أهل غزة يموتون حاليا ليس بسبب القذائف العمياء التي يرميها العدو الصهيوني ، وإنما الأخطر هو ما تبين من محاولة هذا العدو مواصلة إبادة شعب فلسطين جوعا وعطشا ومرضا ، والأرقام مفزعة.
هناك حرج لدي أغلب المحللين السياسيين في تناول علاقات مصر الرسمية مع الكيان الصهيوني ، لأسباب قد تكون جدية حتي ولو كانت غير مفهومة.
هناك ضآلة في المعلومات المتاحة ، مع وجود الكثير من المعلومات غير المؤكدة المنسوبة إلي مصادر مجهلة ، وبعض هذه المعلومات قد تكون بهدف التضليل ، أو لإستخدامها كبالونات إختبار علي أفضل تقدير . وكل هذا لا يتيح للمحلل الرؤية الواضحة لما يدور فعلا .
ولكن علي الأقل يمكن النظر في خطوط عامة قد تسهم في إضاءة الطريق ، فلا مفر بداية من التسليم بوجود إطار تعاقدي بين مصر وإسرائيل ، وهو إطار حاكم وملزم لا يجوز الإلتفاف حوله ، ولكن وكما يعلم الكافة فأن ” القانون ” وحده لا يفسر كل العلاقات الدولية ، خاصة في حالات التوتر والإلتهاب ، كما أن تفسير أي وثيقة دولية يتسع ويضيق وفقا للخيارات المتاحة أمام صانع القرار ، وإتفاقية فيينا لقانون المعاهدات تتيح مساحات متنوعة لإبطال بعض التعاقدات لأسباب كثيرة ، أو لتعطيل الإلتزام ببعض بنودها بناء علي إخلال الطرف الآخر بإلتزاماته .
ولكن علي كل حال ، لا يمكن لعاقل أن ينصح بصدام مع الاحتلال الصهيوني في ظل الأوضاع الحالية سواء في مصر أو المنطقة ، بل أنه قد يكون ذلك الصدام في مصلحة قادة الكيان ، الذي يتعمد التحرش لدفع مصر لإتخاذ مواقف لم ينضج لها وضعها الداخلي بعد ، أو للإمتناع عن مواقف يستدعيها الحفاظ علي التوازن الداخلي والوزن الإقليمي لمصر .
والقضية الملحة في الوقت الحالي لابد أن تدور حول حالة الإقتصاد ، وإمكانيات التعبئة ، ومآلات الإحتكاك القريبة والبعيدة ، و الأقل إلحاحا تتعلق بحسابات مكسب وخسارة، وهي كلها لا يملك أحد التيقن من دقتها ، وأسئلة أخري تتعلق بمدي تبلور توافق إقليمي ، لا يمكن الإجابة عليها دون تجربة قد تجعل الإجابة بلا معني بعد وقوع الفأس في الرأس .
إذا لا مناص من الإعتراف أن التعامل مع الوضع الحالي يتطلب ما يشبه تعامل الجراح مع ورم أو التهاب شديد ، حيث يجب إدراك وجود مسافة حرجة ما بين ” التعامل الرسمي ” كلما كان ذلك ممكنا ، وبين ضرورة التباعد المحسوب الذي يتوخي الحذر حتي لا ينتشر الورم ، أو يزيد الإلتهاب التهابا .
ربما تصلح بعض الأدوية المخدرة ، لكن من الواضح أن الجسد السياسي العام في المنطقة قد اعتادها ولم تعد تجدي ، والاوفق هو التشبث قدر الإمكان بالإطار القانوني ، مع المناورة الحذرة بالتلويح بمخاطر فقدان هذا الإطار ، دون السعي لتحقيق هذه النتيجة في الوقت الحالي .
وعلي ضوء عدم توافر كل المعلومات حول ما يدور خلف الأبواب المغلقة ، فليس من الحكمة المجازفة برسم أي خطط للتحرك ، علي ضوء المحددات السابقة .
ومن ناحية أخري ، فأنه طبقا للأوراق والأدلة المتاحة ، فإن الحكم بإدانة الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية لا جدال فيه ، ولكن بطبيعة الحال المسألة للأسف – مرة أخري – ليست قانون فقط ، بل سياسة وضغوط وتوازنات وأتمني أن يكون القضاة اقوي من كل الضغوط ، لأن القضية واضحة للعيان .
أما جدوي هذا التحرك القانوني والدبلوماسي ، فهذا سؤال كبير وهام ، وأبسط إجابة عليه هي أن فلسطين ربحت لمجرد إحالة موضوع الإبادة ضد الكيان الغاصب أمام القضاء الدولي ، وبغض النظر عن النتيجة النهائية ، فالأضواء كلها مسلطة حاليا علي جرائم الصهاينة بشكل غير مسبوق في تاريخ الصراع ، وقد أسهم غباء نتنياهو ورفاقه في تعريضهم علي مسرح الرأي العام الدولي لمدة زادت علي تسعة أشهر ، بحيث يصعب عليهم الإختفاء والتهرب .
ووفقا للمادة التاسعة من إتفاقية منع ومعاقبة الإبادة فإن المنازعات فيما بين الأطراف المتعاقدة فيما يتعلق بتفسير أو تطبيق الإتفاقية الحالية بما في ذلك المتعلقة بمسؤلية دولة عن ارتكاب جريمة الإبادة أو أي أفعال منصوص عليها في المادة الثالثة من الإتفاقية ، سوف تحال إلي محكمة العدل الدولية بناء علي طلب اي طرف من أطراف النزاع .
وقرار المحكمة ملزم للأطراف ، بما في ذلك تلك غير المشتركة في النزاع ، أي أنها تضع التزاما دوليا عاما بتنفيذ قراراتها .
ويعتبر تخلف أي دولة عن الإلتزام بالتنفيذ بمثابة انتهاك لإلتزام دولي يرتب علي عاتقها المسئولية الدولية .
علما بإن المادة الثالثة من الإتفاقية تؤثم الأفعال التالية :
أ. الإبادة .
ب. التآمر لأرتكاب الإبادة .( وهو ما يشمل كل من دعم بالتسليح أو سياسيا ).
ج. التحريض المباشر والعلني لإرتكاب الإبادة .( وهو يشمل ما يصدر من تصريحات علنية ، لأي شخص مسؤول سواء من أطراف النزاع أو من طرف ثالث ).
د. الشروع في ارتكاب الإبادة .( أي أنه لا يشترط وقوع جريمة الإبادة بشكل مادي ، وإنما يكفي لثبوت الإتهام البرهنة علي وجود تحضيرات جادة لإرتكاب هذه الجريمة ).
ه. التواطئ ( المساهمة الجنائية ) في الإبادة.( وهو يشمل كل طرف دولي شارك بفعل معنوي أو مادي في التحريض علي ارتكاب هذه الجريمة أو الإسهام الفعلي فيها ، وقد ذهب بعض الفقه إلي تأثيم موقف الصمت علي منع وقوع الجريمة إذا توافرت إمكانيات منعها لدي طرف أو أطراف دولية ).
وإخيرا ، وليس آخرا ، فأن الأوضاع المأساوية في قطاع غزة والتي تتدهور كل ساعة ، قد وصلت إلي وضع لا يمكن السكوت حياله ، فالمسألة لم تعد قاصرة علي أرتكاب مذابح دموية ، بل وصلت إلي تعمد قتل سكان القطاع جوعا وعطشا ومرضا .
وهنا ، يقتضي الأمر من مصر اتخاذ بعض التحركات العاجلة علي المستوي الدولي والإقليمي ، سبق لنا الإشارة إليها في مقالاتنا ، وأتصور أن هناك أهمية عاجلة في التوصل إلي صيغة لإعادة فتح معبر رفح في مهمة إنقاذ لسكان القطاع ، حتي ولو كان ثمن ذلك مرونة مصر فيما يتطلبه فتح هذا المعبر من وجهة نظرها .
معصوم مرزوق