إن الفقه والاستنباط يعد من أعظم العلوم الإسلامية التي تقوم على فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث يسعى العلماء إلى استخراج الأحكام الشرعية والقيم الإسلامية من هذا الكتاب العزيز، كما يُعتبر القرآن الكريم مصدراً رئيسياً للتشريع، وقد حظي باهتمام كبير من العلماء الذين بذلوا جهوداً جبارة في تفسيره وإظهار ما يحتويه من إعجاز بلاغي وحكم ومحسنات.
كما أن القرآن الكريم يتميز بأسلوبه البلاغي الفريد الذي لا يمكن محاكاته، وقد أظهر العلماء ذلك من خلال استعراض الآيات القرآنية واستنباط الأحكام منها، فعلى سبيل المثال، في قوله تبارك وتعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ” (النساء: 1)، يتبين لنا مدى عمق الخطاب القرآني وشموله لكل البشر، مع الإشارة إلى وحدة الأصل البشري كمصدر للتقوى والخشية من الله تبارك وتعالى، ويشير العلماء هنا إلى أن هذا النص يؤكد على المساواة بين البشر والدعوة إلى التقوى كقيمة أساسية في العلاقات الإنسانية.
وقد تناول العلماء هذه القضايا بعمق، مستعينين بعلوم اللغة العربية وبلاغتها لفهم دقيق لمعاني الآيات، الإمام الشافعي، على سبيل المثال، أبدى اهتماماً خاصاً بالقرآن الكريم وتفسيره، مؤكداً أن أي حكم شرعي يجب أن يكون مستنداً إلى نصوص القرآن أو السنة، وأن اللغة العربية هي مفتاح لفهم النصوص الشرعية بدقة.
كما يُظهِر القرآن الكريم الحكمة في تشريعاته، فمثلاً في آية الميراث: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ” (النساء: 11)، هنا نجد حكمة إلهية في توزيع الأنصبة بما يحقق العدالة الاجتماعية ويضمن الاستقرار الأسري، وقد أشار العلماء المسلمين إلى أن هذا التوزيع ليس مجرد تقسيم للمال، بل هو نظام شامل يهدف إلى حفظ مصالح الجميع.
وبذلك يتجلى الإعجاز البلاغي في القرآن من خلال استخدام الأساليب اللغوية المتعددة مثل التشبيه، والاستعارة، والكناية، والجناس، مما يجعل النص القرآني معجزاً في بيانه وأسلوبه، ويستدل العلماء بقوله تعالى: “فَصَبْرٌ جَمِيلٌ” (يوسف: 18) كدلالة على الكناية، حيث يعبر عن الصبر بصفة الجمال، ما يعطيه بُعداً بلاغياً عميقاً.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن القرآن الكريم ليس فقط كتاباً دينياً، بل هو أيضاً مصدر لا ينضب من البلاغة والحكمة والتشريع، وقد تمكن العلماء عبر العصور من استخراج كنوزه واستنباط أحكامه بجهود مضنية، مؤكدين بذلك عظمة هذا الكتاب وعمق تأثيره في حياة المسلمين، وفيما يلي نستكمل تفسير الآيات المباركة من سورة النمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ.
في هذه الآيات، يُحكى عن قصة قوم النبي صالح عليه السلام، الذين اتفقوا على قتل نبيهم وأهله غدراً في الليل، وقد قالوا: “تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ”، أي أنهم أقسموا بالله وتعاونوا فيما بينهم على أن يهاجموا صالحاً وأهله ليلاً فيقتلوهم جميعاً، ثم يبررون فعلتهم بقولهم لولي الدم: “ما شهدنا مهلك أهله” أي لم نكن حاضرين عند موتهم، “وَإِنَّا لَصَادِقُونَ” ويؤكدون صدقهم في ذلك كذباً.
ثم يذكر الله تبارك وتعالى أن هؤلاء المجرمين قد مكروا مكراً عظيماً، “وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” أي أنهم خططوا وتآمروا، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم بمكره فدبر لهم ما يجهلونه من العقاب، بعد ذلك، يبين الله تبارك وتعالى العاقبة التي حلت بهم: “فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ”، فكانت نتيجة مكرهم أن الله دمرهم جميعًا، هم وقومهم بسبب ظلمهم وعدوانهم.
ثم يشير إلى البيوت التي كانت عامرة بأهلها فأصبحت خالية بسبب ما اقترفوه من الظلم: “فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”، فبيوتهم الفارغة الآن تعتبر آية وعبرة لمن يتدبر ويعقل، ويختم الله الآيات بذكر إنجائه للذين آمنوا واتقوا: “وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”، فيذكر أنه نجا الذين كانوا يتبعون طريق الحق ويتقون الله.
ثم يذكر النبي لوط وقوله لقومه الذين كانوا يمارسون الفاحشة: “وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ”، مستنكراً عليهم فعلهم القبيح مع علمهم بأنه منكر وضلال.
كما أن هذه الآيات الكريمة تحمل في طياتها العديد من العناصر اللغوية والجمالية، والتي تتجلى في الأسلوب البلاغي البديع الذي استخدمه القرآن الكريم، وفيما يلي استعراض لبعض هذه العناصر والجماليات:
القَسَم والتوكيد: “تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ”: استخدام القسم (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ) والتوكيد (لَنُبَيِّتَنَّهُ) يُظهِر شدة عزمهم وإصرارهم على فعل الشر.
التوكيد بالأداة “إنَّا””:وَإِنَّا لَصَادِقُونَ”: استخدام “إنَّا” ولام التوكيد لتأكيد كذبهم وتضليلهم للوليّ.
الجناس: “وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا”: استخدام الجناس في تكرار كلمة “مكر” لإبراز التناقض بين مكرهم ومكر الله عليهم، وإظهار أن الله تعالى أقوى تدبيراً.
الأسلوب البلاغي في التصوير: “فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ”: استخدام فعل الأمر “انظر” يدعو إلى التأمل والتفكر في نهاية الظالمين.
التعليل والتفصيل: “أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ”: تفصيل نتيجة المكر الإلهي بتدميرهم وقومهم، مما يعطي تصورًا كاملًا لحجم العقوبة.
التأكيد بالاسم الموصول “الذين” : “وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”: استخدام الاسم الموصول “الذين” لتمييز المؤمنين المتقين، وإبراز عناية الله بهم.
التكرار: “مَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا”: تكرار لفظ “مكر” يعزز الفكرة ويوضح مدى التلاعب والمكر في الحدث.
الوصف البليغ: “فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا”: وصف البيوت بأنها خالية وخاوية يعبر عن حجم الدمار والعقاب الذي حل بهم.
الاستفهام الاستنكاري: “أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ”: استخدام الاستفهام الاستنكاري لإبراز قبح الفعل الذي يرتكبونه وهم يعلمون ذلك.
المفارقة: في قوله: “مَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا” تكمن مفارقة بين مكر البشر ومكر الله، حيث يوضح قدرة الله على تدبير الأمور.
الربط بين السبب والنتيجة: “فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ”: الربط بين مكرهم والعاقبة المدمرة يجعل القارئ يدرك العلاقة المباشرة بين الظلم والعقاب.
الإيجاز: “وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”: الإيجاز في ذكر نجاتهم يعكس سرعة وعدل التدخل الإلهي لحماية المؤمنين.
بالتالي، إن هذه العناصر مجتمعة تُظهر البلاغة القرآنية وجماليات اللغة العربية في تصوير الأحداث والمعاني بطرق بديعة ومؤثرة.
وفي ختام هذا التأمل في الآيات القرآنية، ندرك عظمة القرآن الكريم وجمال بلاغته وروعة أحكامه، إن هذا الكتاب العزيز ليس مجرد كلمات مكتوبة، بل هو نور هداية يضيء دروب البشرية، ومصدر حكمة لا ينضب، وشهادة على قدرة الله تبارك وتعالى وعظمته، بالتالي نتأمل في تلك القصص والعبر لنستلهم منها قيم الإيمان والتقوى، ونتعلم أن الله سبحانه وتعالى يمكر بالماكرين وينجي المؤمنين المتقين.
فلنتدبر القرآن الكريم ونسعى إلى فهم معانيه وغاياته، فهو الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين، يحمل في طياته رسائل خالدة لكل زمان ومكان، وما أروع أن نختم بتلك الآية التي تلخص رسالة القرآن الكريم: “إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا” (الإسراء: 9).
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وأن يمنحنا الفهم العميق والحكمة في استنباط أحكامه والعمل بها، وأن يحشرنا يوم القيامة مع الذين قال فيهم: “الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”.. آمين يا رب العالمين.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.