أحسب ما يدور في منصات التواصل الاجتماعي، أمرا يدعو إلى القلق ويدق ناقوس الخطر، خاصة أنه بات يمس الإنسان في عرضه وكرامته وإنسانيته ووجوده وأخلاقه وهويته، ويراد به إفراغه من كل مقومات الشخصية المتوازنة والإنسانية الراقية، لتتجه به إلى الغوغائية والهشاشة الفكرية وغياب الهدف، ونفوق الاخلاق، وتعظيم التراكمات السلبية المتجهة بالإنسان إلى قعر الدناءة وقبح السلوك والسقوط الأخلاقي، حتى يتنازل عن خصوصيته وثوابته وجوهر مبادئه وأخلاقه، التي هي حصنه الحصين وزاده الذي يتميز به ويتجمل فيه، ويصنع له حضورا وهيبة وقوة ومضاء.
إن ما يدور في فلك المنصات الاجتماعية من تشوهات فكرية وتقزيم للصورة الاجتماعية وتحجيم السمت والسلوك الاجتماعي والفطري، والذي باتت تتدخل فيه أيدي العبث ويقاس فيه العمل بالمال وحجم الحوافز والهبات والشهرة، ويتسع في قناعة مريديه كلما ابتعد المحتوى عن المصداقية والالتزام ووقف في وجه المسؤولية والاحتشام، لينال بغيته من التطبيل والتصفيق والظهور، يتناقله العامة والخاصة، معلبات فارغة تختزل معايير السمو والقيم والنهوض والرفعة، لا تتعدى في محتواها مساحيق التجميل وخلطات الوجه والدعاية للملابس وغيرها، في تمجيد لثقافة الاستهلاك ودعوة إلى الاسراف والتبذير وإنفاق كل ما في الجيب، فلا أمان في المنصات الاجتماعية على القيم والخلاق، ولا أمان على المال والفرص، ولا أمان على النفس والشرف، فمن يتأمل ما يدور في خلد من يسمون بالمشاهير الذين غثت بهم الأرض وضاقت بهم الفضاءات، يجد بأنها نكبات وغربة تعيشها الأمة في شبابها وناشئتها، ونسائها في ظل غياب الوعي، وفي إطار المساومات والمزايدات، التي يراد منها إحداث مساحة الخلل التي سيقضي على السمت والشمائل والحشمة والذوق، بتعظيم دور الجسد في الحصول على الشهرة، بما فيه من خروج عن المألوف، ونفوق في مبادئ الستر والعفاف، وغياب لماء الحياة، وتمييع في الشخصية، واثارة في الحركات والتصرفات، فالهدف الوصول إلى الترند في أعداد المتابعين والمعجبين والمصفقين وغيرهم، وهكذا تضيع المبادئ والأخلاق وتغيب المروءة والخصوصيات أمام هذا التصنع الجسدي، بما يحمله من وسائل الاثارة والإغواء والإغراء والتغنج والتبذل.
أتدرون ما أثمر عنه هذا التيه الحاصل وغياب الردع القانوني والاجتماعي الصارم والتساهل السلبي في التعاطي مع الثوابت؟، أن نشط التافهون، وتربع المتسلقون في غير مواقعهم، وتسلط الأقزام على الطفولة والشباب يوجهونهم كما أرادوا، حتى زاد الهرج والمرج، واتسع المحتوى الهابط، وأفلت الرجاحة الفكرية، وزاد الجهل في زمن العلم، وغاب العلم في الفوضى الكلامية، واتسع التنمر الفكري، وأصبحت التناقضات صورة معبرة عن الواقع، بل نتج من هذا التخبط من يسيء للدين ويظلم الوطن ويتعالى على الخلق، وينتصر للأنانية، ويحتكم إلى السلطوية والفردانية، ويتجه للشهوانية في هروب من الواقع، وتضييع للمشتركات، وتقليم للخصوصيات، وتعتيم للتجليات، ودعوة للخروج من جلباب الحقيقة والحقوق، والرجولة والشهامة، والالتزام والشموخ، ليتجه الأمر إلى الشائعات وكلام المعصرات، وسفاسف الأمور، وتسويف الالتزام، والعبث بالوقت والجهد، والضحك على الناس واستحمار عقولهم، والدخول بهم في كومة التناقضات، حتى يغيب لديهم الهدف، وتضيع الأولويات، وتذهب الغيرة، ويتجه الاهتمام في البحث عن الزلات والسقطات، التي تجلب المتابعين، ويتفاعل معها العاطلين.
لقد ضاعت الحقيقة في هذه المنصات الاجتماعية وعلى أيدي مشاهير الفلس، عندما سلبت من جيل التقنية الإرادة، وعززت فيهم أحادية الصورة، واتجهت بهم إلى الدفاع عن أنانية المصالح، وتحقيق الأرباح، والاحتكام إلى ميزان الربح والكسب، وأصبحت القيم والأخلاقيات والالتزامات والثوابت مفردات للمساومة عليها والنيل منها وتشويه صورتها، فتارة ينظر إليها على أنها خارج السرب، وأنها تتقاطع مع التقدم العلمي والتقني، وأنها ركون إلى التأخر والبعد عن التجديد، وأنها لا تبني مجتمعا استثنائيا في ظل ما يشهده- هذا العالم الهمجي – من تقدم مادي وتحولات في التكنولوجيا والإدارة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، حتى ليتصور أولئك الداخلون في هذه المنصات، بأن المسالة مرتبطة في مجملها بالظواهر الصوتية البصرية والشكلية التي يتبناها مشاهير الفلس بعد أن ركنت لهم الدنيا وزخرفها، وتحقق لهم من الفرص والطموح المادي ما لم يتحقق لهم بوظيفة أو مسؤولية أو منصب، وهي صورة تتجه إلى التقزّم الفكري وغسل العقول والتحكم في اذواق الناس وتفكيرهم في ظل ما تبتكره هذه المنصات والتقنية من أساليب الاغواء والاملاء، وطرق التأثير والتغرير، ولغة المقارنات والمغريات والنماذج الوهمية في تغذية عقل النشء وسلب تفكيره وتغييبها عن الوعي والادراك الفعلي لهذه التصرفات والأفكار وما يتبعها من حالة من اللاوعي والتشتت الذهني والتبلد الفكري والانقياد لرغبات النفس، ليبقى جيل اليوم تحت رحمة تأثيرهم، ما يتقاطع سلبا مع الدين والخلق والإنسانية والشرف، والمشتركات، ويصور هذا المشهور نفسه بفعله وكأنه حالة استثنائية خاصة، يعيش في برجه العاجي، وفرصه التي تكاد تتجه إليه من كل حدب وصوب.
عليه لم تعد إجابتنا على التساؤلات: من صنع للتفاهة هذا الحضور؟ ومن أوجد للمحتوى الهابط هذه القيمة؟، ومن ساهم في جعل أصحابها مشاهير؟ بحاجة إلى تقصي أو بحث معمق أو استبيان أو استطلاع رأي، إذ تشير بأصابعها إلينا جميعا – جميعنا مستخدمي المنصات التواصلية أو غيرنا من أبناء المجتمع وبناته ممن أوصلنا لهم هذه التغريدات والمقاطع الصوتية والحركية أو وصلتهم بطرق مختلفة، إذ واقع الأمر يثبت بأن هذا التراخي في التعاطي مع سوءات مشاهير المنصات الاجتماعية، هو من أوجد الفرصة لنمو التفاهة وصناعة التافهين، وتقديمهم كنماذج وقدوات في المجتمع، إذ نحن من أشار إليهم، وتداول مقاطعهم ، وأثرى محتواهم، ووفر لهم فرص الدعاية والتسويق بدون أن يبذلوا أدنى جهد، ليجد هؤلاء أنفسهم محاطين بالمتابعين والمصفقين والمادحين في العالم الافتراضي أو حتى الواقعي، ولم تعد المسألة اليوم مقتصرة على مجرد تغريدات هذه الفئة وما تحمله من سلوك الوصاية والتسلط على خصوصيات المجتمع وثوابته، بل إن نتاج المتابعة والنشر والاهتمام التي يحظى به هؤلاء على النشء أكثر مما يتصوره البعض، فلا عجب أن نرى اتجاه الكثير من أبناء المجتمع مع الفكر التحريضي ونزغته الذاتية، ولا عجب أن نرى توجهات فكرية مقاومة والعياذ بالله للدين والأخلاق والقيم، ولا عجب أن نرى من يدافع عن أفكارهم ويتقمص شخصيتهم، ولا غرابة في ازدياد اعداد هؤلاء التافهين فكرا ومحتوى وأسلوبا وطريقة وشرعة ومنهجا، ولا عجب أن نرى استماتتهم في الأمور التافهة وتركهم الأولويات وتغنيهم بالشعارات البراقة التي تتجه للشكليات، وتعاقر الفضيلة والحياء، لانهم ببساطة اختبروا ضجيج الرأي العام، وتصرفات الناس فوجودها ظاهرة صوتية، تتجه لكل ناعق وتصفق لكل ناهق.
أخيرا أما آن لنا نحن المتابعين لهؤلاء المفلسين المتسلقين، بعد هذا اللغط والتنمر على الدين والقيم والأخلاق، والهوية والثوابت ، والانتصار للأنانية والذاتية وشراء الذمم في المنصات الاجتماعية، أن نعود إلى رشدنا، لنصنع من الاعتدال الفكري والسمو الخلقي والتكامل المعرفي مرحلة جديدة في إعادة بناء الذات وتصحيح المغالطات، وتجاوز السقطات، فإن الوضع كارثي لا يحتمل، والأمر جد خطير وسيخرج عن السيطرة، إن لم نرتق بأنفسنا، ونعيد صياغة ممارساتنا، ونصحّح ما علق من شوائب وتراكمات، ونبني الأطر والسياسات، ونراقب التغييرات والتحولات، ونصنع الضوابط والإجراءات. وتبقى الصورة الشكلية التي يتغنى بها مشاهير الفلس أمام الجمهور المحزون والمقهور الذي بات يبحث عن النكتة ويستمتع باللغط والصراخ، ما هي إلا ظواهر صوتية لن تصمد، وأبواق فارغة نفختها رياح المال والشهرة، حيث لا بقاء لها أمام عظمة الكلمة الصادقة والإنجاز الحسن، فأني لهؤلاء أن يكونوا قادة للتطوير وقدوة للناس، وأنى لهم أن يقودوا الفكر الجديد للمجتمع؟ وكيف ترضى المؤسسات أن تمنحهم هذا الحق وقد ظهر منهم ما يسيء للدين والخلق والإنسانية والوطن والهوية والسمت العماني الأصيل؟ إنها دعوة لتنشيط حركة الوعي الجمعي لوقف هذه المهزلة التي يتصدها المفلسون، ويوجه بوصلتها التافهون.
د.رجب بن علي العويسي