حملت الذاكرة الوطنية لشهر يوليو في مصر والوطن العربي أحداثا كبرى، غيرت تاريخ العالم العربي وضمن هذا الذاكرة فقد نشرت محطة (dmc) التلفزيونية الجزء الأول من فيلم وثائقي مهم جدا ومفصل حول تاريخ مصر، ثم نشرت المحطة لاحقا الجزء الثاني وكليهما تناول الأحداث الفاصلة في التاريخ الحديث منذ أولى محاولات مصر لإلغاء اتفاقية قناة السويس على يد رئيس وزراء حكومة حزب الوفد مصطفى النحاس في أواخر العهد الملكي والذي أثار الأمر ليصبح رأيا عاما عبر عنه أبناء الشعب المصري من خلال تصعيد فدائي في مدن القناة قابلته قوات الاحتلال الانجليزي بالحديد والنار في واقعة الاعتداء قسم شرطة الاسماعيلية واتهام الشرطة المصرية بتسليح الفدائيين واخفائهم داخل اقسام الشرطة، ليسقط على إثرها عدد من الشهداء والمصابين في ٢٥ يناير ١٩٥١م، بعدها وكرد فعل مباشر حدث حريق القاهرة الشهير الذي التهم أجزاء من وسط القاهرة في ٢٦ يناير، وفرضت إقالة النحاس باشا على الملك فاروق كأمر واقع من قبل قوات الاحتلال الانجليزي، لكن هذه الاحداث ساعدت في تعجيل دورة الزمن لاعلان أكبر حدث في تاريخ مصر الحديث واعلان ثورة الضباط الأحرار في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م والتحول من النظام الملكي الى النظام الجمهوري ومواجهة ميراث ثقيل من الاستعمار، أحكمت فيه بريطانيا قبضتها على الشرق من خلال سيطرتها على مصر، التي كانت تمثل القلب في قارتي آسيا وافريقيا، ولكن هذا التاريخ الاستعماري الأليم تغير في ظل وجود قيادة محورية أمسك بزمامها قائد شاب خرج من بين أبناء مصر ليحقق أهم معادلة وطنية في تاريخ مصر الحديث.
الفيلم الوثائقي يكشف محطات مهمة تحدث عنها عدد من الأكاديميين عن اتفاقية الجلاء مع الانجليز وصفقة الأسلحة السوفيتية لمصر وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي وبناء السد العالي وتمويل بناء السد، كما يكشف الفيلم المعنى الحقيقي لقيادة وزعامة جمال عبدالناصر وأدواره المحورية ومنجزاته الفارقة كزعيم وطني في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وقد أبدعت المحطة في تسجيل هذا الوثائقي الذي أرخ لمرحلة عظيمة من تاريخ الكرامة العربية في العصر الحديث، والتي لم تقتصر نتائجها ومنجزاتها على مصر وحدها، بل امتدت لمختلف أرجاء الوطن العربي عموما، فقد كانت فيه القومية العربية رابطة جامعة لا تتزعزع ومصدا” للتيارات الاستعمارية، وسدا مانعا لاي اختراق صهيوني رغم ضعف المصادر والموارد العربية، وهنا رابط الفيلم– الجزء الأول:
https://youtu.be/FZ0qmsa65T8?si=gLwaWbqGDIbagMOI
الجزء الثاني
https://youtu.be/lQyuK2bdd5A?si=HVFtrF5tAbd9-Cm7
الفيلم الوثائقي تناول الأحداث التاريخية بمهنية ودقة عالية بالسرد من قبل المتحدثين وهم جميعا من الاكاديميين العرب والانجليز الذين تحلوا بالمصداقية، وقد كشفوا الكثير من التفاصيل والحقائق التي يعتز بها كل مواطن عربي بدءا من توقيع اتفافية الجلاء عام ١٩٥٤م واصرار الانجليز على ابقاء شرط تدخلهم في أي وقت لحماية القناة في حال أي عدوان ولم يدر بخلدهم أن قرار الحرب على السويس سيعلن من لندن بعد عامين من ذلك التاريخ، ثم يتعرض الوثائقي الى العلاقة بين الرئيس جمال عبدالناصر ورئيس الوزراء انتوني إيدن الذي زار القاهرة قبل ذلك ولم يجد تلك المجاملة والحفاوة التي اعتقد انه سيجدها في اللقاء كممثل لامبراطورية عظمى، ليصبح عبدالناصر العدو اللدود له، كما يتطرق الفيلم الى توجه عبدالناصر نحو الشرق بعد رفض الغرب في تزويد مصر بالسلاح الذي يحتاجه لمواجهة كيان الاحتلال، فوجد عبدالناصر ما يريده لدى السوفييت بل وظف هذه العلاقة من خلال رغبة الاتحاد السوفيتي بالوصول الى المياه الدافئة وظفها كما اقتضته الظروف لبلد محوري يساند حركات التحرر في الوطن العربي، ويتصرف باستقلالية عن القوى العالمية، وتطرق الفيلم كذلك الى قصة بناء السد العالي بشكل مفصل ورفض البنك الدولي مبدئيا منح القرض لمصر فكان الوقت مهيئا لقرار التأميم، والتأميم لم يكن قرار لحظته التاريخية، بل كان هناك تخطيط معد سلفا من خلال مكتب سري في رئاسة الوزراء لمتابعة مشروع التأميم منذ نجاح الثورة، وكل ما كان ينتظره عبدالناصر هو الوقت المناسب لاعلان ذلك القرار، فوجدت الظروف نفسها في اتخاذ سلسلة قرارات تاريخية، وضعت مصر وعبدالناصر في صدارة المشهد السياسي العالمي منذ ذلك التاريخ، كما أن هناك تفاصيل أخرى تبين المعنى الحقيقي لتلك المرحلة من تاريخ مصر ووجود قيادة استثنائية تمثلت في الزعيم جمال عبدالناصر. لم يركز الوثائقي على تاريخ عبدالناصر بقدر ما كان يركز على تلك القرارات التاريخية والتحديات التي واجهتها مصر منذ بداية عهد ثورة يوليو ١٩٥٢م، ولكن اسم عبدالناصر كان أحد أسرار النجاح المصري بل والعربي عموما نظرا لوجود قائد محوري التفت حوله الجماهير العربية من المحيط الى الخليج، فكان صمام التوازن في الوطن العربي على الصعيد الرسمي ومصدا لرياح الاستعمار، وكان أبرز خطوط التأثير في تحرير الاقطار العربية، وفي إعلاء فكرة القومية العربية والالتزام بها كمنهج وجداني رسمي وشعبي يسود الجغرافيا العربية، وكانت قيادته نموذجا للعدالة الاجتماعية، وقد حقق ثورات عدة في مختلف المجالات الصناعية والزراعية والتعليمية في ظرف زمني وجيز، فأصبحت القاهرة محورا للأحداث العالمية وضعت بصمتها وانطلقت اشعاعاتها في مختلف العلوم والفنون، وارتبط العالم بمصر لتشكل إحدى الأثقال العالمية، وبصفتها المحورية بين دول العالم الثالث نجحت مصر في تشكيل جبهة عالمية داعمة للقضايا العربية، وهكذا عندما تمتلك الامة قيادة محورية توظف الظروف لصالح الأمة بإرادة وعزيمة واخلاص، وهنا يتبين أن هذه الأمة تمتلك من القوة والثروة ما يؤهلها لتحقيق نهضة عملاقة إن تحققت عناصر المعادلة.
هكذا كانت احداث الفيلم الوثائقي الذي يعتبر مرجعا من مراجع التاريخ الحديث لمصر، ومدى تأثيرها في صناعة الأحداث بالوطن العربي والعالم.
خميس بن عبيد القطيطي