غاب سؤال مهم عن كثير من المراقبين والمهتمين بالتعرف على المسارات المحتملة للصراع في المنطقة عقب جريمة اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس». السؤال الذي نعنيه هو : لماذا تعمدت إسرائيل اغتيال إسماعيل هنية في طهران، بل وفي قلب أهم مواقع «الحرس الثوري» الإيراني حيث كان يقع مقر استضافته؟
لماذا لم تغتله إسرائيل حيث يقيم في قطر، أو لماذا لم تغتله في إحدى زياراته الخارجية وقررت اغتياله في طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟
والجواب الدقيق أن هدف الاغتيال لم يكن إسماعيل هنية بل كان إيران، بمعنى أن إسرائيل التى اغتالت القائد العسكري الكبير لـ «حزب الله» فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية ببيروت قبل ساعات فقط من اغتيال إسماعيل هنيه في طهران، لم يكن هدفها الحقيقي مجرد اغتيال رمزين كبيرين وقائدين مميزين في «محور المقاومة»، ولكن الهدف كان محاولة إسرائيلية مستميتة للخروج من «المأزق الاستراتيجي التاريخي» الذى وجدت نفسها تغرق فيه بسبب ما أحدثه هجوم «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023 من تصدعات هائلة في «الردع الاستراتيجي» الإسرائيلي، وتداعيات في الهيبة والمكانة الإقليمية لإسرائيل، بل وللدور الوظيفي التاريخي لكيان الاحتلال بالنسبة للمصالح والأمن القومي الأمريكيين حيث بدت إسرائيل أنها لم تعد قادرة على القيام بمهمة الدفاع عن تلك المصالح .
كان أمام بنيامين نيتانياهو المستميت في الحصول على نصر، «أي نصر» يسترد به الهيبة المتداعية لحكومته ولشخصه ولكيان الاحتلال أحد خيارين؛ إما تحقيق هدفه الذي سبق أن حدده مبرراً لحرب الإبادة والتجويع ضد الشعب الفلسطيني طيلة ما يزيد على الـ 300 يوم وهو القضاء نهائياً على حركة حماس سياسياً وعسكرياً ، وفرض الحكم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، وإما البحث عن «نصر في الخارج» وتوسيع دائرة الصراع ليتحول من صراع إسرائيلي – فلسطيني إلى صراع إقليمي تتعدد أطرافه ، وتتشتت فيه المسئوليات، حتى لا تبقى إسرائيل «تحت المقصلة»، أي الخروج من وهم و«مأزق النصر المستحيل» في قطاع غزة .
متابعة حالة «اليأس» من تحقيق النصر في غزة، تكشف أن إسرائيل أرادت أن تخرج من المأزق التاريخي وأن تحرر نفسها من تبعاته بتورط الجميع في «حرب إقليمية موسعة» لا يريدها أحد خاصة الولايات المتحدة وإيران . الجنون الذى أصاب القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية بعد الاختيار الجماعي للقائد يحيى السنوار خلفاً للشهيد إسماعيل هنية وزعيماً لحركة «حماس» ودفع وزير الخارجية الإسرائيلي «يسرائيل كاتس» إلى المطالبة باغتيال السنوار، كما دفع قوات الاحتلال إلى قصف مركز إيواء المدنيين في مدرسة «التابعين» في قطاع غزة الذى راح ضحيته أكثر من 120 شهيداً أغلبهم من الأطفال الذين احترقت أجسادهم وتقطعت أوصالهم، وقبله الدعوة العنصرية لزعيم الاستيطان والصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش وزير المالية إلى «تجويع مليوني فلسطيني في قطاع غزة حتى الموت» تؤكد كلها أن إسرائيل انهزمت في غزة، وأن الهزيمة سوف تدمر كيان الاحتلال من داخله بشهادة الكثيرين من المفكرين والاستراتيجيين الإسرائيليين على نحو ما لخصه «عيران عتصيون» نائب رئيس المجلس الأمنى الإسرائيلي السابق بعد 300 يوم من الحرب في غزة. عتصيون قال أن إسرائيل تواجه وضعا استراتيجيا خطيرا ومتعدد الأبعاد سياسية واستراتيجية وأمنية وأخلاقية واقتصادية، وأن الفجوة تتسع يبن الطبقة الحاكمة وجمهور «الشعب الإسرائيلي»، وأن رئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو الذى يدرك حجم وأبعاد الفشل قرر زيادة حجم الرهان بإشعال حرب إقليمية يجبر إيران والولايات المتحدة على الانجرار فيها.
إذن «الحرب الإقليمية الموسعة» بين كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران وحلفائها في «محور المقاومة» هي قرار إسرائيل للخروج من المأزق التاريخي. لكن مشكلة إسرائيل أن الولايات المتحدة غير مهيأة للتورط في مثل هذه الحرب لانشغالها بالحرب في أوروبا ضد روسيا في أوكرانيا، ولأولوية خيارها الاستراتيجي بالتوجه نحو منطقة آسيا – الهادي حيث الصراع الأهم مع الصين، لذلك كان القرار عند نيتانياهو هو «توريط الولايات المتحدة عنوة» في هذه الحرب باختلاق السبب الذى يقنع واشنطن بالدخول في الحرب ضد إيران ومن هنا جاءت جريمة اغتيال إسماعيل هنية.
المدير السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية والباحث في «معهد دراسات الشعب اليهودى» آفي جيل أكد أن الهدف الحقيقى والنهائى حاليا لرئيس الوزراء الإسرائيلى والطبقة الحاكمة المنتمية إلى اليمين التوراتى المتطرف هو «جر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران»، وقال إن «تل أبيب تشعر بقلق شديد لأن كلا الحزبين الديمقراطي والجمهورى لا يود الانخراط في مواجهة مع إيران ويفضل سياسة الاحتواء معها». وأن نيتانياهو يعتبر الأشهر الثلاثة المتبقية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة «هي الفرصة الأخيرة أمام إسرائيل لتوريط أمريكا في حرب إقليمية ضد إيران لأن إسرائيل لا تستطيع أن تحارب إيران منفردة».
رهان نيتانياهو يتوقف الآن على مدى إدراك القيادة في إيران وحزب الله أن كل ما يحدث لهما من استفزازات إسرائيلية هي «خطة مدبرة» للإيقاع بهما في حرب موسعة مع الولايات المتحدة هدفها تدمير قدراتها النووية .
حسابات إيران شديدة الدقة والحرج بين ما يعتبر أولويات أيديولوجية والتزامات أخلاقية وبين ما يعد ضرورات سياسية . هل ستقع إيران في «المصيدة» المعدة لها؟
يبدو أن إيران أمام الاختبار الصعب بين ما هو مصلحة وما هو اعتبارات أيديولوجية ولعل هذا ما يفسر أسباب التريث الإيراني في الرد على اغتيال إسماعيل هنية.
د. محمد السعيد إدريس