سوريا، السودان، لبنان، العراق، الصومال… خمس دول أعضاء في جامعة الدول العربية، كل دولة منها لها حكاية “بلا بداية ولا نهاية” على رأي عمنا “نجيب محفوظ”، ومحاولة الدخول في التفاصيل – مجرد المحاولة – تشبه محاولة مجنون فهم نظرية “النسبية” لأينشتاين. ولعل التفاصيل لم تعد تهم الآن، وربما الوضع يشبه بيوتاً مشتعلة أو على وشك الاشتعال بحيث لا يفيد التوقف والتأمل والبحث والتدبير فيما كان في سالف العصر والأوان، أو لتبادل الاتهامات والاستمتاع بالمعايرة والشماتة. فما كان كان، ولم يعد لدى أحد ترف المماحكة والجدل، فالنيران مشتعلة أو تكاد، والمطلوب هو رؤية ما هو كائن وما قد يكون، وبعد ذلك قد يكون هناك وقت لأولئك المتقعرين كي يبكوا على الأطلال، أطلال البيوت المشتعلة!
هذا ما هو كائن الصومال لم تعد دولة، السودان يتوزع دمها بين القبائل، العراق على أهبة التشرذم، أما سوريا ولبنان… أما سوريا ولبنان… فهي على وشك أن تصبح بعضاً مما سبق.
لقد سبق أن أوضحت الآنسة “كوندليزا رايس” بعض ملامح “الفوضى البناءة” (Constructive chaos)، ولعل الجميع يعرفون ما هي الفوضى، فلا شك أنها سمة واضحة للعيان لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل. ولعلي أطلق عليها اسم “الفوضى المنتظمة” (Organized chaos)، وهي نوع من الفوضى التي أصبحت من طول المعاشرة جزءاً من النظام العام، ولا أظن أن أحداً يمتعض منها (سوى قلة مارقة لا تزال متعلقة بأفكار مثالية ليس هذا زمانها وليس هؤلاء ناسها). فهي الفوضى اللذيذة التي يتمتع بها الجهول والكسول وأكلة الفول، هي الفوضى التي يعمى فيها البصر والبصيرة، فالكل يعيش في بلهنية وليس أبدع من ذلك لاستقرار الحال والدوام، فوضى بلا رابط أو ضابط، أو بالضبط “مولد وصاحبه غايب” كما يقول أهل البلد.
الآنسة “رايس” فهمت “الفولة”، فهذه الفوضى اللذيذة رغم أنها قدمت أحلى الفوائد لأمريكا أثناء الحرب الباردة، إلا أنها الآن مصدر صداع، بل أكثر من ذلك مصدر طائرات تخبط في عمارات أمريكا الشاهقة، فلا مانع من الفوضى المحلية في هذا القطر أو ذاك، ولا مشكلة في الفوضى الإقليمية، ولكن تصدير الفوضى إلى أمريكا أمر محظور، حتى ولو قال أحد أن تلك بضاعتها ردت إليها!
فمثلاً لم يكن هناك مانع من خلق فوضى “الحرب المقدسة” على أرض أفغانستان إبان الاحتلال السوفييتي لها، حين كان خبراء المخابرات المركزية يرتلون على شباب المنطقة آيات الجهاد والشهادة، ويغذون أكثر التفسيرات تطرفاً وتهافتاً، فقد كان ذلك مطلوباً وبشدة، ولم يكن هناك مانع من مساندة الرجعية والسلفية (في السياسة والدين)، ولم يكن هناك مانع من تسليط أشعة الفوضى على فكرة القومية العربية، فذلك كله محمود ومرغوب آنذاك، وفي هذا الزمن الفوضوي اللذيذ كان “صدام حسين” طفل واشنطن المدلل، ولم لا؟ ألم يكن يقاتل بالنيابة عنهم وعن أهل الخليج حرباً ضروساً ضد إيران، ونجح أن يضرب عصفورين بحجر: حيث عطل مسيرة الثورة الإيرانية لمدة تناهز عشرة أعوام، واستنزف مقدرات الشعب العراقي التي كانت تؤهله كي يحتل مكانة مميزة في العالم، بل وأستطيع أن أضيف أن خدمات صدام الخاصة في هذا الصدد قد شطبت العراق من حسابات القوة العربية الشاملة (وقد كانت تلك مصلحة استراتيجية إسرائيلية بقدر ما هي أمريكية، وليس هناك فارق كبير على أي حال).
في زمن الفوضى المنظمة كانت واشنطن وغيرها من حواضر العالم المتحضر (أو الذي يصف نفسه بذلك) أبواقاً تردد شعراً ونثراً مديحاً في الاستبداد ورموزه، وهجاءً مريراً ضد حاملي مشاعل النور والحرية. كانت تلك الحواضر المتباهية بزخرف القول والمعاني الإنسانية ترسل أدوات القهر وتدرب السجانين وتبني الزنازين، وتتباهى بلا خجل باستقرار وجمال الشرق الأوسط، وسيولة بتروله، وصلابة إيمانه في مواجهة المد الشيوعي الملحد. حتى عند انكسار يونيو 1967 تبادلت تلك الحواضر أنخاب الأمل بمزيد من الفوضى المنظمة، أو المسيطر عليها (Controlled chaos).
إلا أن هذه الفوضى الممتعة – وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي – لم تعد بهذا القدر من المتعة، فلم يعد للغضب المكبوت متنفس تجاه شر “وهم التغلغل الشيوعي”، وفقدت المنطقة أهميتها الاستراتيجية من هذا المنظور، ولم يعد فيها ما يهم سوى أمرين بلا ثالث: البترول وإسرائيل.
وكان يمكن أن يبقى الحال على ما كان، لولا أن “العفريت” قد خرج من القمقم، وبدا أن المنطقة التي غسلوها من أدران القومية العربية على وشك أن ترتدي دروع الإسلام كي تتوحد تحت راية لديها منهج وطريق وتاريخ وتجارب. فوجئ الجميع بنظرية تتولد من بين هشيم “الفوضى المنظمة” بشكل فوضوي أيضاً ولكن بلا سيطرة (Uncontrolled chaos).
لذلك أدركت الآنسة “رايس” ومن لف لفها من أحبار “المحافظين الجدد” أن نعيم الفوضى المنظمة قد أوشك أن يتحول إلى جحيم، ومن بين الأدخنة المتصاعدة من توأمي برج التجارة العالمي في مانهاتن بزغ شعاع فكرة “الفوضى البناءة”، فهم لا يريدون نظاماً، أي نظام لهذه المنطقة، لأن ذلك خطر استراتيجي لا يقبلون به، فالمطلوب هو استمرار “الفوضى” ولكن بثوب جديد.
وبدأ البكاء على “الديمقراطية المسكوبة”، و”حقوق الإنسان المهدرة”، و”تمكين المرأة المغلوبة على أمرها”، و”حقوق الأقليات”، و”الفساد”… وهكذا أصبح مثلاً “صدام حسين” المدلل عدو البشرية رقم واحد، وأصبح الفكر الرجعي والسلفي مفرخة توليد الإرهاب، وهكذا بدأ الغناء على “نوتة” أخرى ولكنها تحمل نفس اسم سيمفونية الفوضى.
ومن أسس الفوضى أنه للخروج من وضع فوضوي إلى آخر، ينبغي أولاً تفكيك الموجود وتركيب المأمول، والتفكيك – بداهةً – لا يتم بين ليلة وضحاها، ولكن يجب أن يتم على كافة المستويات، والبداية تكون مع بعض المسامير الاستراتيجية على الخريطة (العراق، السودان، سوريا… إلخ)، بحيث تتطاير تلك الخريطة فلا يصعب خلخلة بعض المسامير الأصعب، وخلال ذلك يتم تفكيك الفكر السائد وتركيب فكر مناسب. لذا نجد “سوا” و”الحرة” وبعض منظري “الوقوعية” من النخب العربية، وبتفكيك العراق مثلاً يتم تركيبه “الديمقراطي” بشكل يضمن استمرار الفوضى ولكن في شكلها المسيطر عليه، ونفس الوضع في السودان وهكذا دواليك (وهل هناك فوضى أكثر من شكلها الدموي الحالي في العراق؟!).
والحقيقة هي أن الواقع العربي أضعف من أن يصمد لهذا المخطط الجديد، فلا زالت آثار “داحس والغبراء” تحكم عقول القبائل، رغم أن النيران التي اشتعلت في بعض البيوت العربية توشك أن تمتد إلى غيرها، وكأن الجميع ينتظرون زمن الأطلال كي يبكوا عليها، بينما تضحك الآنسة “رايس” وعصبتها لنجاحهم في تسويق بضاعة “الفوضى البناءة” في أسواق الشرق الأوسط التي اشتهرت بالشطارة في الفصال والجدال، ولكنها اعتادت مع ذلك على أن تبيع رخيصاً وتشتري غالياً، والمزاد اليوم معقود لبيع شقيق عربي آخر….
(هذا المقال أظنه واحداً من المقالات التي تمثل لي أهمية خاصة. كتبته في خريف 2003، أي مضى على كتابته واحد وعشرون عاماً، ولا يزال صالحاً للقراءة!).
معصوم مرزوق