جاء بيان شرطة عمان السلطانية بشأن الجناة الثلاثة المتورطين في حادثة اطلاق النار في مسجد الإمام علي بالوادي الكبير بمحافظة مسقط ، من أنهم عمانيين وهم أخوة ، لقوا حتفهم نتيجة إصرارهم على مقاومة رجال الأمن ، والتي دلت إجراءاتالتحريات والتحقيقات بأنهم من المتأثرين بالأفكار السلبية الضالة، ليضيف إلى حادثة الوادي الكبير فصلا آخر ، في خطورته وشؤمه في كونها سابقة أمنية خطيرة من نوعها تجاوزت الخطوط الحمراء ، وهزت المجتمع العماني من شماله إلى جنوبه الذي لم يعهد مثل هذه التصرفات الرعناء، ولكنها مع ذلك لا تمثل الأصالة العمانية في الاستقامة الدينية والتوازنات الفكرية والمشتركات الإنسانية التي جسدت عمق هذا المجتمع وعبرت عنه في أصعب ظروف التاريخ ومواقفها، فبينما يعيش العالم حالة الفوضى الفكرية تظلل عمان مسيرة التعايش الفكري والتسامح الديني ، ولت تكن الأرض العمانية في يوم ما بيئة مناسبة للغلو الديني والفكر التكفيري ، فإنسانها وأرضها وبحرها وسماؤها وكل من عليها يرفض هذه السطحية، وينظر إليها بكل سذاجة، لذلك لن تشكل هذه الحادثة سوى حالة طارئه لن يكون لها مدد البقاء ألا فرصة الاستمرار، فالمجتمع العماني بأصالته ووعيه وإيمانه وثوابته ومبادئه وعقيدته يرفض قطعيا هذه الأفكار المصدرة والأوهام المزيفة. فإن ما أفصح عنه الوعي الجمعي الوطني في استنكاره لهذا الحدث العابر خير شاهد حفظ عمان الأمن والسلام.
ومع الإيمان بأن التسامح الديني والتوازن الفكري في سلطنة عمان ممارسة أصيلة تتجاوز المواقف اللحظية والطارئة، حتى أصبحت ثوابت جسدتها الشخصية العمانية، وعززتها قوانين الدولة ومؤسساتها، تجلت بوضوح في التنوع الديني والمذهبي منذ وقت طويل، وتنوع المساحة الفكرية التي تتجه نحو التوازن والحيادية في قراءة الأحداث والتعامل مع المستجدات بلا إفراط أو تفريط، أو غوغائية أو ارتجالية، أو تهور أو صراخ، أو فرض سلطة الأمر الواقع أو مصادرة الفكر، ورغم محاولات التشويه للقيم والشخصية العمانية في جوهرها، في ظل تراكمات الأحداث الدولية ومشهد الحرب على غزة وموقف سلطنة عمان الثابت من هذه القضية العقدية والإنسانية والأخلاقية في رفض العدوان والمطالبة بمحاكمة إسرائيل، وفي ظل عالم تحكمه المصالح الشخصية والأنانيات وتغذية المنصات الاجتماعية لإثارة الفكر المنحرف والأفكار العشوائية وتؤججه المذهبية المضللة التي اصطلت بنيرانها دول كثيرة في المنطقة والعالم؛ إلا أن الخصوصية العمانية ظلت صلبة متماسكة في وجه طوفان المذهبية، ومحافظة على مرتكزاتها ومبادئها الداعية إلى السلام والتعاون والمحبة والحوار والتعايش والتكامل بين الشعوب وحل الخلافات بالطرق السلمية.
إنّ سلطنة عمان وهي تجسد نهج التسامح الديني والتوازنات الفكرية ممارسة أصيلة وقواعد حاكمة والتزامات تأريخية وإنسانية في ظل مستويات عالية من الثبات والمصداقية المتناغمة مع طبيعة التحولات والمستجدات التي يشهدها العالم، تنطلق من إيمانها بأن تربية الناشئة العمانية على التوازنات الدينية والفكرية في إطار الهوية والخصوصية والقيم والأخلاق العمانية الأصيلة، ومبادئ الحق والعدل والمساواة، إنما يضمن بذلك طريق القوة في استيعابمواطنيها لأحكام الشريعة ومنظوراتها المتوازنة للحياة والكون والإنسان، بما يجنبها الشطط والأحكام المسبقة ويقيها الانحراف الفكري والإفلاس القيمي والأخلاقي، وقد أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه في أكثر من خطاب على أهمية هذه الثوابت والقيم في تحقيق التوازناتالفكرية وتأصيل مبادئ التعايش والتسامح والحوار والتي أنتجتها سلطنة عمان من رحم الظروف وقسوة العيش، واستطاعت من خلالها أن يكون لها موقعها الحضاري في السياسة الدولية التنموية والإصلاحية.
وفي ظل هذه التباينات الفكرية والمحتوى التحريضي، يأتيالحديث عن دور المنظومات التعليمية والدينية والتشريعية والقضائية والقانونية والمهنية في تعزيز الحس الأمني الأصيل الذي ولدته الأرض العمانية، ما يعيد إلى المشهد دور الأسرة والمدرسة كأهممؤسسات البناء الفكري الأصيل، التي تكسب النشء حصانة ذاتية تقف في وجه الفكر السلبي الطائش والحركات التحريضيةالجبانة ، وتجسد صورة عملية في فقه الناشئة القائم على الاستشعار بالمخاطر الفكرية والأمنية ومعرفة مصادرها، وانتهاج بدائل وسيناريوهات أكثر ابتكارية في سبيل مواجهتها باستخدام أفضل الأساليب وأنجع الأدوات، والتنبؤ بالمواقف الأمنية المختلفة والسيطرة عليها قبل وقوعها، من خلال عناصرها ومكوناتها المختلفة ، ومسؤولياتها في الاهتمام بإنتاج النماذج وصناعة القدوات وبناء القدرات، والاهتمام بأساليب التوجيه القائمة على الاحتياج الفعلي المبني على الحوار والتسامح والنقد الهادف البناء، وتعزيز ثقافة الوعي والمبادرة والتجديد والتطوير، وتعزيز قيم الولاء والانتماء، وإتاحة الفرص للنشء لمزيد من الابتكار والخيال العلمي ، وتعزيز الاتجاهات الإيجابية وتغيير القناعات السلبية عبر تكوين مناخ إيجابي وثقافة نوعية واعية ومنفتحة للبيئة والعالم الآخر، وقادرة على بناء شخصية المواطن من جوانبها المختلفة، واحتواء المواهب وإبرازها وتبنيها بالرعاية والاهتمام والتحفيز المستمر والتدريب المباشر والفعال، واحترام ميول النشء واختياراته وخياراته المهنية ليكونوا قادرين على البناء وتحمل المسؤولية.
وتبقى صورة التشوهات التي أفصحت عنها حادثة الوادي الكبير، محطة لاستجلاء الصدأ، وبناء سيناريوهات عمل في تعزيز البناء الفكري الرصين، وإقصاء التشويه والنفوق الأخلاقي وغربة القيم وحالة الإفلاس الفكري والتبلد الذهني التي ترافق النشء في تعاطيهم مع المنظور الديني والمكون الاجتماعي والحلال والحرام والخلاف والاختلاف ، وما قد ينتج عن فجوة ربط النشء بقيمه وأخلاقه ومبادئه وثوابته من تحديات على واقعه في ظل اتساع ممارسة الفكر السلبي بين مختلف فئات المجتمع ، وما أوجدته من اتساع للجرائم والظواهر السلبية والممارسات غير الأخلاقية والخروج عن المألوف من طباع الفطرة والعادات الحسنة ، محطات تؤكد الحاجة إلى مراجعة جادة لأساليب التوعية والتثقيف ونمط الخطاب الأبوي والديني والمؤسسي واحتواء لمحطات الفراغ التي يعيشها النشء في أحضان المنصات الاجتماعية ووصاية المتسلقين والمشاهير .
من هنا فإن تأصيل البناء الفكري وتقوية السلوك الآمن في حياة النشء محطة لإعادة انتاج الحياة في صورتها المتجددة، خارج إطار الأوهام والخرافات والتخيلات السلبية والقناعات غير السارة والغلو الديني والفكر التكفيري الطائفي المتطرف، والإرهابالمشين ، وعبر رفع درجة الوعي الجمعي وترقية النقد الذاتي القادر على صناعة الإلهام في حياة النشء، وإخراجه من كومة التراكمات السلبية والأفكار الأحادية والصورة القاتمة التي يصوّرها لهم الإعلام الهابط المفلس الذي يركز على نشر المذهبية وتأجيج الطائفية وتصدير الإرهاب عبر منصات الترويج والدعاية والإعلاناتالتجارية التي تتعدى خطوط العروية والقيم والمبادئ وتتجاوز الخطوط الحمراء.
أخيرا تبقى هذه الترهلات الفكرية الضالة، والمشوهات المعرفية المنحرفة نحو الآخر المختلف، في المذهب والدين؛ التي أفصحت عنها حادثة الوادي الكبير، والإيديولوجيات العالمية العبثية في نشر الكراهيات وتصدير الإرهاب وإقلاق المجتمعات الآمنة ونثر بذور الفتنة وجذور الطائفية ، نباتات سامة لا تقبلها التربة العمانية، التي لا تنبت إلا طيبا، بحيث تتجه أنماط التفاعل معها نحو إظهار البعد السلبي لها وتثقيف المجتمع بملابساتها وأسبابها ومسبباتها والظروف التي ظهرت فيها، ثم التطوير الذي صاحبها، وما تفصح عنه أجندة هذه الحركات اليوم، وتأثيرها على المجتمع ككيان اجتماعي وأسري ، والمجتمع كهوية ومنظومة قيمية وأخلاقية ودينية. وبالتالي يبقى التساؤل كيف يمكن توظيف الفرص والمكاسب الوطنية المعززة للثوابت والتسامح الديني والتوازن الفكري والتي أصلتها المنظومة التعليمية والدينية والأمنية بسلطنة عمان خلال ما يزيد على خمسة عقود مضت من تحقيق البناء الفكر الإيجابي ، وما هي الثغرات السلبية التي تحتاج إلى التركيز عليها في المرحلة القادمة في ظل حادثة الوادي الكبير والصورة السلبية القاتمة التي نتجت عن موجة الأفكار والمفاهيم والظواهر السلبية ؟ ؛ إن الإجابة عن هذه التساؤلات تضعنا اليوم أمام الحاجة إلى جهد وطني موحد ، ينطلق من الثوابت العمانية في النظام الأساسي للدولة وتجسده رؤية عمان 2040 وأهدافها الاستراتيجية ومحاورها المعززة للأمن الفكري والحس الأمني والهوية والقيم والأخلاق والمبادئ العمانية بما تؤسسه في النشء من مسار الأمن الفكري النابع من جوهر المبادئ والقيم العمانية ، لتشكل نبراسا ينير لأجيال الغد الطريق نحو استشراف مستقبل زاهر تنمو فيه مناخات الثقة والتعاون والتكافل، وتتأصل فيه فرص التسامح والتعايش والتعددية والسلام.
د. رجب بن علي العويسي