غياب روسيا وحضور “إسرائيل” هل يجب أن تكون الرياضة بعيدة عن السياسة؟
عندما يتم تغليف السياسة بلبوس رياضي تفقد الرياضة معانيها، وتسفر السياسة عن وجهها القبيح، وبخاصة عندما يكون الفاعل والموجه يتجاوز الحدود الجغرافية للدول، ويستبيح سياداتها إما برضا النخب السياسية الحاكمة ومشاركة منها، أو بفعل الفروقات الكبيرة في موازين القوى والتخوف من التبعات، فيتم الانصياع لإرادة أصحاب القوة والسطوة والنفوذ، لكن القبح السياسي يظهر بوقاحة أكبر عندما تكون السياسة الرسمية للدولة متماهية مع من يتحكمون بالكثير من مفاصل صنع القرار الدولي، وهذا ما ينطبق على فرنسا ــ ماكرون الدائرة في الفلك الصهيو ــ أمريكي،
والمتماهية مع كل ما تصدره حكومة الظل العالمية التي توزع الأدوار وتسند المهام بما ينسجم والإمكانيات الذاتية الخاصة
بكل طرف من الأطراف المنفذة للسياسة النيوليبرالية المتوحشة
والمنتصرة على نفسها بتحطيمها المستمر للسقوف التي تبلغها في ظل صمت دولي مطبق
إلا ممن يحملون في جيناتهم مورثات السيادة ورفض التبعية
ويستندون إلى تاريخ زاخر من الحضارة الإنسانية المتأصلة
كما هو حال روسيا الفيدرالية التي استعادت عافيتها، وعملت بقيادة الرئيس بوتين وما تزال على إعادة شيء من التوازن إلى العلاقات الدولية التي أحكمت الولايات المتحدة الأمريكية قبضتها عليها، وكادت أن تحول القرن الحالي إلى قرن أمريكي صرف، وفق ما تضمنته الاستراتيجيات الأمريكية المعلنة منذ ثمانيات القرن الماضي.
لا شك أنه من الغريب والمستهجن التغييب القسري للرياضيين الروس
وحرمانهم من المشاركة في أولمبياد باريس 2024م، لكن بوقفة متأنية مع مفرزات السياسة الأمريكية بخاصة
وسطوة النيوليبرالية المتوحشة يتضح أن خرق القوانين المرعية
والأعراف والقيم والأسس الناظمة للعلاقات بين الدول جزء أساسي
من قرارات من يرغبون بفرض سيطرتهم على العالم، ويزعجهم أن يروا قوة عظمى مثل روسيا الفيدرالية
لا تسمح لهم بفرض إرادتهم عليها، وهي تملك من عوامل القوة الشاملة ما هو كفيل بتمكينها من رفض كل ما لا تقتع بصحته وصوابيته
وهنا يظهر التوحش والعدوانية عبر الأذرع الخفية المنتشرة
في بقية المنظمات والمؤسسات واللجان الدولية الدائرة في الفلك الأمريكي
بإشراف نيوليبرالي معصرن يجيد توزيع الابتسامات، واقتناء أحدث موديلات ربطات العنق والأحذية، وأفخر أنواع السيارات الفارهة والكثير
من مظاهر الترف والبذخ التي تشكل القاسم المشترك بين العاملين في تلك المؤسسات والمنظمات واللجان ومن ضمنها تلك المسؤولة عن تنظيم الألعاب الأولمبية التي اتخذت قرارها بحرمان روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في أولمبياد باريس 2024 تحت ذرائع باطلة وواهية، ولا تمت إلى الرياضة العالمية وقوانينها الناظمة بصلة، بل تتضح خلفيتها المسيسة بفجاجة ووقاحة منقطعة النظير، كشكل من أشكال الانتقام من روسيا التي قالت للناتو “كفى” تمدداً نحو الشرق واقتراباً من الحديقة الخلفية الروسية.
تعاقب روسيا رياضياً لأنها منعت استمرار الاعتداءات الأوكرانية على المواطنين الروس
ولأنها عملت على تحصين أمنها القومي، ومنعت محاصرتها عبر البوابة الأوكرانية
وقامت بعمليتها الخاصة على الاتجاه الأوكراني دفاعاً عن سيادتها
وردعاً لاستمرار الناتو بضم العديد من الدول إلى تركيبته
مع أن ما تم الاتفاق قبل الإعلان عن تفكك الاتحاد السوفييتي يتضمن ألا يتوسع الناتو بوصة واحدة باتجاه الشرق…
تعاقب روسيا رياضياً وتحرم من المشاركة لأنها ترفض تحويل مجلس الأمن إلى منصة متقدمة
لفرض الإرادة الأمريكية، وتعاقب روسيا رياضياً لأنها تقف مع القضايا العادلة للشعوب
وحقها في تقرير مصيرها، وتعاقب روسيا رياضياً لأنها تصدت وبكفاءة عالية للإرهاب التكفيري الداعشي
الذي فرخته الاستخبارات الأمريكية باعتراف المسؤولين الأمريكيين أنفسهم..
تعاقب روسيا رياضياً لأنها تنسج علاقاتها مع العملاق الصيني وبريكس وبقية الدول بما ينسجم والمصالح القومية الروسية العليا.
الغريب والمستهجن أن روسيا التي حررت العالم من خطر النازية في الحرب العالمية الثانية وقدمت ملايين الشهداء لوقف الزحف النازي والقضاء عليه توضع في قلب الاستهداف من النازيين الجدد الذين لا يرون في كل الجرائم المروعة التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي وعلى امتداد قرابة عشرة أشهر ما يستوجب رفع الصوت في وجهه لإيقاف حرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري للفلسطينيين في غزة… “إسرائيل”
التي قتلت بأسلحة الفتك والإبادة الأمريكية قرابة أربعين ألف فلسطيني إضافة ألى تسعين ألفاً آخرين
من الجرحى والمصابين غالبيتهم من الأطفال والنساء والطواقم الطبية والإعلامية والرياضية
تشارك في أولمبياد باريس 2024 في حين تحرم روسيا وبيلاروسيا من المشاركة… “إسرائيل”
التي مزق مندوبها ميثاق المنظمة الدولية من منصة المنظمة الدولية
والتي تضرب عرض الحائط بجميع قرارات مجلس الأمن وبقية المنظمات الأممية
وتستمر في احتلال أراضي الآخرين بالقوة، وتفرض سجناً جماعيا على أهل غزة على امتداد عقود
ويتباهى زعماؤها بالدعوة لقصف غزة بالقنابل النووية، وقتل الأسرى، وتجويع الملايين المحاصرة
ومنع دخول المساعدات الإغاثية الإنسانية إلى الأطفال والنساء والمرضى
وتسوية مستشفيات غزة ومدارسها وكنائسها وجوامعها وبنيها التحتية بالأرض، وعلى الرغم من ذلك كله يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي من الكونغرس الأمريكي إصراره على الاستمرار بمجازره حتى لو لم يبقَ حجر فوق حجر، ولو لم يبقً فلسطيني حي …”إسرائيل”
هذه تشارك في أولمبياد باريس 2024، ويستقبل لاعبوها من قبل حكومة ماكرون واللجنة المنظمة
وتقدم لهم كل الرعاية كما يطلبون وفوق ما يطلبون، في حين يمنع الرياضيون الروس من المشاركة
ويحرمون من حقهم برفع علم دولتهم كبقية دول العالم…إنه المجون السياسي والعري الأخلاقي والإنساني المحكوم بالهزيمة طال الزمن أم قصر.
اولمبياد فرنسا، رسائل حفل الافتتاح بين الدين والشذوذ، ماذا أراد ماكرون؟
هكذا وبدون مقدمات تحول أولمبياد باريس 2024 من نشاط إنساني راقٍ
يجب أن يساهم في نشر المحبة والتواصل وبناء علاقات طيبة قوامها الاحترام المتبادل وتقديم الأفضل والأجود
وتعميق الخبرات والمهارات الرياضية وتبادلهما في جو من التنافس الموضوعي الخلاق بين اللاعبين
من مختلف دول العالم إلى منصة متقدمة للانتقام السياسي حيناً
وللترويج للمثلية والشذوذ الجنسي والأخلاقي أحياناً أخرى، وليت الأمر توقف عند ذاك الحد
لكن للأسف ليت ولعل وعسى لا تغير ما حدث في افتتاح الأولمبياد
وخلَّفَ الصدمة والذهول لدى المتابعين، فضلاً عن الغصة والشعور بالغضب أمام الاستهزاء
بالدين والرسل والقيم الإنسانية والمثل الأخلاقية العليا التي من حق كل إنسان وواجبه
أن يرفع الصوت عندما تستباح، ومن غير اللائق والمقبول
أن تنطلق فعاليات أولمبياد باريس بإساءات متعمدة للمسيحيين في شتى أنصار المعمورة.
صحيح أن حرية التفكير والمعتقد وأنموذج الحياة الخاص بالأفراد والمجتمعات
من الحقوق والحريات التي يجب صيانتها، إلا أن ممارسة
ذلك وفق نهج النيوليبرالية المتوحشة يجعل من هذه المصطلحات حصان طروادة
لنسف الأخلاق وتدمير القيم وكل ما يرتبط بالخلية الأساسية للمجتمع متمثلة بالأسرة وعلاقاتها مع بقية الأسر في هذا المجتمع أو ذاك
ولا يجد المتابع كبير عناء ليتأكد أن النيوليبرالية المعاصرة لا يعنيها شيء إلا فرض قناعاتها ونموذج الحياة المجتمعية
الذي يسيطر على عقول صقورها وحاملي رايتها وتعميم ما يريدونه
على المجتمع البشري بشتى الطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة
وقد سوغت لهم نزعة التفوق وهوس السيطرة ومصادرة إرادة العالم أجمع العمل بكل السبل على تشويه القناعات وطرائق التفكير وحقن مورثات شيطانية وجينيات تتناقض والتكوين الفيزيولوجي للإنسان، كما تتناقض مع سنن الحياة البشرية المعمول بها مذ عرفت البشرية ظاهرة المجتمعات المنتظمة والعمل على تحسين مستوى العيش وزيادة الرخاء والرفاهية بما ينسجم والقناعات الخاصة بكل مجتمع،
وهذا ما تعمل النيوليبرالية على نسفه وتحطيم روافعه واستبدال هذا الموروث الثقافي والقيمي والأخلاقي بثقافة
مستحدثة ومخالفة للفطرة الإنسانية بذريعة الحرية الشخصية في القناعات والسلوكيات
لتتحول تلك الحرية المتوهمة إلى اعتداء موصوف بتضمينها إمكانية الإساءة للآخرين
والاستهزاء برموزهم الدينية والتاريخية، وهذا ما ظهر بوضوح في حفل افتتاح مونديال باريس 2024
ولا يحق لحكومة ماكرون أو غيرها من الحكومات أن تستفز مشاعر الملايين بهذه الطريقة الفجة، وأقل ما يقال عنها غير أخلاقية
ولا تمت إلى الرياضة والأخلاق الرياضية والقيم الإنسانية بصلة
وهذا يفسر موجات الغضب والاستياء الفردي والجماعي من العرض الذي قدمه بعض الفنانين المتحولين جنسياً في محاكاة للوحة “العشاء الأخير”
التي أبدع في تكوين ملامحها دافنتشي عبر تصوير السيد المسيح ورسله الاثني عشر خلال العشاء السريّ
وبقيت اللوحة محافظة على أهميتها كتحفة فنية برمزية إنسانية سامية لدى جميع محبي السلام والتضحية لإنقاذ البشرية
وهذا دليل على أن من يقفون وراء تنظيم حفل افتتاح الأولمبياد
في باريس تعمدوا الإساءة للقناعات الدينية لجميع أنصار المسيح ومحبي ما قدمه للبشرية من قيم الحق والحب والخير والسلام
وإلا كيف يمكن فهم المقصود من قيام أحد المتحولين جنسيا بتجسيد شخصية السيد المسيح
وهو يرقص حيناً ويزحف حيناً آخر ويقوم بحركات بهلوانية
لا تخلو من إيحاءات جنسية تعبر عن المثلية الجنسية المطلوب استيعابها وتقبلها، لا بل تمثلها لتنتقل من الحالة الفردية إلى الجماعية
ومن المحلية الخاصة بمجموعات محددة إلى المجتمع البشري المتناقض سيرورة وصيروة مع كل مضامينها الساقطة أخلاقياً وإنسانياً؟
عندما تصل الأمور إلى هذا المستوى من الانحطاط المعرفي الأخلاقي والإنساني
في الألعاب الأولمبية التي يفترض أنها تمثل الذروة الأعلى والمحطة
الأكثر أهمية في كل ما يتعلق بالرياضة على المستوى العالمي
فهذا يعني أن الأهداف الخبيثة الكامنة في تلك اللعبة الشيطانية
أبعد وأعمق مما قد يخطر على الذهن، فالموضوع لا يقتصر على تشجيع المثلية
بل يمثل خطوة متقدمة على طريق فرضها لتغدو أحد مكونات طرائق التفكير
التي تحدد طرائق السلوك الإنساني… إنها معول هدم للحضارة الإنسانية، ومحاولة
لاستبدال الهوية ومكوناتها لتحل الغرائز البهيمية محل الحب والمشاعر الإنسانية الراقية، وتستبدل الذات الجماعية بـ “الأنا” المتورمة والمنغلقة على الشهوات والاستهزاء بالآخر، بل نكرانه وإقصاؤه ونفيه من الوجود وحقه في هذا الوجود…
إنها حلقة في سياسة تدميرية تعتمدها النيوليبرالية المتوحشة لتفكيك الأُسَرِ والدول والمجتمعات
ونسف السياسات الثقافية والاقتصادية والمجتمعية، ونماذج العيش الخاصة
بالدول تمهيداً لتجيير كل ما في الكون لخدمة أصحاب هذا النسق المعرفي الانتقائي
وتحويل الجميع إلى خدم وعبيد يعيشون ويتصرفون وفق الرغبات المرضية لقلة من أصحاب التفكير
الشيطاني ممن لا تعنيهم عذابات البشر، ولا الحفاظ على الجنس البشري
إلا بما يساهم في خدمة المهووسين بالسيطرة على العالم مهما كانت النتائج كارثية على البشرية جمعاء.
حوار موقع Pravda tv مع الدكتور حسن أحمد حسن
إعداد الإعلامي محمد أبو الجدايل _ خاص Pravda tv