ينطلق طرحنا لهذا الموضوع من فرضيَّتَيْنِ؛ الأولى أنَّ تعاظُم دَوْر التقنيَّة والابتكار سيصاحبه انحسار في عدد الوظائف الحكوميَّة والمشتغلين بها، أمَّا الثانية فإنَّ الدَّوْر القادم في عمليَّات التوظيف والمنافسة وإدارة ملف القوى العاملة الوطنيَّة ينبغي أن يتَّجهَ للقِطاع الخاصِّ، مع حضور قويٍّ للتعليم العالي الحكومي والخاصِّ، حضور الريادة والقيادة والتمكين والبناء والتطوير وإعادة هيكلة وهندسة برامجه المتَّجهة نَحْوَ المهارة، بحيث تتبنى سياسات التعليم العالي وخططه وبرامجه موجَّهات عمليَّة أكثر نضجًا في إدارة المهارة وبناء القدرات وتأصيلها وتنميتها وترقيتها وتعميق حضورها في فِقه المخرجات وتمكينها من نقل الخريج إلى مرحلة الإنتاجيَّة والتطبيقات العمليَّة، وتعظيم روح التغيير في ذاته وإعادة التثمير في مهاراته والتسويق لقدراته وصناعة الإنتاجيَّة في ممارساته والتسويق لذاته في الداخل والخارج، الأمر الَّذي من شأنه في ظلِّ عمليَّات الرصد والتشخيص والتحليل والقراءة والحدس والمسوحات أن يرسمَ صورة واقعيَّة للتخصصات الَّتي يحتاجها سُوق العمل وإكسابها مخرجاتها المهارات الناعمة والتقنيَّة والأساسيَّة، فإنَّ قدرة التعليم العالي على الوفاء بالتزاماته المُجتمعيَّة في ظلِّ وظائفه الثلاث، التدريس، والبحث العلمي، والمُجتمع، يضاف إِلَيْها الابتكار والريادة والإدارة الاحترافيَّة للمشاريع المرتبطة باقتصاد المعرفة وتنشيط حركة المُجتمع الاستثماريَّة، وإنتاجه اقتصاديًّا؛ مرهون بحجم ما يُولِيه للمهارات الناعمة من حضور في مساراته، وأجندته وعناصره؛ كونها طريق القوَّة الَّذي يضْمَن قدرته على تحقيق تعلُّم نشط، يتناغم مع أبجديَّات الحياة المهنيَّة للخريج، ويتفاعل مع الأولويَّات الوطنيَّة في مساهمة الجامعات في التنميَّة الوطنيَّة المستدامة، لذلك كان استيعاب التعليم لمهارات القرن الحادي والعشرين، وإعادة هيكلة مهارات مدخلاته من الدبلوم العامِّ لتتناغمَ مع حجم المرحلة وطبيعة التحوُّل فيها، مؤشِّرًا لجودته وقدرته على المنافسة، بما يفتحه لمخرجاته من آفاقٍ رحبة في إدارة مشروع المستقبل.
كما تضع مسألة تعاظم اقتصاد المعرفة ودَوْر التقنيَّة وشبكات الاتِّصال بالمؤسَّسات ودَوْر الإنترنت وقضايا الابتكار في الآلات والروبوت والذكاء الاصطناعي الحاصل بها والمعالجة السريعة الحاصة لإخفاقاتها عَبْرَ تنوُّع وتعدُّد التجارب، تضع مؤسَّسات التعليم العالي والجامعات في حالة من المراجعة المستمرة والبحث في العُمق عن مسارات أكثر تطوُّرًا ومهنيَّة تقرأ سُوق العمل ومهارات الخرِّيجين بصورة أكثر ابتكاريَّة واحترافيَّة وارتباطًا بالواقع، فإنَّ ملامح الاقتصاد الجديد يعتمد بالدرجة الأولى على تعظيم القِيمة المضافة للابتكار والتنظيم والإدارة، والاستخدام الأمثل للبرمجيَّات، والبرامج الإلكترونيَّة للمؤسَّسات للدخول بها في واقع الحياة المهنيَّة والاجتماعيَّة اليوميَّة، الأمر الَّذي يستدعي تصالح الإنسان مع التقنيَّة والآليَّات عَبْرَ إدماجها في حياته الدراسيَّة والمهنيَّة كمن خلال التعليم؛ باعتبارها رصيدًا بشريًّا لبناء مسارات التحوُّل في حياته، وتعزيز قوَّة التفكير والذَّكاء لدَيْه وتفاؤله بما يستجد من عظمة من تقدُّمه التقنيَّة من حلول مبتكرة لإدارة الواقع وإعادة إنتاجه وفق معايير العالَميَّة والاستدامة.
وبالتَّالي ما يُمكِن أن يُشكِّله ذلك من تحدِّيات مصحوبة بالابتكار وإنتاج الحلول وتوفير البدائل في تعظيم الفرص وتجدُّد الوظائف، على مستقبل التوظيف ودَوْر الدَّولة فيه، سواء في القِطاع الحكومي والقِطاع الخاصِّ، ما يضع القِطاع الخاصَّ تحديدًا؛ كونه أصبح طاردًا للوظائف بفعل التسريح، أمام مسؤوليَّة توليد الاستدامة في الوظائف، وعَبْرَ إعادة صياغة برامجه وخططه وتوجُّهاته وتقوية مسارات عمله، وبناء فرص وامتيازات أكبر تضْمَن الاستمراريَّة والابتكاريَّة في أدواته وبيئاته التشغيليَّة، في ظلِّ نوع الخبرة المطلوبة في المرحلة القادمة، وقدرته على خلق فرصٍ أقوى لبناء القدرات والمنافسة فيها، وما يُمثِّله ذلك من تبعات على مؤسَّسات التعليم العالي والجامعي في أن توسِّع من دائرة العمل المتقن الَّذي يربط بَيْنَ السلوك التعليمي الممارس في قاعة التدريس والمختبرات وحلقات العمل بالمهارة الناتجة عَنْها، إذ كُلَّما التصقت الممارسة التعليميَّة بجدار الواقع ونقلت المتعلم إلى دَوْر الفاعل والمؤثِّر والمبتكر والمخترع والمستكشف والمنتج والمسوِّق لممتلكاته من المهارات والقدرات والذَّكاء، كان المنتج التعليمي أكثر تقنينًا وفاعليَّة في أداء مُهمَّته بحجم ما يمتلكه من مهارات أصيلة وخبرات مجربة وقدرات وأخلاقيَّات في ميدان العمل والإنتاجيَّة والمنافسة.
هذا الأمر من شأنه أن يُعزِّزَ من فرص التثمير في الكفاءة الوطنيَّة العالَميَّة بحيث لا يقتصر دَوْرها على إعداد مخرجات لسُوق العمل المحلِّي؛ بل أن تتسعَ نظرتها لتشملَ إعداد الخرِّيج للمشاركة في سُوق العمل العالَمي الَّذي يدير أرصدته اقتصاد المعرفة والمنافسة المهاريَّة والتسويق للكفاءة والخبرة الوطنيَّة، وعَبْرَ علاقة أدوم وأنضج بَيْنَ التعليم والمهارات وسُوق العمل، وأحداث تجديد في الفلسفة والآليَّات والتخصُّصات والبرامج ونُظُم التقويم، بما يعني الحاجة إلى تأسيس آليَّات واضحة وإطار مؤسَّسي هدفه مراقبة التطوُّرات الحاصلة في سُوق العمل للوقوفِ على طبيعته ونَوْع الطلب على الكفاءة الوطنيَّة والتخصُّصات، والتعاطي مِنْها في ظلِّ تشريعات مَرِنة وأنظمة حوافز مناسبة، وثقافة مؤسَّسيَّة تضْمَن تحقيق معايير الإبداع والتجديد والابتكار، وإتاحة الفرصة للجامعات في تطوير برامجها الدراسيَّة والتدريبيَّة وتطويعها لتنسجمَ مخرجاتها مع احتياجات سُوق العمل المُتجدِّدة والتخصُّصات العلميَّة والتقنيَّة والفنيَّة والمهارات، ونَوْع الوظائف الَّتي قد لا تتوافق مع طبيعة المستقبل، هذا الأمر يستدعي أيضًا مراجعة مقنَّنة لآليَّات عمل مركز القَبول الموَحَّد بشأن خيارات الطلبة والتخصُّصات المطروحة له، وآليَّة احتساب المعدَّل التنافسي وعلاقته بقَبول طلبة الدبلوم العامِّ في الجامعات داخل سلطنة عُمان وخارجها.
إنَّ من شأن هذه المراجعات في أنظمة التعليم أن تنعكسَ إيجابًا على منظومة التشغيل والوظائف وعَبْرَ تبنِّي معالجات نوعيَّة تقف على مسار التباين الحاصل في منظومة التوظيف، خصوصًا في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، وأعداد المسرَّحِين من القوى العاملة الوطنيَّة من القِطاع الخاصِّ، مع استمرار ارتفاع القوى العاملة الوافدة واستحواذها على الوظائف الهندسيَّة والأساسيَّة والعُليا وتحكمها في الكثير من مصادر الإنتاج، ما يؤكد الحاجة إلى قراءة هذا التباين عَبْرَ تبنِّي سياسات وطنيَّة أكثر احترافيَّة ومهنيَّة وواقعيَّة تصحح المسار وتُعيد إنتاج الوظائف وتصنع من دَوْر التعليم العالي والجامعي محطَّات تحوُّل جديدة في إطار تقييم التخصُّصات الحاليَّة وإعادة دمج بعضها أو إيقاف بعضها الآخر أو استحداث تخصُّصات القِيمة المضافة الَّتي تقترب من الذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات الحديثة والطاقة المُتجدِّدة، مع التأكيد على أهميَّة إعادة ضبط مسار الأنسنة في التخصُّصات الاجتماعيَّة والطبيَّة والهندسيَّة بالشكل الَّذي يضيف إلى تخصُّصاتها المهارات النَّاعمة الدَّاعمة لِدَوْرها المُتجدِّد في المُجتمع الوظيفي القادم.
أخيرًا، تبقى الإشارة إلى أنَّ القِيمة المضافة المنتِجة للكفاءة الوطنيَّة من حيث إدارة نُظُم المنافسة والتسويق سيدخلها التغيير أيضًا، فالتسويق القادم سيكُونُ من الفرد نَفْسه وتعظيم قدراته واستعداداته ونشاطاته ودخوله للتجربة وقَبوله بها، وهو أمر يتطلب أهميَّة تهيئة المُجتمع للتعامل مع هذه المعطيات وفهمِ حدودِ الدَّولة وإمكاناتها في عمليَّات التشغيل واستقطاب المواطنين، وحجم القوى العاملة الوطنيَّة الَّتي يستوعبها القِطاع الحكومي في مواجهة حالة الترهل، ما يؤكِّد على أهميَّة تقييم مبادرات وتجارب أنماط التوظيف لتتماشَى مع الثقافة العُمانيَّة والصورة الَّتي تقرأ فيها الوظيفة العامَّة، بالإضافة إلى أنَّ زيادة فرص الالتحاق في التعليم العالي ورفع عدد البعثات الداخليَّة والخارجيَّة وغيرها، لا يعني أن تتوافرَ الظروف نَفْسها لالتحاق الباحثين عن عمل في القِطاع العامِّ، في حين أنَّ على القِطاع الخاصِّ مسؤوليَّة إعادة صياغة برامجه وخططه وتوجُّهاته وتقوية مسارات عمله، وبناء فرص ومحفِّزات أكبر تضْمَن الاستمراريَّة والابتكاريَّة في أدواته وبيئاته التشغيليَّة، وهو أمر يتَّجه بِدَوْر المؤسَّسات إلى تأطير مسار الرقابة ومنهجيَّة المتابعة والتطوير، سواء في الوظائف الَّتي تتطلب جهدًا عضليًّا أو مساحات من التفكير وإعادة برمجه الواقع وهندسته أو تحويل البيانات إلى معلومات حيَّة تؤسِّس لمستقبلِ التنمية وتبنِّي محطَّات النجاح، كما أنَّ اتِّجاه العمل سيكُونُ من الأعلى إلى الأسفل بمعنى أنَّ الشواغل الَّتي تحتاجها المؤسَّسات؛ إنَّما يتركز الجزء الأكبر مِنْه في الميدان وليس في مكاتب ديوان عام الوزارات أو المراكز الرئيسة، كما أنَّ الاتِّجاه إلى الشركات والقِطاع الخاصِّ لإدارة متطلبات العمل سيكُونُ هو الخيار الأمثل لمُشْكلات الترهل الوظيفي بالقِطاع الحكومي، ومنح ريادة الأعمال، والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة وبيوت الخبرة الوطنيَّة والشركات الناشئة والطلابيَّة الدَّوْر الأكبر في التعامل مع متطلبات المرحلة القادمة.
د.رجب بن علي العويسي