفعاله في غزة، مما يؤدي إلى تفعيل واجب منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بالتالي إن الامتثال لهذه الالتزامات لا يقتصر فقط على الاعتراف بالخطر، بل يتطلب اتخاذ إجراءات فعالة وشاملة لمنع وقوع الإبادة الجماعية ومعاقبة المسؤولين عنها، بما في ذلك التعاون الدولي وتقديم المساعدة للتحقيقات والملاحقات القضائية، وضمان عدم تكرار مثل هذه الفظائع في المستقبل.
من هنا، يتضح لنا، أن الالتزام الدولي بمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية يمثل واجباً أساسياً يتجاوز الحدود الإقليمية ويستند إلى المبادئ الأساسية للقانون الدولي. إن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 تضع على عاتق الدول الأطراف مسؤولية كبيرة في اتخاذ التدابير اللازمة لمنع وقوع هذه الجريمة الشنيعة ومعاقبة مرتكبيها، ويشمل ذلك التعاون الدولي وتقديم الدعم اللازم للتحقيقات والملاحقات القضائية لضمان عدم الإفلات من العقاب.
وفي ضوء الوضع الراهن في غزة والمخاطر الجدية التي يواجهها السكان الفلسطينيون، يصبح من الضروري أن تتحرك الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية بسرعة وحزم، كما يجب على الدول أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة لها، بما في ذلك الإجراءات التشريعية والتنفيذية، والتعاون مع المنظمات الدولية والمحاكم المعنية، لمنع وقوع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة المسؤولين عنها، بالتالي إن تفعيل المواد ذات الصلة في الاتفاقية، مثل المادة الثامنة التي تتيح طلب التدخل من أجهزة الأمم المتحدة، والمادة التاسعة التي تمنح الاختصاص لمحكمة العدل الدولية، يمثل خطوات حيوية في هذا السياق.
ويتطلب الامتثال لهذه الالتزامات القانونية الدولية التزاماً جماعياً من المجتمع الدولي للعمل من أجل حماية حقوق الإنسان وضمان العدالة والسلام العالميين، ومن خلال تنفيذ هذه الالتزامات بشكل فعال، يمكن للدول الأطراف في الاتفاقية أن تساهم في منع تكرار الفظائع التي شهدتها الإنسانية في الماضي، وتعزيز الأمن والسلم الدوليين في غزة ومناطق النزاع الأخرى، إن الالتزام بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ليس مجرد واجب قانوني، بل هو واجب أخلاقي يعكس قيم الإنسانية المشتركة ويسعى إلى تحقيق مستقبل أكثر عدلاً وسلاماً للجميع.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.