عِندما تفشَلُ الأُمم المُتَّحدة في حماية القانون الدّولي وحماية حقوق الإنسان، وعِندما تفشَل في حفظِ الأمْنِ والسِّلم الدّوليَّيْنِ، وتعجز عن حماية الأبرياء والمَدَنيِّين، فمن المؤكَّد أنَّ هذا النِّظام العالَمي لا يملك القدرة على توفير الحماية لِنَفْسِه من الانهيار، وباتَ فاقدًا القدرةَ على البقاءِ في حُكمِ العالَم. وهُنَا لا بُدَّ أن ينزلقَ العالَم لمواجهةٍ كُبرى وحربٍ عالَميَّة ثالثة تفرزُ نظامًا عالَميًّا جديدًا، وقد باتَ ذلك وشيكًا في ظلِّ التَّداعيات الأمنيَّة والقانونيَّة الخطيرة، وعدم قدرة الأُمم المُتَّحدة على حماية ميثاقها. وللأسفِ الشَّديد، أنَّ الدوَل المنتصِرة في الحرب العالَميَّة الثَّانية الَّتي أنشأت النِّظام العالَمي الرَّاهن هي مَن يقومُ بتدميرِ هذه المنظومة العالَميَّة.
الدوَل الفاعلة في النِّظام العالَمي القائم ـ وعلى رأسها الولايات المُتَّحدة ـ تتحمَّل كاملَ المسؤوليَّة الدّوليَّة للعبَثِ بهذا النِّظام العالَمي، فهي الَّتي توفِّر الغطاءَ السياسي لجرائمِ الكيان الصهيوني المُجرِم، بل سانَدَتْهُ عسكريًّا في توسيع جرائمِه، وأسْهَمَتْ في غياب العدالة والقانون الدّولي، وامتهانِ الكرامة الإنسانيَّة، وانتهاك حقوق الدوَل والشُّعوب، لا سِيَّما في أبرز القضايا العالَميَّة (القضيَّة الفلسطينيَّة)؛ ممَّا ولَّد حالةً من عدمِ الثِّقة لدَى الدوَل والشُّعوب في تطبيقِ القانون الدّولي أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضَى. وتجدُر الإشارةُ هُنَا إلى أنَّ الأُممَ المُتَّحدة أصدرت قراراتِ وقفِ إطلاقِ النَّار في العدوان البَربريِّ الهمجيِّ الَّذي تجاوزَ عشرةَ أشْهُر على قِطاع غزَّة، لكنَّها لم تستطِعْ تفعيل قراراتها الَّتي صدَرَتْ عَبْرَ مجلسِ الأمْنِ أو الجمعيَّة العامَّة أو عَبْرَ المحاكم الدّوليَّة الَّتي أنشأتها فتجاوزَ الأمْرُ كُلَّ الحدودِ، ما أسْهَمَ في نسْفِ قواعد القانون الدّولي.
استهداف القيادات السياسيَّة والعسكريَّة والعلميَّة بعمليَّات اغتيال يتمُّ الإشراف عَلَيْها بشكلٍ رسميٍّ من قِبل الكيان الصهيوني المارق، وعن سبقِ إصرارٍ وترصُّد، مع العِلم أنَّ الكيان الصهيوني نفَّذَ عددًا من الاغتيالات السياسيَّة منذُ بدايةِ احتلالِ فلسطين، وهو مستمرٌّ في سياسة الاغتيالات، كما هو مستمرٌّ أيضًا في اجتياح المُدُن الفلسطينيَّة، والاعتداء على الأبرياء بالقتلِ والتَّعذيب، ويُنفِّذ سياسة الاعتقال بفرضِ القوَّة القاهرة، وقد وصلَ عددُ الشُّهداء بَيْنَ الأسرَى بفعلِ عمليَّات التَّعذيب أكثر من (60) مواطنًا فلسطينيًّا منذُ السَّابع من أكتوبر الماضي، مِنْهم نساء وأطفال قُصَّر، فماذا يعني ذلك؟!!
الدوَل المنتصِرة في الحرب العالَميَّة الثَّانية الَّتي انتهتْ عام 1945 تلا ذلك تشكيل نظام عالَمي جديد (الأُمم المُتَّحدة) للأسف، هذه الدوَل هي الَّتي تكرِّس الظُّلم العالَمي وغياب العدالة الدّوليَّة بشكلٍ سافِر، وأشعلتِ الحروب والاعتداء على الدوَل والشُّعوب.. فكم من الحروب الَّتي خاضتها الولايات المُتَّحدة وما تبعَها من مآسٍ وآلام منذُ استخدام القنابل النوويَّة على ناجازاكي وهيروشيما باليابان، واحتلال الدوَل بالقوَّة العسكريَّة القاهرة بمُسوِّغات وافتراءات كاذبة تُقدَّم على منصَّة مجلس الأمنِ، ثمَّ تذهب منفردةً خارج نطاق ما يُسمَّى الشرعيَّة الدوليَّة لِتشعلَ الحروب على الدوَل وفرض الأمْرِ الواقع، فهل هذه هي عدالة السَّماء؟! وهل بعد كُلِّ هذه الخطايا والانتهاكات والعبَث بالحياةِ الإنسانيَّة وقتلِ الأبرياء تنشدُ الولايات المُتَّحدة السَّلامة والنَّجاة لها وللعالَم؟!!
نعلم أنَّ القانون في أيِّ نظامٍ وضعيٍّ عالَمي يتبنَّى مصالح الدوَل المنتصِرة الَّتي وضعتْهُ ليحكمَ العالَم بالقانون ومراعاة المصالح الدوليَّة، ولكن تحوَّل هذا النِّظام إلى تكريس الظُّلم العالَمي، وتتعمَّد الدوَل الرَّاعية له المشاركةَ في تنفيذِ العدوان كما هو الحال في قِطاع غزَّة منذُ السَّابع من أكتوبر العام الماضي وحتَّى اليوم، فأصبحتْ هذه الدوَل أداةً طيِّعة في خدمة المشروع الصهيوني الَّذي تأسَّس منذُ عام 1897م في مؤتمر بازل بالمؤتمر الصهيوني الأوَّل والَّذي قام على اغتصاب حقوق الشَّعب الفلسطيني.
ما يحدُث في أوكرانيا بإشعالِ حروبٍ بالوكالة يُسهم أيضًا في تهديد السِّلم الدّولي بدلًا عن الدِّفاع عَنْه؛ لذلك فإنَّ العالَمَ اليوم يُدفع دفعًا نَحْوَ المواجهة الكبرى الَّتي أوشكت على الاشتعال. وكما هو معلوم فإنَّ الحرب العالَميَّة الأولى اشتعلت بسببِ اغتيالِ وليِّ عهد النّمسا، والحرب العالَميَّة الثَّانية اشتعلتْ بعد غزو ألمانيا لبولندا، ورُبَّما أنَّ مُقدِّمات الحرب العالَميَّة الثَّالثة قد بدأت بالفعلِ. فالعالَم أصبحَ على صفيحٍ ساخنٍ، والاصطفاف العالَمي اليوم في محاور على أهبة الاستعداد للإطاحة بالمحور الآخر في حالةٍ عالَميَّة أخطر من الحرب الباردة، كما أنَّ العدوان الهمجي على قِطاع غزَّة وتنفيذ سياسة الاغتيالات للقيادات السياسيَّة والعلميَّة والعسكريَّة، وانتهاك السِّيادة والكرامة للدوَل دُونَ أيِّ رادع أو إجراء تحقيق دولي يدلِّل على غياب الأمان العالَمي، وهذا بحدِّ ذاته يكرِّس حالةَ الفشلِ الَّتي تكتنف المشهد العالَمي كُلَّه، وهي مؤشِّرات تدلُّ على انفلات العَقدِ العالَمي، وغياب الأُسُس والقواعد الَّتي تأسَّس عَلَيْها النِّظام العالَمي كُلّها تُنذر بالخطر وكفيلة بإشعالِ الحربِ العالَميَّة الثَّالثة الَّتي بدأت تقرع طبولها، وعلى الدوَل العربيَّة أن تحدِّدَ مواقفها المستقبليَّة وتكُونَ مستعدَّةً لأنسَبِ الخيارات قَبل وقوع الكارثة.
خميس بن عبيد القطيطي